يكثر فينا أن نطور أفكارًا، ونجلي أمورًا معقدة، ونتدارس خيارات ثم نصل فيها لخلاصات نافعة، ولكن بمجرد أن تطرح على الرأي العام الداخلي أو الخارجي، نشعر بأن قدرا ليس باليسر من العمل لم ينجز بعد أساسه طرح تلك الأفكار للنقاش ومدارستها وإعطاؤها الوقت الكافي كي لا تظل حبيسة لأصحاب الرأي وأفياء القيادة.
لذلك أقول، وعلى الله التكلان، إن الحياة ابتلاء للإنسان بحلوها ومرها بخيرها وشرها، ويحتاج المرء فيها إلى دربة ومهارة للنجاح في إدارته لما تجر إليه تقلبات الأوضاع في مختلف الأحوال.
لقد اعتدنا كإسلاميين على إدارة الصراع وتدبير أمر المحن أكثر من دربتنا على إدارة الحياة العادية وتنمية المنح.. ركزت أدبياتنا على فقه الثبات في المحن ومجالدة الطغيان أكثر من تركيزنا على إدارة المنح وفقه البناء والتعمير، وفرص التحضر واهتبال سوانح الحياة وعافية المشي في مناكب الأرض.. أحد المفكرين كان يراقب التحول في وضع المجاهدين الأفغان الذين أعطتهم الأمة ذلك الحجم من النصرة والكم من التزكية وعليهم بنت آمالها العراضا، نظر إليهم وهم يقتتلون وراجمات الصواريخ تقذف حممها يضرب بعضهم بعضا بها قائلا: "القوم أحسنوا إدارة الحرب، ولم يخططوا لما بعدها".
الدربة على الثبات في الخنادق مهمة لكن للمعارك نتائج من لم يحسن استغلالها ويتكيف مع ثقافتها ومآلاتها فهو الأحمق الذي لا يحسن غير صنعة المعارك..
وليس بعيدا عن ذلك حال من عاش في المجتمع مظلوما مطاردا يدبر أمر الاستهداف ويراوغ من أجل البقاء يحس بالعداوة والبغضاء من كل صوب ويتناوشه الأعداء من كل جانب، ويراكِم فيه المخبرون من التقارير كل وزر وشنار.
لقد عانينا كماًّ لا حد له من التشويه وقلب الحقائق وبث كل شر عنا.. كل ذلك مع الحرمان من الفرص المتاحة للغير من أبناء البلد بل أكثر من ذلك عندما ننجح في بناء مؤسسة بعزيز المال وأمانة القائمين، يتم إغلاقها ومصادرة المتحصل منها! وعند نجاح فرد في مشروع تجاري تدبج التقارير في مصادره حتى تتم مضايقته ومحاصرته...
وعندما يتخرج منا أكفؤ الأطر وأنزه حملة الشهادات فلا أفق لهم ولا فرص لهم داخل وطنهم فإما الهجرة عن الوطن أو الذهاب بعيدا عن مجال تخصصه..
كل تلك المضايقات التي أضحت سلوكا للدولة على مدار العقود الأربعة المنصرمة ولدت شعورا لدى غالبية الإسلاميين بأن دورهم هو المواجهة ومكانهم الطبيعي هو المعارضة، لذلك لا يتصور كثيرون منا أن نوالي يوما، أو نحاور في زمن، أو نعيش عافية، أو نذهب لحلول توافقية..
هذه الأجيال التي تربت على المواجهة والرفض من الدولة والعداء من الأجهزة، رغم قبولها من المجتمع وتزكيتها من الفاعلين.. نشأت فيها نفسيات تحتاج إلى إعادة برمجة على الأوضاع الطبيعية كما تحتاج إلى الدربة على ممارسة الحياة العادية منحا ووفرة وعافية.
وذلك ميدان ابتلاء آخر، والنجاح فيه يحتاج إلى توفيق ودعاء وصبر ودربة، وإني سمعت الله تعالى يقول {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون}.
وعلى الرغم من أننا من أكثر التيارات الإسلامية في العالم مطالعات للتجارب وملاحقة للمكتوب والمنطوق منها إلا أننا من أقلها قبولا لما تم تجسيده على أرض الواقع من تجارب في التعايش مع الآخر مهما كانت القواسم معه ضيقة.. انظر إلى تونس وما يقوم به الشيخ راشد الغنوشي من تحالفات تركز على المشترك الوطني حتى ولو كان المتحَالف معه يلحد في تعاليم الدين، لكن حقه في السياسة ثابت لا يسقط، وتحالف حزب العدالة والتنمية المغربي مع اليسار الأحمر يتنزل في هذا السياق.
أما نحن، فعلى الرغم من أن الدولة عندنا لو سلمت من صراع المنافسة تعتبر من أفضل الدول الإسلامية في ما يتعلق بأنظمتها الدستورية والقانونية ذات الصبغة الإسلامية المحسومة في الدستور وأغلب القوانين.. فإننا نحتاج اليوم إلى مراجعة جدية لخطاب الرفض المطلق بعيدا عما يبرره على أرض الواقع، وحتى يكون الأمر كذلك لا بد من إدراك المتغيرات ومعرفة الإمكانيات وأفق الممكن من خدمة الوطن والمشروع..
نحتاج إلى غربلة لمناطق المتغير، وإعادة لبناء بعض التصورات كي نكيفها مع الزمن ونعايشها مع دهاليز النفوذ وقوى التحكم في البلاد.
هنالك أمور لا بد من إعادة لتقييم الأداء فيها كي نعتمد أصل الأهداف، ونعدل في أساليب الخطاب، ونزيل بعض النتوءات التي عكرت خطابنا في بعض جوانبه.
ومن أهم تلك الأمور في رأيي:
1. في مجال الخطاب: لا ينبغي أن يُنتظر منا نفس الخطاب ونحن نصارع مستبدا ونغالب مطبعا أو نحارب فاسدا أو نقارع انقلابيا ركل مكتسبات البلد وقرر العبث بدستورنا، بل إن العدل الذي أمرنا الله به واجب {ولا جرمنكم شنآن قوم على أن لاتعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}.
فخطابنا حتى لو كان خارج الحكم لا بد أن يفرق بين مستويات الرفض والفوارق بين الحاكمين وسلوك المنفذين، فترتفع الوتيرة قوة في الرفض وتهدأ في اعتدال حسب الزمان والأحوال والحاكمين.
2. لا بد من تشذيب لخطاب الحدية في المجال الحقوقي مع التفرقة فيه بين ما تتحمل الدولة من مسؤوليات، وما نحمله نحن من مقترحات وحلول، لم نقم كإسلاميين بتجذير الرق، ولم نقترف جرما في حق الوحدة الوطنية، لذلك لا يجوز أن يلازمنا شعور بعقدة ذنب لم نرتكبه، كما لا يجوز لنا أن نشجع حلولا انتقامية، ولا أن ندفع بخطاب يزرع الكراهية في المجتمع ويغذي التطرف فيه.
في هذا الباب يجب أن ننتبه إلى أن المنطق الذي جعلنا نرفض كل خطاب للتطرف الإسلامي أو التكفير الديني ونمنع أي علاقة أو تقاطع مع أصحابه، فإن ذات المنهج يفرض علينا رفض الغلو والمغالين من الجهات الحقوقية، واعتبار خطاب الصدام مع المجتمع والتجييش على التحريض خطابا منكرا لا يجوز لنا أن نشارك فيه ولو بكلمة "اق".
كما يجب أن يتعامل خطابنا مع الوحدة الوطنية بحيث لا تضحي لازمة ممجوجة يتم إيرادها في جميع بياناتنا أو مطالبنا بدون مبرر أو حشرها بدون سبب.
لقد تحول بعض أدبياتنا إلى ما يمكن وصفه بثقافة (المحرقة) حيث حُملنا كل خطأ ارتكبته الأنظمة أو ساهمت فيه بعض اللوبيات.. وكأنه فعل أجمع عليه أهل الرأي وكان الإسلاميون (الممسكون) فيه بالدم...
في تاريخ هذه البلاد حروب ومظالم واقتتال أكل الأخضر واليابس وترك ثارات بين أعراق وشرائح وقبائل من ينكأ جراحه ويوقد أوَّار فتنه فهو آثم.. ولا يعني ذلك بحال من الأحوال عدم الانصاف لأي مظلوم من طرف الدولة أو المجتمع فالحق لا يسقط شرعا بالتقادم...
3. اندفاع بعضنا في هوى أهل الخطاب العنصري أوجد خطابا ملتبسا في ما يتعلق باللغة العربية ومكانتها في التعليم والإدارة، وتحولت لغة القرآن الكريم في نظر البعض إلى لغة قوم يفرضونها على الآخرين، ونسي أولئك أنها لغة الجميع إسلاميا وتعاملا تاريخيا قبل أن تزاحمها لغة المستعمر التي لا يحسنها أو يتعامل بها غير النزر القليل من أهل الثقافة الإفرنكفونية من ساكنة هذه البلاد عربا كانوا أو عجما.
هذه البلاد التي ظلت في عمومها مظلومة بحرمانها من اللغة التي يحلم بها غالبية السكان ومقررة بحكم الدستور والقانون ومنطق الديمقراطيات.
4. موقفنا من النظام: يجب أثناء تناولنا لأي نظام أن نفرق بين طموحنا في الحكم المثالي، وبين الواقع المتاح، بين إرادة الحاكم للشر والظلم، وبين توقه للخير والرحمة بمواطنيه..
إن مقارنة بسيطة بين النظام الحاكم اليوم وسلفه تثبت بدون عناء الفرق الشاسع والبون الكبير ينهما.
ففي حين سلط الأول أبواق الدعاية والكراهية على الإسلاميين واصفا إياهم بكل نقيصة معتبرا أنهم أسوأ من اليهود والنصارى ومحاربا لهم في أرزاقهم وأنشطتهم ومغلقا كل مؤسساتهم..
نجد الرئيس الحالي يتميز بالشفقة أولًا على مواطنيه وتقديرهم بدون تفرقة واحترامهم بدون تمييز، وقد أرجع القضاء في زمنه حقوقا جمعوية وفردية للإسلاميين تؤشر إلى أن الرئيس الحالي غير معني بالحرب المجنونة التي كان سلفه مندفعا فيها على كل ما له صلة بالإسلاميين.
الخلاصة:
إذا استطعنا مراجعة مناطق الصدام، وعفوية الاندفاع غير المحسوبة في المواقف والخطاب، وتشذيب النتوءات في مطالبنا الحقوقية، مع الواقعية في الطموح المنتظر من حكم لم نوصله، ولا نتحمل مسؤولية إدارته للأمور..
إن أحسنا قراءة المشهد مع النخبة الوطنية غير المنحازة لخطاب الاستئصال والفوضى والتطرف، فإن فرصة حقيقية أمام الأمة الموريتانية ستقطع بالبلاد شوطا على طريق النمو والتوافق والاعتدال، وذلك بوجود رئيس يتسم بالعمق والحكمة والشفقة على جميع أبناء بلده بدون تمييز، وتلك خصلة نادرة في حكام هذا الزمان.