يتعزّز الحضور الشبابي داخل المشهد السياسي الموريتاني منذ بعض الوقت، توجيهاً للنقاش العام، وحواراً مع الفاعلين الحزبيين، وتقديماً للمبادرات والمشاريع السياسية.. هذا في ظل تراجع ألق الطرح الإيديولوجي والحزبي داخل العديد من الدوائر الشبابية، وغياب الدور التقليدي للأحزاب السياسية، تأطيراً ومبادرة، وانفعالها في أغلب الأحيان بالحراك الشبابي أكثر من توجيهها له.
ولكن، وبالرغم من كثرة التحدّيات التي باتت تواجه الأحزاب الموريتانية الكلاسيكية في مجتمع فتي، نسبة 60% من أفراده تحت عمر 25 سنة، لا يزال الشباب "المستقل" هو الآخر عاجزاً عن بلورة أي مشروع تغييري جاد، على الرغم من كثرة مبادراته وتجمعاته وعناوينه السياسية.
فلا بد لإنجاح أية رؤية تغيير ديمقراطي من وجود قيادات سياسية واعيّة، وقاعدة جماهيرية متماسكة، وموارد مالية كافية. وهذا ما سيظل متعذّراً على الشباب الموريتاني، في ظل غياب طبقة مجتمعية متوسطة، إلا بشرط وجود خيط حزبي ناظم، ومرجعية وطنية أو فكرية صريحة. ونموذج "الطريق الثالث" في فرنسا (حركة إلى الأمام التي أوصلت ماكرون إلى الحكم) والذي يستدعيه البعض هو نموذج بعيد من الواقع، في بلد تقارب نسبة الأمية فيه حاجز الـ50%، ويمثل قطاعه الرسمي أهم وجهة لتشغيل القوة المتعلِّمة.
لقد آن الأوان أن يدرك الشباب الموريتاني أنه بقدر ما تحتاج الأحزاب السياسية في بلادنا إلى ديناميكية جديدة تتسم بالمرونة والانفتاح القيادي على الشباب وتطلعاته والاستفادة من حيويته في التغيير، فإن هذا الشباب كذلك يحتاج إلى الانخراط في العمل الحزبي المنظّم، في الاتجاهات السياسية الأقرب إلى قناعاته، مهما كانت تحفّظاته عليها، كأساس لتغيير اجتماعي وسياسي أعمق وأبقى.
فَلَو انخرط جميع الشباب الموريتاني المهتم بالفعل السياسي داخل الأحزاب الثلاثة أو الأربعة الرئيسيّة مثلاً لفرضوا الإصلاح الذي يريدونه داخل هذه الأحزاب أولا، ولوضعوا أقدامهم ثانياً على طريق التغيير، الذي سلكه، ويسلكه، نظراؤهم في الكثير من البلدان الديمقراطية.
نعم هناك خيبة أمل لدى الكثير من الشباب الموريتاني من العمل الحزبي والإيديولوجي التقليدي، ولكن أيضاً هناك "فوضى" استقلالية كبيرة بين أغلب هؤلاء الشباب باتت تعيق وتربك المشهد السياسي الشبابي نفسه.
للأسف لم تشهد موريتانيا أي سلطة مركزية جامعة قبل الاستقلال، وهذا أورث المواطن الموريتاني في ظل الدّولة الحديثة ضعفاً مزمناً في قابلية الممارسة السياسية الجماعية. فأضحت لدينا حوالي 7000 جمعية غير حكومية وأزيد من 100 حزب سياسي، في بلد لا تتجاوز ساكنته أربعة ملايين نسمة. وترى فيه وزير الحكومة، المسئولة عن تمدين الشأن العام، ينتقل من وظيفة وزير للتعليم إلى وزير للدفاع ثم إلى وزير للثقافة أو التجارة أو العدل. في حالة ترحال عجيبة، جعلت عدد وزراء خارجية هذه الدولة حديثة الاستقلال يصل الآن 46 وزيراً. أي ضعف ما احتاجته دبلوماسية الولايات المتحدة على امتداد المائة سنة الماضية!
ومن غريب الممارسة السياسية الشبابية في موريتانيا أن الشاب بمجرد أن يستقل مادّيا واجتماعيا يبدأ بالتحرّر من التزاماته السياسيّة والحزبيّة، بل ويعتبر هذا الخلل الإجرائي (في أبسط تعريفاته) عملاً إيجابيّا يخدم العمل السياسي.
فتجده يفتخر باستقلاليته وعدم انتمائه الحزبي وينسى أن ذلك قد يعني في العمل التغييري الميداني أنه فشل في تنظيم اختلافاته مع بضعة أشخاص يسعون معه إلى نفس الهدف.
مَن تخلَّى عن الممارسة السياسية الجماعية عليه أن يدرك بأنه تخلَّى في الوقت نفسه عن الجدّيّة والفعاليّة في تعاطي الشأن العام، وأصبح مجرد رقم انتخابي في حسابات السياسيين الآخرين. فلا يمكن لمن يحمل أي مشروع تغييري، رسالة سماوية كان أو فلسفة أرضية، أن ينجح بدون جماعة وحزب وأجندة تشارُك.
بالمقابل، فإن التجارب الحزبيّة الناجحة في الدول الديمقراطية هي تلك التي تحولت إلى تيارات سياسية، تحمل خطوطاً فكريَّة ومرجعية عريضة، وتحرّرت من الكثير من مركزية القرار والمقاربة السياسية العمليّاتية، لصالح المنتخَبين والقادة الميدانيّين. فمحاولة خلق نِسخ كربونيّة من السياسات والسّاسة مُضرة بالأحزاب، ومعيقة لتطورها، رؤية وتنظيماً، وهي فوق ذلك مستحيلة من الناحية العملية. وتعدّد وجهات النظر داخل المؤسّسات، كما هو معلوم، مَطلب إداري في حدّ ذاته. وأهل الإدارة يقولون إن المدير ونائبه إذا كان لهما دائما نفس الرأي في جميع القضايا المطروحة فإن أحدهما يمكن الاستغناء عنه.
ففِي الوقت الذي تسمح فيه المؤسسيّة الحزبية في التجارب الديمقراطية بالاستمرارية والفعّالية الميدانيّة في إدارة العمل السياسي، تمنح المرونة وهامش استقلالية الرأي داخل القيادة فرص خلق واحتضان الرموز الكاريزمية، ومواكبة التغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية عبر الأجيال. حيث يشترك القادة والنُّخب، ويستفيدون، من وسائل الحزب المادّيّة والإعلامية والبيروقراطية، ثم يتنافسون على نيل ثقة قاعدته التي تمثل أهم أدوات الحكم على هذا السياسي أو ذاك. وهذا ما سمح لبعض تلك الأحزاب بتجاوز مختلف التحولات السياسية والاجتماعية التاريخية بفعّالية ونجاح. حيث استطاع مثلا الحزب الدّيمقراطي الأمريكي (تأسس 1792) المحافظة على تماسكه بأدوات صحّية، وواكب فترات الاستعباد والحرب الأهلية والاضطهاد السياسي للمرأة، وحديثاً الحروب العالمية وثورة التحرّر وعولمة القيم الليبرالية، بنفس الألق والحضور والحيويّة.
هذه الديناميكية الحزبية مفقودة في بلادنا للأسف، وهي من أسباب عزوف الشباب عن الانخراط في الأحزاب السياسية، والعمل من خلال تيارات فكريَّة ووطنية مؤسّسية. فلا تزال الأحزاب الموريتانية، في عصر المواطن الرقمي والحديث عن ما بعد الحزبيّة، تُمارس العمل السياسي بنفس أدواتها عشية الاستقلال.
ففي الوقت الذي يقبل فيه تيار ماكرون "الجمهورية إلى الأمام"، La République en marche، عضوية أعضاء الأحزاب الأخرى، متجاوزاً الثوابت الحزبية المعتادة، ويحقق فيه الآن الجمهوريّون الأمريكيون أهم نقاط أجندتهم التاريخية المحافِظة (في الهجرة والقضاء والقيم الأسرية..) من خلال رجل من خارج أطرهم الحزبية التقليدية، يتعرض في موريتانيا المناضلون الحزبيّون للتهميش والمساءلة بمجرد إبداء رأي يخالف رأي قادة الحزب. أما إذا خالفوا الرأي المُعلن للحزب نفسه فإن ذلك يعتبر في الغالب بمثابة إعلان استقالة. وهو الأمر الذي أدى إلى كثرة الانشطارات الحزبية والاختلالات السياسية التنظيمية، في بيئة تعاني في الأصل من هشاشة التربيّة المدنيّة، وضعف ثقافة تدبير الاختلاف والعمل المشترك "Team Work".
ويمكن القول فِي الأخير، وبين يدي استحقاقات هذا الخريف، بأنه قد يدخل أحد الشباب المستقلين أو بعضهم البرلمان المقبل، أو يصل حتى إلى سدّة الحكم، وسيكون لذلك أثر إيجابي على حياة المواطن وعلى المسار السياسي بدون شك. ولكنهم لن يكسبوا رهان التغيير المؤمل إلا إذا انتظموا في أحزاب سياسية عريضة، قادرة على صنع التغيير وترسيخ القيم الديمقراطية العادلة. أو يُنشؤوا هم تياراً واسعاً ذو خلفية فكرية ووطنية واضحة، يستجيب لتطلعاتهم ويحقق دولة المواطنة المنشودة.
كما أن الأحزاب السياسية، في ظل تزايد الاستقلالية الاجتماعية والفكرية والمادّية للشباب، وتضخّم الأنا السياسية عند إنسان العصر بفعل دور وسائل الإعلام الحديث، لن تستطيع، مهما كان نبل أهدافها ووفرة وسائلها، أن تحقق أي مشروع وطني ديمقراطي بنّاء، ولن تكسب رهان التغيير الحقيقي، إلا إذا قامت هي نفسها بتغيير وقائي داخلي تستفيد فيه من التجارب الديمقراطية الناجحة، وتستجيب لمتطلبات الواقع المجتمعي الراهن. وإلا فستظل عاجزة عن استقطاب الشباب، وستتحول إلى جزء من المشكلة بدل أن تكون أداة من أدوات الحل. وحتى لو وصلت إلى السلطة فإنها ستضطر لممارسة الحكم بنفس الأساليب التي تنتقدها الآن من موقع المعارضة.