اعلنت الجمعية الموريتانية للفرانكفونية أن أسبوعها السنوي المخصص للغة الفرنسية سيقام في العاصمة انواكشوط ما بين 18حتى26 من مارس 2017، وذلك بغية التعريف باللغة الفرنسية ، وتسليط الضوء على تراثها .
ومن المفارقات أن هذه العناية المفرطة باللغة الفرنسية الوافدة مما وراء البحار، والتي لم تكن لغة محتل حاقد فحسب ، وإنما هي أكثر من ذلك لغة إقصائية معادية للنهج الإسلامي الحنيف ولغة القرآن الخالدة ، تأتي في نفس الشهر الذي أصبح فاتحه يوما عالميا للغة العربية التي تعاني في بلادنا من التهميش والتبخيس الذي يطال موقعها ضمن المنظومة التربوية والإدارية ، مما يجعلها معطلة الأهداف والمحتوى ، بعد أن استهدفت السياسة الاستعمارية بوضوح استئصال اللغة العربية في سبيل عملية مزدوجة تتمثل في إقصائها بيداغوجيا والحط من شأنها ثقافيا .
ومع أن اللغة الفرنسية لم تعد هي اللغة الرسمية في بلادنا ، فإنها ظلت مع ذلك سائدة حتى الآن في في كافة مراحل التعليم وفي القطاعات الإدارية والاقتصادية والمالية ومستخدَمةُ في جميع وسائل الإعلام ، لذلك فإن التعريف باللغة الفرنسية ، وتسليط الضوء على تراثها من طرف الجمعية الموريتانية للفرانكفونية ، يعد نكاية وإسرافا ، لأن المواقع التي تحتلها هذه اللغة في بلادنا لا تحتاج إلى سند ، فقد تم الإعتراف بها لغة للترقية الاجتماعية بدونها يصعب على المرء أن يشق طريقه في المجتمع ، حتى أن بعض أنصار التعريب قد كونوا أبناءهم في مدارس فرنكوفونية اضطرارا .
رغم أنهم يدركون أن اللغة الأم ترتبط بهوية الإنسان، في كل أشكالها وأبعادها ومستوياتها النفسية والسوسيو ثقافية والحضارية الشاملة ، فاللغة مكون أساسي من مكونات تميزالإنسان عن الآخرين، وتماثله مع من يشاركونه فيها، وهي الوعاء الحافظ لتاريخه وتراثه، وهي الرابط المتين الّذي يربط الفرد بأمته وأهله وأرضه.
واللغة، في أي مجتمع، هي الواجهة الحاملة والحاضنة للملامح الأساسية لهذه الهوية، ومن خلال اللغة يتشكل معنى الانتصار والانكسار والمحبة والكراهية والألم والسرور، ومن منظورها تتحدد مفاهيم المباح والمحظور ، وانفتاح أبواب الفهم أو انغلاقه .
لذلك يرى بعض المفكرين أنه بالإعتمادا على اللغة الأم تتكون رؤية شمولية للعالم تشمل الذات والآخر والواقع الطبيعي والاجتماعي ، كما أنه عن طريق هذه اللغة يتم التواصل وتبادل المعلومات والأفكار والقيم والمبادئ والخبرات والمعتقدات والرموز، وتستخدم أساليب التفسير والتبرير وإنتاج وإعادة إنتاج المعاني والتصورات والمواقف والأحكام.. وإلى هذه المفاهيم الأولى ترتكز أية مفاهيم تالية يمكن للإنسان أن ينتفع بها من اللغات المكتسبة في مراحل لاحقة .
وعن طريق آليات التربية والإعداد الاجتماعي للأجيال الناشئة في فضاء ثقافي محدد ، يتم رفد الرصيد اللغوي بغية تشكيل نمط التفكير و الوعي و الوجدان والذاكرة الفردية والجماعية، فاللغة فكر ناطق، والتفكير لغة صامتة.
لهذا لا ينبغي الفصل بين الإنسان ولغته مطلقا،لأن الكلمات لا تتيح قول كل شيء، ، لكنها تظل مشحونة بمجموع ما لا يمكـن قولـه، وهـو مجمـوع مقترن بها . وإذا كان بالفعل في اللغـة علامة اعتـراف اجتماعي بين أفراد الجماعة الواحدة ، فإنه يتعين علينا المضي أبعد من ذلك لفهم ما هو جوهري في هذه العلاقة القائمة بين الإنسـان ولغتـه ، فالقوالب اللغوية التي توضع فيها الأفكار، والصور الكلامية التي تصاغ فيها المشاعر والعواطف لا تنفصل مطلقا عن مضمونها الفكري والعاطفي .
وهذا ماعبرعنه بوضوح الفيلسوف الألماني هيدجر بقوله: "إن لغتي هي مسكني، هي موطني ومستقري، هي حدود عالمي الحميم ومعالمه وتضاريسه، ومن نوافذها ومن خلال عيونها أنظر إلى بقية أرجاء الكون الواسع".
وفي المقابل فإن الاستلاب اللغوي والفكري يحرم الأمة من هذه العلاقة الحميمة القائمة أصلا بين الإنسان ولغته ، وقد بين مصطفى صادق الرافعي هذا بقوله: "ما ذلت لغة شعب إلا ذل ، ولا انحطَّت إلا كان أمره في ذهاب وإدبارٍ، ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضا على الأمة المستعمَرة، ويركبهم بها، ويُشعرهم عظمته فيها، ويستلحِقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاما ثلاثةً في عمل واحد؛ أما الأول: فحبس لغتهم في لغته سجنا مؤبدا، وأما الثاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل محوا ونسيانا، وأما الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرهم من بعدها لأمره تبع".
ويقول الدكتور طه حسين : ( إن المثقفين العرب الذين لم يتقنوا لغتهم ليسوا ناقصي الثقافة فحسب، بل في رجولتهم نقص كبير ومهين أيضاً ).
وينطبق هذا الوصف تماما على أغلبية نخبنا الذين تعلموا في عهد الإستعماروبداية الإستقلال ، حيث تم تجنيدهم لحماية وجود الفرنسية في موريتانيا وإقصاء اللغة العربية وكان من بين هؤلاء ليبراليون وعنصريون ويساريون من أتباع الفكر الشيوعي اللينيني والماوي إضافة إلى القوى التي كانت مستفيدة من الاستعمار وتحن لعودته .
كما تدرك هذه النخب المستلبة أن عليها الالتزام المطلق بشرط الولاء للخطاب الغربي فتكرس السردية الأجنبية و تساهم بنشاط فى تحقيق أجندته الاستعمارية خصما على أي بديل ، ففى حالات بعينها قام الغرب بتكريس ثقافاته في تلك الامتدادات التابعة والخانعة ، و بقيت معظم النخب المتماهية مع هذه الثقافات تردد ما تعلنه السياسات الاستعمارية و تعيد انتاج ما يكتبه الانتروبولوجيون و السوسيولوجيون الغربيون .
و لعل مصيبة معظم هذه النخب تعود الى أنها بلا أصل ثقافي ، لأنها صنعت من التعليم الغربى أو المغرب ، لذلك فهي تزدري بالموروث الثقافي لحضارتها ، و تصم مجتمعها بالتخلف الابدي ، في حين أن هذه النخب تقصر عن بلوغ كنه الثقافة الغربية التى تنتحلها مطمئنة لما تقول دون أي بحث عما تقصد حقا ، مع أنها تدرك أن بعض الكتاب والثوار العروبيين والكونيين تجاوزوا المحلية جراء فكرهم ونضالهم وأمانة انتمائهم الى الشعب
وكان من نتائج تغول اللغة الفرنسية وغياب الحس الوطني والقومي لدى صناع القرار في بلادنا، ومارافق ذلك من استلاب النخب المتنفذة وحتى فئات وشرائح عريضة من المجتمع، أن وجهت السياسات التربوية والثقافية والاجتماعية إلى اعتماد اللغة الفرنسية، بدل اللغة العربية في مجالات التعليم والتكوين، وكأن هذه اللغة الأجنبية هي التي يمكنها أن تكون لغة علم ومعرفة وتكنولوجيا وثقافة كونية !!
وهذا على خلاف مايراه علماء التربية من أن المعارف التي يتلقاها الطفل بلغته الأم تكون أسهل تحصيلا وأعمق أثرا من المعارف التي تلقاها بلغة مازال في طور تعلمها، كما أن لغته الأصلية، تسود يوميا في الحياة العائلية والاجتماعية. وتظل في الميدان الدراسي لغة للتواصل بين التلاميذ والمدرسين .
وفضلا عن ذلك فإن النصوص المودعة في كتب تدريس اللغة، أي لغة لن تكون محايدة فهي مشحونة بمعارف حضارة تلك اللغة، لذلك لا يخلو نص عربي مثلا من ذكر لحديث شريف، نصا أو روحا، أو حكم وفوائد جمة أخرى ، سيما أن اللغة العربية ذات ميزات عديدة، فهي أوسع اللغات وأصلحها ، ولها جذور متناسقة لا تجد لها مثيلا في اللغات الأخرى ،مع أن البيان الكامل لا يحصل إلا بها لقوله تعالى ﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ فدل ذلك على أن سائر اللغات دونها في البيان.