عشت في حياتي المتواضعة صنوفا قُلّبا من الشظف في العيش والرغد في الحياة؛ فقد بت مرات أيام المحظرة في البادية أفترش الرماد وأتوسد الخشب في الليالي القارسات وليس لي من غطاء غير لسعات زمهرير البرد وألسنة نار نصطليها للتدفئة.
وعشت الفقر المدقع في مرحلة ما بعد الجفاف، ورأيت كم هي الحياة قاسية وأنت تكابد لتحصيل قوت الظعائن، وتبدل الحال، ونزلت في أفخم الفنادق، وبت في خمائل الرتز - كارتن الإنتركونتننتل، والشيراتون، وجورج الخامس، وغيرهم من مشيخة الدرجة الأولى من الفنادق العالمية، ومشيت في الحدائق ذات البهجة، والشواطئ الجميلة، في الخليج، وأوروبا، والشام، وهمت في ضيعات الجنوب اللبناني، ومقاهي بيروت على نغم الحياة والجمال، وقفت في دمشق أتتبع دموع بردى وهي تذبل، وسمعت زقزقة العصافير في الغوطة قبل العبث بها، وشربت من ماء التمر من يد البائع على باب الحميدية، وصليت في الأموي، وزرت الرياض النضرة لبلال، وزينب، وصلاح الدين؛ ودعوت في مسجد خالد بن الوليد قبل أن تدمر حمص؛ وقفت مع التاريخ على ناصية قاسيون أرقب دمشق منسابة في حضنه؛ وتعشيت على صوت الأمواج التي تتكسر على ضفاف اللاذقية، ودارت بين يدي نواعير نهر العاصي في حماة.
وتأملت شموخ الجهاد في الجزائر ومتحفها الثمين، ومشيت على الجسور المعلقة في قسطنطينة، وسكنت في المدينة القديمة التي بنى الفرنسيون امتدادا لعاصمتهم قبل أن تنتزعها سواعد الثورة المجيدة الخالدة.
وشهدت سحر الغاب في تونس، وأصابني من رذاذ التاريخ على بوابة القيروان، وأشبعت شغفي الدائم ببلاد المغرب، فتتبعت الأزقة بفاس وجامعتها الألفية ومسجدها العامر، واقتنيت من مكتبات الرباط، وجلست في مقاهيها الفواحة بأريج التحضر وصناعة الحياة، وتبددت نفسي مع خيوط الشمس في حمرة مراكش، وقفت على جبل طارق محييا له وحزينا على الأندلس، وصليت في جامع الحسن الثاني التحفة الحضارية المبهرة.
وشربت القهوة في الشانزيليزيه، وأخذت الصور في قصر فرساي الأخاذ المبهر بحدائقه وغرفه الذهبية الفسيحة، ووقفت أمام كنيسة العذراء، وصليت في المسجد الكبير بباريز المدينة الفاتنة الفواحة، كما تتبعت أبهة السلاطين العثمانيين في "توب كابي" وكنت مشدوها لما تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين، وفي اسطنبول رأيت كيف تفعل الحضارات عند ما تتراكم، وتخيلت كيف جثت الربى من تلك المدينة على الركب إجلالا لمرقد أبي أيوب الأنصاري!.
واختلطت مع الصخب في قائلة قاهرة المعز، وتسلقت منها القلعة، وتأملت الأهرامات، وجالست إنسان مصر الطريف النابه، وتناولت معه الكشري، وشهدت الغروب على شاطئ الإسكندرية والأشعة تخترق زجاج مكتبتها العامرة، ورأيت كيف تمخر السفن عباب القناة، وزرت فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين بالمقطم.
لكن كل تلك التموجات في الحياة لم تنغرس في الذاكرة من أنعمها ويتقد من الشوق المبرح للقائها مثل الذي يحصل لي في موسم العمرة شوقا إلى أرض الحجاز، وما أدراك ما الحجاز! فعن أي المدن أتحدث؟ أعن مكة أم المدينة؟ عن أي عيني اللتين هما مني بمنزلة اليدين؛ (المدينة دار الحبيب صلى الله عليه وسلم، وأم القرى ومن حولها، جراب الكعبة المشرفة وموطن قطر الوحي من السماء).
فوالله الذي لا إله إلا هو ما ذقت طعماً لمال، ولا فطنت لنعمة يسر، كذلك المال الذي أنزل به في غرفة بجوار الحبيب صلى الله عليه وسلم، حين تتكوم عظامي فيها بعد رهق الجلال والسمو، وجسمي يتلاشى خجلا من موطن كان يمشي فيه بعيرٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، وتبركُ فيه القصواء، ويجتمع فيه أهل الصفة، ويؤذن فيه بلال، ويتبتل فيه أبو بكر، ويزأر فيه عمر، ويتحنث به عثمان، ويُعلم فيه علي، وينفق فيه ابن عوف، ويقود منه زيد فخالد.
كنت منذ عقدين من الزمن كل ما سنحت الفرصة وساعدت الظروف أتدبر أمر العمرة في رمضان، وهي متعة وأي إمتاع، ومؤانسة وأي إيناس، أمشي إليها مشي الظامئ العطشان وهرولة المحب الولهان، فتقر مني العين، ويهدأ الفؤاد، وتطمئن الروح، فأتزود من كل شيء في المدينة، فالمدينة كلها حرم وجمال، سماؤها، أرضها، جبالها الفوارع، وديانها، بساتينها.
أنا في المدينة أبكي كل شيء، وأتبرك من كل موضع، وآنس بكل موجود، وأتعجب كيف لبقعة واحدة أن تجمع من المجد وتضم من البركة وتشتمل من الآثار كذلك الذي في المدينة، فعند ما أدلف إلى المدينة في قشعريرة الرهبة، ورجفة الجلال، وخوف فوات التوقير لساكنها عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، أطلب من صاحب سيارة الأجرة الذهاب بي إلى أول مسجد أسس على التقوى، وأتخيل فيه النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بأمر من ربه ورجال الطهر يملؤون منه الزوايا، وأمشي لمسجد الجمعة، وأستغرب جهل الناس مكانه ومكانته والقدم الذي يحوز، فألتهم فيه اللحظات، وأستغل الصمت ولحظات الخلوة.
وفي وسط المدينة من جهة أحد مسجد صغير شبه مهجور اسمه مسجد المستراح، في ذلك المسجد استراح القلب المعنى للرسول صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي - يوم أحد، وكان قادما لتوه من المعركة، وإني لأتخيل لآلئ حسن من عرقه الشريف سقطت في تربة ذلك المكان والحصى ترتشف من جسمه الشريف متأدبة أن تغوص كما هو شأنها مع بقية الأجساد.
وفي المدينة مسجد القبلتين أهيم به وبتصديق الصحب الكرام وتغييرهم القبلة أثناء الصلاة وأذكر نعمة الله علينا إذ أكمل لنا الدين، ولم يبتلنا في الإيمان، وفي المدينة واد العقيق والذي هو من وديان الجنة، ولكنه جنة اليوم فهو ينضح بالسكينة ويورق بالجمال ويبعث على الطمأنينة.
أما الصحابي الجليل الذي ما زال حيا، أعني أُحدا، فأذهب إليه مستعيذا من حال من هو ضرسه في النار، ومتمنيا موقع من ساقاه أثقل من أحد يوم القيامة في الجنة.
في إحدى مغاراته يقال إنه نال شرف الجلوس منه صلى الله عليه وسلم، ولو لبرهة، وعند وصولي إليه رفضت تأدبا مع المقام أن أجلس فيه كالذي يفعل العوام حيث يأخذون فيه الصور، بل مرغت فيه وجهي رجاء من ربي ألا يخزيه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.
أما أن أحدثكم عن الحرم النبوي وداخله فالصمت في حرم الجمال جمال، فذلك ما لا أستطيعه، هل لي من البيان ما أعبر به عن خلجات النفس، وجلال الموقف، وسمو اللحظة! من أنا حتى أصور لكم إحساسي بل ذوباني في الروضة! هل أنا عاجز الحال رقيق التدين ضئيل التعبد أجلس في الروضة روضة من رياض الجنة! وجسمي ملتصق بمكان يأوي الجسد الشريف! هل أستحق القعود هنالك ثم الدنو من جنابه وبهائه الشريف؟ هل حقا أنا في يقظة أم في منام! كل الذي أستطيعه هو الاعتراف بقوة أئمة الحرم ومؤذنيه، الأئمة الذين يقرؤون القرآن على مسمعه وهو متلقيه الأول، والمرسل به من ربه، وكذا المؤذنون الذين يقولون أشهد أن محمدا رسول الله وهو يسمعهم!
إلى مكة:
أشعر مع الحسن البصري بالضعف؛ بل العجز عن تخيل لحظة الإحرام والتلبية، فهل أنا أهل لأجيب نداء الله، وألبي دعوته للطواف بالبيت العتيق، إن الإنسان ليحس بطعم التلبية لذيذا إن هو رزق التأمل في ذلك النداء الخالد، تتجدد التلبية فوق الجبال وفي الوهاد، علَّ قلبك أن يظل معلقا بالله، فإن دخلتُ مكة أسأل نفسي، وهل أنا قادر على تخيل الظفر الذي حزت والعطاء الذي أذن لي فيه ربي!! للهم لا تحرمنا وارزقنا القبول.
ثم أتخيل بطن الوادي بين الجبلين مغبر التربة صلد الحجارة خاليا من الحياة ومفرداتها حوله صبر النبي صلى الله عليه وسلم وتضحيتة، الداعي إلى هذه الحيوية وذلك الاحتشاد ووفرة الوسائل، فإن تراءت لي مآذن الحرم كبرت الله.. هذه المرة تحس بذرات جسمك تقشعر لرهبة الجلال، وقدسية المكان، والقلب منك قد تملكه التوجه، ولم يبقى لشاغل فيه مكان، فأدلف من باب السلام بلطف مع الزحام، فتنتصب الكعبة المشرفة بين عيني فألهج لله بالثناء والشكر أن بلغني البيت العتيق، فهذه القبلة التي رضي ربي للحبيب والحبيبُ يرضها، تنتصب بجمال وجلال يبعث في النفس رغبة إليها ورهبة من الرب الذي أودعها المهابة وكساها ثوب الوقار وبهاء الحسن.
وقبل أن أصل إليها أقف بأدب أمام التوقيع الضخم لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فبصمته الغائرة بقدميه خلود لأثر الرسل ومن على سنتهم من الدعاة، رغم بطش المعاند ونيران الخطط الجهنمية، قبل أن يحولها الله بردا وسلاما على إبراهيم ومن تبعه بإحسان.
أطوف بالبيت وأستلم الحجر وأشرب من ماء زمزم - نبع الملهوف المتدفق الذي لا ينضب طعام طعم ودواء سقم، ثم أقف بالصفا مدركا بأن التضحية في سبيل الحق لا تعني الهلاك بل اكتشافا لمنافع ومعادن وشق لطرق الخير وخلود للأثر الصالح، (ثم نأوي للمحلق للحلاق) وقد أودعت عند الله ذلك الشعور وتلك العواطف راجيا أن يتقبلها بقبول حسن.
في كل رمضان يتجدد الشوق، وتشرأب النفس، فتذلل الأشواق عقبات الطريق إلى العمرة، ولكن في هذه السنة حصل ما لم يكن متوقعا، فوكالات العمرة خاف أهلها من استلام جواز سفري، فذكروني أن أمثالي من حملة الجواز الأحمر يتعاملون مباشرة مع السفارة، أعطيت جواز سفري للجهة المختصة في مجلس النواب، وقامت بكل الإجراءات الرسمية عبر الخارجية، فقدمت الطلب من المجلس إلى السفارة السعودية التي ردت بالرفض، رغم أنها توزع تآشر المجاملات على الخاصة والعامة، ذكورا وإناثا، معتمرين ومصطافين، رغم أنني لا أحمل للمملكة العربية للسعودية غير الود والمحبة.
إلا أنني في الفترة الأخيرة وقفت في البرلمان ضد قطع العلاقة مع قطر، وما زلت أعتبر حصارها ظلما من ذوي القربى، وقلت لعادل الجبير مرة، لقد ذهبت بعيدا عندما تحدثت عن إرهاب حماس، وهي شامة الأمة، ورمز المقاومة، وخلاصة أهل السنة اليوم، ولو أحسنت التخطيط لدبلوماسية السعودية كنت مستندا لحماس لا لغيرها، فهي سندك والظهير الذي لا يخون، لكني أقول أكثر من ذلك لفرنسا وتمنحني التأشرة، ومثلها بقية دول العالم المتحضر - التي لا تعاقب لمجرد رأي يخالف صاحبه موقفا من مواقفها - فما بالك بالحرمان من البلاد المقدسة ومشاعرها التي حكم الله بسوية العاكف فيها والبادي.
نعم، أمرنا الله بقول الحق والصبر على الأذية، فاللهم إنا نشهدك على جور حصار أهل قطر، وموالاة ترامب، وحرب أهل حماس، وإنا موقنون بأنه كما فجرت النبع تحت أقدام هاجر، فشربتْ ونجا صغيرها، وبورك في الوادي تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدن عليم حكيم قادر مقتدر، فإنك ستجعل لأمتنا من غمتها فرجا ومخرجا هو في خزائن غيبك، ومفاتيحه عندك لعله بين أيدنا لا ندري متى نشير إليه: (زم زم زم)..