سُرِق الجهاز.. جهازي الذي يُشترى بمئات من معبود الناس في زماننا هذا.
ويمكن لمثله في مكتب أو نحوه أن يستبدل ببساطة.. ويُرمى في فُتاتِ الأجهزة، لكنه بالنسبة لي جهازٌ خاصّ أضحى جزء مني بل نسخة معنوية مني يشتمل على أنبل ما يتعلق بي فهو محفظة المعارف التي انتقيت، فيه من الثقافات والإمتاع والروحانيات ما كنت ألملم على مدار العقد المنصرم.
لم يضِع جهاز بسيط عابر بل ضاعت نوادر جمعتها بتأمل، فيها شواردُ من الفقه وظلالٌ من التفسير وشذراتٌ من الأدب وغرائبُ من التاريخ وشمائلُ عظيمةٌ من السيرة وشتاتٌ من الكتب والمذكِّرات وسيلٌ من مقالات الرأي والتحاليل.. وفي الجهاز الذي ضاع مني أخشع القراءات وأمتع الأناشيد وأعذب الإلقاءات وأفخم المحاضرات فيه اصطوانات من عتيق اللحن وبهيّ الشدو، وفيه باكورة التأليف من روايات وأبحاث نفيسة قضيت على انجازها زمانا.
بدأت قصتي مع الضائع الآيباد رحمه الله عندما قدمه لي هدية الدكتور المفضال عبد الله بيان مشكورا وكان قادما به للتوّ من كريم محتد آبل التي هو ابنها المدلَّل ومفخرة صناعاتها.
وقد لاحظ الدكتور تهيُّبي لمخالطته وحيرتي في التعامل معه فعاجلني قائلا إن أي جهاز يحتاج منك لخلوة معه بعدها يعطيك سِرَّه، ويُطلِعُك على مكنونه أو هكذا قال.
وقد كان الذي أوصى به الدكتور حقا فبمجرد أن خلوت بالأنيس تكشّف لي منه مالم يكن في الحسبان، وأبان لي عن صفحات من عميق فوائده لاتحصى، فكان أحقّ بقول الهلاليّ:
لنا جُلَساء ما يُمَلّ حديثُهُم
ألبّاءُ مأمونون غيبا ومَشهَدا
يُفيدوننا من علمهم علمَ من مضى
......إلخ.
قال لي الجهاز طيب الله سكَنَه: يافلان أنت مسكون بالمطالعة محبٌّ للقراءة فأوصيك بموضع مني يسمى iBiko فهو مكان فسيح لرصّ الكتب بعد تنزيلها، أحفظها لك كي ترجع إليها في الحال الذي أنت فيه ولو بدون نت !!!
ولم أكن قد تعودت كثيرا قراءة الكتب والمطولات في الأجهزة فتساءلت من عادتي التي قلدت فيها شيخي محمد عثمان رحمه الله أن أخطَّ تحت الكلمة وأكتب بداية الجملة على الصفحة الاولى فكيف أفعل مع محصِّن كتبك الذي يدعى PDF والذي يجعل القراءة مثل تأمل نجوم الليل، ليس لك سوى إمتاع الرؤية فإن يحدْ عنها نظرُك ضاعت من بين يديك، فأجابني: الأمر بسيط! كلما عليك هو أن تدرك فلسفة الغرب في التحايل، فنحن نحترم القانون ونمنع الرشوة، لكننا نعطي مقابل المحاضرة الواحدة لمسؤل كبير مئات الآلاف من الدولارات تدفع منها الضرائب وتسجل في الفواتير.
فلذلك لا يحتاج التصرف في الصفحة غير التقاطها كصورة ثم التصرف فيها بعد ذلك وتخط عليها ما تشاء.
كنت كلما عنت نازلة أعود إليه رحمه الله فيدُلُّني بيُسر عجيب على ما ينبغي تجاهها، فإن حل رمضان قرّب إليّ إحياءَ علوم الدين وأسرار الصوم فيه ووضع بين يدي أنواع المقرئين ونوادر أخبار السلف في رمضان.
وإن كانت العمرة ذكرني بحنين الآباء والمتصوفة بأرض الحجاز وساكنيه وأمرني بقصيدة ولد محمدي فهي أعذب ما قيل في الباب.
وعند ما نزلتُ غرناطة ناولني تاريخها وأيام الأندلس وقصص البيازين وألوان التحضر فيها والجمال والعلم وبكاها وخشعنا معا في محراب الألم على بوابة قصر الحمراء.
وذلك ما كان يفعل معي كلما حللت بلدا أكتب في محركات البحث ويعرض هو لي المطلوب ويحفظ لي مهمّات المعلومات.
وعند اندلاع الثورات وحديث الأبواق المعارضة لها عن الأوضاع التي لم تتغير بين عشية وضحاها فتح لي جهازي نافذة لتاريخ الثورات وخصوصا الفرنسية منها التي لم تستقر ولم يخمد أوارها إلا بعد أن انصرم عقدها التاسع، وقد وضع بين يديّ خمسَ مجلدات عن تلك الثورة، وعمّا بعدَها من حروب أزهق الاقتتال الغربي فيها أرواح خمسين مليونَ إنسانٍ؛ كي تصل الحضارة الغربية لقيمة العافية وتدركَ ضرر الحروب.
وقد عرَّفني جهازي على عظماء من التاريخ الحديث وقادة الحروب ورجال الدول الأفذاذ ويسَّر لي مذكِّراتِهم الممتعة مثل ابراهام لنكولن واتشرشل وديكول وغيرهم..
لا تقولوا إن الكتب التي فيه مازالت في النت ويمكن تنزيلها في أي وقت فكتبي التي قرأت أنا وتصفَّحت في جهازي أضحت لها قيمةٌ خاصة، والصور التي التقطت منها والمختصرات التي دوّنتُ.. كل ذلك أضحى كنزا تتضاعف قيمتُه؛ لأن كل حرف فيه قرأته وكلَّ جملة رددتها وكل صفحة عرفت منها الرقم ودوَّنت العنوان فلذلك تكون خسارتي في جهازي لا تُعوَّض بثمن..
اللهم آجرنا في مصيبتنا واخلُفنا خيرا منها.
وأينما تكن الآن.. في يد نشال او تحت يد بايع أجهزة مستخدمة أو مخفورا من متآمرين فعليك السلام من رفيق يحنّ إليك ولا ينساك في غربتك وتولّهك بين يدي أجلاف من اللصوص لا يدركون قيمة الحد الخير الذي كنت تقطع به طيلة سكناك معي ومصاحبتك إياي فإن استعملوا حدك الآخر فمت كمدا حتى نلتقيَ في أيام أجمل وأنضر بإن الله.
كنت لي قمطرَ ذاكرتي وخزانة معارف كبرى.
وقد يجمع الله الشتيتين كما اجتمعت فيك اشتات المعارف.