كانت لحظة دخول الدكتور محمد نذير ولد حامد تشبه دخول الفاتحين لمدينة طال أمد حصارها.. إذ توفر للرجل من إجماع ما لم يحصل عليه أي وزير قبله.. إجماع من الأطباء.. وعمال الصحة.. والسياسيين.. والمدونين.. ناهيك عن من عرفوا الرجل عن قرب أو عملوا معه.. كان الكل مجمع على معرفة الرجل العميقة بقطاع الصحة.. معرفة تراكمت على مدى عقود من العمل بما فيها المستشار الصحي للرئيس الراحل سيدي ولد الشيخ عبد الله.. معرفة مشفوعة بتخصصه الطبي – الصحة العمومية - الذي يعد أهله – نظريا - الأقدر على إصلاح القطاعات الصحية في العالم.
بدأ الرجل عمله بطريقة ثورية.. نظرا لحصوله –كما يؤكد - على كارت أبيض وضوء أخضر لفعل ما يراه مناسبا... منطلقا من نظرية مفادها أن القطاع فاسد إلى أقصى حد - وهو أمر مجمع عليه - وينبغي تغيير كل شيء سريعا وسن قوانين جديدة في مجال الصيدلة واستيراد الأدوية وطرق التعيين والتحويل وعمل العيادات الخاصة وفصل القطاعين العام والخاص.. وهيكلة الوزارة .. و.. و.. الخ.
ننطلق هنا من تقييمنا للرجل من متابعة قريبة بحكم العمل في القطاع.. ومن آراء من يعملون يوميا معه بالإضافة للقاءين متفرقين جمعاني مع الوزير تناقشنا فيها مع زملاء آخرين قرابة الستين دقيقة.
في البداية، يجب التحلي بالموضوعية والإنصاف في تقييم أداء السيد الوزير.. والتذكير بأنه لم يكمل بعد سنة ونصف على إدارته ولم يجد الوقت للتركيز على الملفات التي كانت تنتظره بسبب انتشار وباء كوفيد 19.. الذي استطاع سحق أعتى الأنظمة الصحية ولم تستطع دولة في العالم التغلب عليه.
يحسب للرجل:
- حسن النية والمعرفة العميقة بالقطاع والفوضى العارمة التي تنخره منذ عقود يضاف إليها رصيد كبير من الكفاءة والاحترام والتقدير من طرف الزملاء وعلاقات واسعة مع مجمل الفاعلين في القطاع مع التميز بالصرامة والجدية في العمل.
- نظافة يده – على الأقل - قبل التعيين - إذ لم يعرف عنه أبدا مشاركته في تسيير القطاع.
- كاريزما وخطابة وقوة شخصية مكنته من تمرير قراراته الجريئة خاصة المتعلقة بالصيدليات والتي كانت مواجهة شاقة مع شخصيات سياسية وعسكرية وقبلية من الوزن الثقيل تمكن في نهايتها من إرغام ملاك الصيدليات على الالتزام بالقوانين وتم غلق عشرات الصيدليات.
- إعادة هيكلة وزارة الصحة بطريقة علمية وضخ دماء جديدة شابة – مع نقص في الخبرة – وإزاحة بارونات فساد جثمت على الوزارة لسنوات طويلة ولم يكن يتخيل أحد إمكانية تحييدها.. وإلغاء البرامج الصحية المركزية التي كانت تعد بالوعات فساد عملاقة تبتلع ميزانياتها الفلكية كل عام دون أي أثر على أرض الواقع، إضافة إلى نقل إدارات الوزارة إلى مكاتب لائقة بدل الجحور التي كانت فيها.
- سن قوانين جديدة تنظم القطاع.. التعيينات.. الموارد.. والتحويلات.. الصيدلة.. المستشفيات.
- مشروع قانون جديد –ما زال على الورق - ينظم القطاع الخاص بمعايير جديدة.. ويقترح فصل القطاعين، الذي - رغم صعوبة تطبيقه في الوقت الحالي - يعد أمرا أساسيا ولا غنى عنه من أجل تحسين خدمات القطاعين نظرا لتضارب المصالح لدى العديد من الأطباء الذين يشغل بعضهم - حتى لا أقول أغلبهم - كراسي المصالح الاستشفائية في حين أنهم لا يجلسون عليها إلا نادرا بسبب العيادات الخاصة.. فلا هم أدوا مهامهم فيها ولا هم تركوها لبعض الشباب المتحمس على أمل إحداث الفرق وتحسين الخدمات.
- فتح باب التكوين والذي كان مغلقا بقرار غبي من مجهول.. وفي وقت كتابة هذه السطور تمت الموافقة على ابتعاث أكثر من مائة طبيب للتكوين في مختلف التخصصات.. ما سيكون له الأثر الكبير في تحقيق اكتفاء جزئي وتغطية الكثير من مدن الداخل بأطقم متخصصة وذات كفاءة مع المساهمة في سد الخلل الذي قد ينتج عن قرار فصل القطاعين الذي يعد مسألة وقت.
- التحسين – الطفيف - لرواتب وعلاوات عمال الصحة.
في المقابل يحسب على الرجل:
- الصدامية والتسرع في محاولة الإصلاح وعدم التدرج وترتيب الأولويات مع دكتاتورية وتفرد بالقرارات وإحاطة نفسه بمساعدين قليلي الخبرة.. يأتمرون بأمره ويخافون من إبداء رأي مخالف لرأيه بسبب حدته وعصبيته.
- استنزاف قواه ورصيده في محاولة فرض قرارات غير ذات أولوية ومحل خلاف - المسافة بين الصيدليات مثلا - كان لها أثر رجعي وسلبي على توفر الأدوية بسبب غضب الموردين ومحاولتهم الانتقام.
- شعبوية طافحة.. وتركيز على الإعلام خاصة وسائل التواصل الاجتماعي التي كانت رافعة حقيقية له في بداية حكمه ...حتى حمل فوق الأعناق أمام وزارته وها هي اليوم توشك أن تتحول إلى أداة تقذف به خارج دائرة الضوء والتأثير.
- عدم وضع البدائل قبل القفز على تغيير الوضعية السائدة والذي كان له أثر كارثي.. سواء على مستوى توفر الأدوية أو على مستوى الخدمات المقدمة في المستشفيات والتي لم تشهد تحسنا يذكر منذ قدومه.
- تضخم القرارات النظرية – وهو أمر قد يكون عائدا لمجال التخصص - وعدم تقدير الوضعية الحقيقية مع التركيز على الصحة القاعدية وإهمال شبه تام للصحة الاستشفائية..
- عدم إشراك الأطباء المخلصين من أهل القطاع في محاولة الإصلاح بل محاولة إلصاق المشكل أساسا بالأطباء والعيادات الخاصة.
ختاما على قدر عظم الآمال التي كانت معلقة عند قدوم الدكتور نذير كانت خيبة البعض أعظم.. ولكن الأمانة تقتضي إنصاف الرجل الذي لم يمض على وجوده سوى أقل من عام ونصف لا يكفي أبدا لإصلاح قطاع متعفن بسبب قوة الفساد وسوء التسيير الذي يعانى منه منذ عقود.