مشكلتنا ليست في فقه المسألة إذا نظرنا إلى أدلة العلماء القائلين بمنع درء الحد عن المسيء ولو تاب ولا باعتماد قول من قال بدرء الحد عنه إذا تاب فالفقه واضح والخلاف في المسألة يعطي مجالا كبيرا للأمة كي تحكم بما تراه مناسبا لسياسة الشرع ومصلحته.
مشكلتنا تقدير المصلحة وأين تكمن في واقعنا اليوم ومن يقدرها ومن يحميها؟
فتقدير المصالح إنما يكون من أهل الاستقامة أولا والعلم ثانيا ومعرفة الواقع ثالثا.
والخلل الكبير أنه لا علاقة في الواقع بين السلطات التنفيذية وبين الفقه الحي والرأي الحي المنطلقين من القناعات الشرعية والمصلحية للعلماء وأهل الرأي بل أحيانا تكون العلاقة علاقة تضاد لا علاقة تكامل وخاصة في مثل هذا النوع من القضايا الحساسة التي لها علاقة بحماية الدين ومقدساته.
وهو ما يعطي قوة كبيرة لخصومنا الحقيقيين (الغربيين) الذين يخوضون ضد ديننا معركة قديمة متجددة ومستمرة يستخدمون فيها كافة الوسائل.
فهي معركة إعلامية وثقافية وسياسية يشنها أعداء الإسلام على الإسلام والمسلمين والقوة فيها غير متكافئة فأعداؤنا يملكون كل الوسائل: المال المغري – والإعلام الموجه – والثقافة المؤثرة – والعمل الدءوب...إلخ.
ولا نملك واحدا في المائة مما يملكون، فلا غرو إن أثروا على أبنائنا وشبابنا وشيوخنا ومفكرينا وسلطاتنا.. وخلقوا شرخا بين مكوناتنا.
وهذا ما يجعلنا في موقف دفاع ولسنا في موقف اختيار ولا تمكين حتى نختار الأسهل ونلتمس العذر (ما كان لنبيء أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة..).
فمرحلتنا مرحلة مضاعفة الجهود لرد ما استطعنا من هجمات الأعداء على ديننا وليس الضعف أمام الدعايات الموجهة المسوغة لأفكار الغير وتقبل طرحه مهما كان مخالفا لمصلحة ديننا.
ولا ينبغي أن نكلف أنفسنا كثيرا من التأويل الذي لا يعود بالمصحة على ديننا وتماسكنا بل ويجعل الخصم يخطو خطوة أخرى ثم أخرى، فالرخص إنما جاءت لمصلحة الدين والمتبعين له (فمن اضطر غير باغ ولا عاد) فالبغاة والطغاة لا رخصة لهم ولا تأويل في حقهم حتى يعودوا عودة صادقة يطمئن إليها المؤمنون.
ونحن نعلم أن موضوع الإساءات التي تكررت في الآونة الأخيرة ليس معزولا عن هذه المعركة الكبرى والهجمات المستمرة. وما يقال عن توبة فلان وفلان فلا تصدقه القرائن إذ كيف نصدق من يحتمي بأعداء الإسلام بمالهم ودفاعهم وضغوطهم والارتماء في أحضانهم بدل الارتماء في أحضان المؤمنين والخضوع لحكم الله فيه رجاء تطهيره مما ارتكب في حق الله ورسوله والدين.
إن سيرة السلف مليئة بقصص التائبين ببعدهم عن الأعداء واللجوء إلى الله تعالى ورسوله.. قصة كعب ابن مالك وهو من الثلاثة الذين خلفوا، لما جاءته رسالة ملك غسان لم يلجأ إليهم ولم يحتم بهم بل رأى ذلك من المصائب في الدين، يقول كعب بن مالك بينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام، ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون له إلي، حتى جاء فدفع إلي كتابا من ملك غسان، وكنت كاتبا فإذا فيه: أما بعد، فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. قال: فقلت حين قرأتها: وهذا أيضا من البلاء. قال: فتيممت به التنور فسجرته. يعني الكتاب أحرقه.
وكذلك أبو لبابة لما أشار لليهود بتلك الإشارة التي فيها خيانة جعل من توبته ربط نفسه في المسجد حتى يحله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل المسئين حتى ولو تعلقوا بأستار الكعبة كما عفا عن بعضهم لحسن توبته وعلى أساس ذلك اختلف العلماء.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل، فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: اقتلوه) ـ متفق عليه.
وسبب قتله أنه كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ارتد عن الإسلام وكانت له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قتلت إحداهما وهربت الأخرى حتى جاءت تائبة فعفى عنها وفي هذا أن الكعبة لا تعيذ عاصيا، ولا تمنع من إقامة حد واجب.
فالتوبة إذن معناها الندم والإقلاع والإحسان في العمل للدين وموالاة المؤمنين والبعد من الكافرين والرضا بحكم الله ومحبة الدين الخ.
أما أن نجد العكس بل والتخطيط مع أعداء الإسلام لتشويه الإسلام والنيل من ثوابته ومقدساته فلا يمكن أن نتحدث عن توبة يمكن البناء عليها شرعا، لو قلنا بقول من يقبل توبة المرتد.