لنبدأ أولا بالجزء المليء من الكأس. لا يمكن أن ينكر أحد التطور الكبير الذي عرفته حرية الصحافة في موريتانيا منذ ما عرف بـ "المسلسل الديمقراطي" الذي بدأ سنة 2005. وقد أكدت منظمة "مراسلون بلا حدود" في تقريرها السنوي الصادر الأربعاء أن الصحافة الموريتانية عرفت "عدة سنوات من التقدم العظيم".
لقد كان تحرير القطاع السمعي البصري والتحسينات الكبيرة التي أدخلت على قانون الصحافة مكسبا كبيرا للبلاد بشكل عام وللجسم الصحافي بشكل خاص. يحسب للرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز أنه واصل مسلسل تحسين حرية الصحافة الذي بدأ في عهد الرئيس الراحل أعل ولد محمد فال. وكثمرة لذلك، فقد حافظت موريتانيا لسنوات طويلة على ريادة حرية الصحافة في العالم العربي.
لكن رغم ذلك كله، ورغم أن موريتانيا لا تزال تتقدم بمراتب عديدة على أقرب منافساتها من الدول العربية في حرية الصحافة، إلا أن السنوات الماضية حملت مؤشرات واضحة على أن آفاق حرية الصحافة في البلد بدأت تضيق مقارنة مع ما كانت عليه. تقول "مراسلون بلا حدود" في تقريرها: "تراجعت حرية الصحافة في موريتانيا بشكل دراماتيكي منذ سنة 2014".
أوردت المنظمة على ذلك بعض الأمثلة ومنها إغلاق القنوات الخاصة في أكتوبر الماضي تحت ذريعة أنها لم تدفع مستحقات مالية للدولة.
نعرف جميعا أن مثل هذه المبررات التي تبدو في ظاهرها قانونية ولا تهدف إلا إلى تطبيق القانون، فإنها في الداخل تستخدم من قبل الأنظمة للحد من حرية الصحافة بشكل غير مباشر.
دعوني هنا أقدم مثالا أكثر بساطة، فعندما تمتنع مؤسسات حكومية عن نشر إعلاناتها التجارية على مؤسسة إعلامية ما رغم أنها كانت تفعل ذلك بشكل دائم، لكنها فجأة قررت التوقف من دون أسباب معلومة، فإن الأمر يبدو في ظاهره قانوني وعادي، فمن حق كل مؤسسة أن تختار الوسيلة الإعلامية التي تروج عليها، لكن الأمر هنا يستخدم من قبل الأنظمة لخنق الصحافة ماليا. الهدف المنشود هو الضغط على تلك الوسيلة الإعلامية بالمال للحد من حريتها.
إن حرية الصحافة في البلاد تصب في مصلحتنا جميعا ويجب أن تتسع لها صدور الجميع بغض النظر عن تصنيفاتهم الضيقة للصحافيين وحساسيتهم من الأصوات الناقدة. الصحافة خلقت لتنتقد. إنها تحب أن تعري كل شيء، فلا تخلطوا بين الصحافة والدعاية.
الدعاية خلقت لتمدح أو لتسب وتقذف حسب رغبة الحاكم. إنها تعمل بمنطق خادم السلطان الذي أثنى على الباذنجان ونعته بأبشع وأقذع الكلمات في جلسة واحدة. الدعاية خلقت لتستر عيوب السلطان عكس الصحافة التي تعشق هواية تعريته.
نحن اليوم نعيش في ظل تصاعد العداء لوسائل الإعلام من قبل السلطات الرسمية حتى في بلدان كانت ولا تزال مرتعا خصبا لحرية الإعلام. نرى اليوم زعماء دول تتمتع فيها الصحافة بآفاق حرية رحب للغاية يهاجمون وسائل الإعلام لمجرد أنها انتقدت سياساتهم أو لمجرد أنها لم تعزف على الوتر الذي يريدون.
لنحافظ جميعا على حرية الصحافة حتى لو ضاقت عنها صدورنا، أو أزعجت بعضنا أو جلنا أو كلنا. الصحافة ستكون دائما مزعجة لمن تزعجه الحرية. وحرية الصحافة في موريتانيا ستكون دائما مكسبا للحكومة والمعارضة والشعب، فليحافظ عليها الجميع، فهم رابحون بوجودها، خاسرون بغيابها أو الحد منها.