مدينة نواكشوط يتقلب مناخها بشكل مزاجي تتداخل فصوله إلى حد لم تستطع معه الشرطة توقع الجرائم الناشئة عن الميول الغريزية تحت ضغط المناخ ، ذلك العامل الذي ساعد مدنا أخرى على معرفة العوامل المؤثرة في أكابر مجرميها حين طغت غرائزهم على عقولهم فصاروا كالحيوان لا كالإنسان المستقيم الذي يسيطر عقله على غريزته فيقاوم صولة الأفكار الخبيثة.
في مدينتنا كما في غالبية مدننا الحدودية تستفحل ظواهر إجرامية وبائية تتجاوز حدود قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق نحو تكوين جمعيات أشرار لا تتوقف عن التطور حتى طالت الدولة نفسها فأسرتها بأيدي ذوي الياقات البيضاء ممن لهم مقامات رسمية منيفة نخروا بها جسمها فعاشت طفيليات متعددة منها ما ينشط في تهريب المخدرات وتجارة السلاح والعبيد والأعضاء البشرية ومنها ما هو إرهابي منتمي لملل ونحل شتى.
والعجيب الغريب أنه كلما فككت شرطتنا أو دركنا عصابة من تلك العصابات تتمكن تلك العصابة بعد وقت وجيز من بناء نفسها مستغلة عطف القريب الذي يستغل بدوره جاه البعيد أثناء ضغط الثقافة السائدة التي لا تسير في اتجاه واحد مع الثقافة الدينية المانعة لربط عرى المودة بين من حادَّ الله ومن والاه.
جمعيات الأشرار تلك تنتقي عناصرها من المشردين الذين فقدوا الناصح الأمين فصاروا ضحايا ظلم اجتماعي وغزو إعلامي خبيث يسير في فلك ضغوط أجنبية تمنع الدولة من ممارسة سيادتها في تطبيق كثير من أحكام قضائها الجنائي.
وإذا لاحظنا انتشار قتل الغيلة في شوارعنا وافترضنا أن حادثة منه تجاوزت مسيرتها القضائية متاريس التسويات القبلية حتى حكم فيها القضاء بالإعدام فإن ذلك الحكم لن ينفذ ويصبح المدان طويل عمر يدرس الأجيال التي تزور السجن لمدد إصلاحية قصيرة.
وفي نهاية المطاف يلتقي الماء على أمر قد قدر حين عودة هؤلاء للمجتمع الذي لم يعد ينظر إليهم ببراءة و لم يهيئ ظروفا لعزلهم في مؤسسات للتأهيل والدمج يتطلب إنشاؤها موارد مالية أتى عليها نهم ذوي الياقات البيضاء.
يلاحظ العائدون بعد أيام قلائل أنه لا مقام لهم إلا في السجون التي تتطلب العودة إيها إثبات استيعاب الدرس التي تلقوها من شيوخ المجرمين أثناء فترة الإصلاح المفترضة فتقع الكارثة التي يرتفع بها مستوى مجرم صغير وهكذا تتم الدورة الإجرامية التي سلكت طريق نموها الطبيعية.
فعل التشرد فعلته الشنعاء تلك لأنه بيت داء يتغذى من جرائم تخفي الإنتماء السلالي وتسلب كل انتماء حكمي لمواليد جاء بهم الزنا ، ذلك الفعل الذي تآمرت فيه أم مع أب من الأشباح ضد وليد لم يفكرا بطفولته ولا برجولته وقت النزوة وليد يزداد شقاءه حين تقرر الأم دخول عالم الأشباح أيضا فيصير لقيط مطيع لمن آواه جاهز ليكون منطلقا لدورة تطور الجريمة.
ألئك الأطفال صاروا رجالا ونساء فقدوا هوياتهم وأصبحوا أكثر عرضة للتجنيد الإجرامي وهم ضحايا ظلم مقيت لم يعاقب جناته رغم إدانتهم من قبل القضاء الذي عطلت الدولة نفاذ أحكامه في تلك الإدانات استجابة لضغوط أجنبية حكمت الهوى فصارت قاصرة التفكير القانوني.
كان من الجدير بجهاتنا الرسمية تبيان محاسن الشريعة الإسلامية لأولئك بدل تعطيل حدودها التي قررت عقابا للزاني تضمن جانبا إصلاحيا لمن لا تجربة له وآخر استئصالي لمن له تجربة زوجية مقسمة النسب إلى: 1-نسب سلالي وحكمي ،2- ونسب حكمي غير سلالي تستره علاقة الزواج ما لم يقع اللعان ، 3 -ونسب سلالي غير حكمي وهو نتاج الزنا.
واختلط الحابل بالنابل في مناخ يسمح بظهور جميع تلك الأصناف سببته ثقافة هجينة تجمع بين خصائص القيم الإسلامية في مجال الزواج وخصائص ثقافة أخرى تبشر بها إباحية تنشرها قنوات ومواقع كثيرة .
كان المجتمع المسلم يحتاط لمستقبل العوائل والطفولة حين استوجب إبرام عقد الزواج قبل الخلوة لدرايته بما قد ينشأ عن الخلوة خارج نطاقه من ظلم للصغار وضرر للكبار لأن الإنسان مختلف عن بقية الثدييات التي تستطيع بعض صغارها مسايرة القطيع في يومها الأول.
وكان استمرار الزواج هو الهدف المنشود إسلاميا لكن إذا حصل الفراق كانت حقوق الأطفال في مأمن من المخاطر.و بيرنارد شو يقول إن أكثر أنواع الزواج أخلاقية أن تقرر الزواج أولا ثم يتلو الزواج الحب.
وعلى الضفة الأخرى نشاهد القنوات الإباحية تنقل أفلاما تتحدث عن علاقات تعايش وخلوة تتم قبل الزواج وقبل توافر أي ضمانات للأم اتجاه الأب ومع ذلك تقبل الإنجاب منه فيتخلص منها معاودا الكرة عدة مرات مع عدة نساء إلى أن يقدر الحب عليه مع إحداهن فيبرم معها العقد الذي يتعلق ضمنيا بالجوانب المالية المرتبطة بميراثها وميراث أبنائها منه ، بينما النسب السلالي لبقية الأطفال لا يعطيهم حقا. فما هو معنى السبب ، وما هو معنى الحب؟
تأثر مجتمعنا بتصادم النمطين أثناء بحث الفتيات عن الحلم الزوجي وهي حالة تتطلب منهن البرهان على العفة و القناعة وعزمهن نصر فرسان الأحلام في تحقيق طموحاتهم الحياتية النبيلة ، وقد يفشل مشروع إحداهن ولا تتمكن من تصحيح أخطائها الناشئة عن تسلط أفكار تعطي قرائن على عدم العفة و القناعة فتستمر في غيها كحاطب ليل إلى أن تلدغها أفعى سامة.
الأفلام المذكورة عمدت إلى تشويه الصورة المشرقة للحب الذي هو سلوك وشعور مطلوب من كل مسلم حتى لا يكون في قلبه غل للذين آمنوا فصورته عكس حقيقته المعنوية التي يستلهمها الشعراء لوصف ملاك يجمع كنزا معنويا من العفة والقناعة والأخلاق الفاضلة والجمال ربما زار طيفه وتوارى شخصه الكريم كما في الأدب الشرقي الذي بني القيم الرفيعة فصار الغزل مبتدأ لمدح المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي جمع جميع الفضائل وعصم من الرذائل.
وفي مجتمعنا لا تقبل الثقافة السائدة الجمع بين الحب والصبر لكنه لا مناص من ذلك ما دام جوهر الحب الزوجي في حقيقته ليس سوى توحيد للأهداف والطموحات ، فمن اختلفت طموحاتهم وضاقت صدورهم ستنقلب حياتهم جحيما حتى ولو كانوا من أبناء العمومة لأن علاقات الدم لا تحمل في جيناتها توافقا في وجهات النظر ولا لنا اختيار قرابتنا حتى ننتقي من يلائمنا في الطباع والأهداف كما يس لنا اختيار قبيلة أو شريحة فأنبتنا الله إنباتا رغما عنا في بيئة بشرية لها حقوق علينا ولنا عليها حقوق، مفروض علينا فيها رد الجميل للوالدين ببرهما والقيام بشؤونهما وعلينا حقوق أخرى للرحم وللجيران وبقية المجتمع حكاما ومحكومين وجعل الله من حكمته أداء تلك الواجبات ضرورة من ضرورات استمرار الإجتماع البشري .
فرض ربنا على كل فرد واجبات ستستمر الحياة باستمرار أدائه لها كأمانات وستتوقف بتوقفه فتقوم الساعة التي من علاماتها أن تلد الأمة ربتها فتستمر الأم في حمل أثقال البنت وأثقال رجال بلغوا أشدهم غير مؤهلين للقيام بشؤونهم الخاصة فأحرى الأمور العامة لينتهي مبرر وجودهم ووجود كل إنسان على الأرض فتقتلعهم القدرة الإلهية منها أرواحا لا أجساما ويتوقف دور الفرد الذي يتم تقييم دوره في ما تجسد من الهدف الكبير الذي كان سببا لوجوده عليها أول مرة.
نحن إذا نسعى أثناء الحياة لتحقيق هدف كبير وأهداف مساعدة وسيطة بينا وبين تحقيق ذلك الهدف ، لأن الدنيا مطية الآخرة لمن أحسن ركوبها، وتلك الأهداف حدد لها الباري ضوابط شرعية وأخرى عقلية خوفا من إتباع الهوى.
مربط الفرس بين تلك الضوابط يهدف إلى تجسيد رسالة العدل الخالدة التي تمنع الظلم الذي حرمه الله على نفسه وجعله بيننا محرما فألزم القاضي والمفتي بضوابط وقواعد تمنعهما من إتباع الهوى والإدعاء على الله ليتواصل الأمر به شاملا جميع مقامات البشر الدنيوية صعودا وهبوطا حتى وصل السوقة فحتم عليهم الاحتكام لآلات تضبط الكيل والوزن وفرض على البشر جميعا تحكيم ميزان العقل الذي لا يلتبس معه حق بباطل والذي كان تشغيل طاقته سببا لتراكم العلوم والمعارف حتى وصلنا ثورة المعلومات وتحقق رفاه دنيوي عظيم.
أساس العدل يرجع إلى العهد الذي تحملنا به أول مرة حين خلقنا الله من مادة الإعمار في الأرض (ماء،طين) وكلفنا بالإعمار الروحي والمادي وأرسل إلينا رسلا من بني جلدتنا جمعوا الفضائل وعصموا من الرذائل وخلق الشيطان من نار مدمرة فعاصى ربه فلعنه لعنة جعلته جامعا للرذائل داعية إليها.
صراع الفضيلة والرذيلة صنع كفتي ميزان للخير والشر وهو ميزان لا يميز البشر على أساس النسب مادام العدل قضي على مقترف الرذيلة باللعنة والهوان الأبديين حتى ولو كان عما لنبي أو ابنا له ، بينما قضي على المتمسك بالفضائل بالنبل والسعادة ولو كان جنيا خلق من مارج من نار ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة.
هذا القدر يدعونا إلى رسم الأهداف الكبرى التي أمرنا الله بها والتي منح لنا لانجازها آلات كالجسم وطاقته البدنية و العقلية (العلم) وطاقتنا المالية التي ينبغي أن نوظفها في هوايات تتعلق بتحقيق الهدف الكبير أو الأهداف الوسيطة .
وفي الغالب يستخدم مرضى القلوب بعض تلك الآلات في غير ما أعدت له كنشر البغض والحسد والغيبة والنميمة فتكثر الخصومات والنزاعات والإستكبار في الأرض بغير حق وتشتعل الحروب التي تخدم أهداف ابليس الذي له أو لياء لبس عليهم فاستكان بعضهم وسفل حتى لم تبق له أهداف في الحياة ، وأولياء أخر وظفوا علمهم وطاقتهم البدنية في تحصيل المال الذي وظفوه بدوره في إشباع غرائزهم الحيوانية وتصوروا هذا كأسمى غاية في الحياة حتى لم يبق مكانا للعالم الآخر في تلك الأجندة.
وحملهم على إتباع الهوى فعطلوا ميزان العقل عند تزكية من يتولى شؤون الناس أي عند الإنتخاب الذي لا يجوز فيه اختيار غير العدول لا اختيار مفضول مع وجود فاضل.
ولما نستحضر قاعدة أن العدل أساس الملك ونجمع مضمونها مع ما أثبتته تجارب تاريخية تحكي سير عظماء بدأوا مسيرة ملكهم بالعدل تطبعا أنجزوا إنجازات تراءت للرعية التي عليها الحكم بالظاهر فعظمتهم ووالتهم فلما تم لهم ذلك حتى نكصوا مستبدين محكمين للهوى آمنين مكره الله فقوضين دعائم الملك التي قام عليها أول مرة عندها تقتلع أوتاده من الأرض وينتهي بموت فجأة أو عاصفة ثورية أو انقلاب فيذهب جفاء مثل فقاعة الزبد، وعندها يعلم الذين ظلموا أن صاحب الملك الحقيقي لا يمنح للبشر ملكا مطلقا وإنما يقيدهم بقيود تمثل شروطا للتعيين على تولي جزء من الأمانة الكلية ، تلك القيود منها ما يلزم الحكام باحترام الناس كافة،ومنها ما يتعلق بعلاقاته بالرعية والعدل بينها بما فيه إنصاف البعيد وعدم محاباة القريب الذي تجب صلة رحمه بحلال لا بحرام، ومنها ما يتعلق بعلاقته بالله الذي حرم الظلم على نفسه وجعله بين البشر محرما فلا تظالموا.
وفي الغالب الأعم توجد في كل المجالات ضوابط تشكل ميزانا يوازن مواقف الإنسان في مواجهة جميع الأمور غير أنه قد توجد مجالات تتسلط فيها العاطفة والهوى فلا يبقى للعقل من سبيل ،عندها يتحتم على الإنسان تشغيل مكابح النفس حتى لا يميل فيضل مفضلا البعض على البعض حسب الهوى فيعتدي على حقوق الناس.
ومن صور ذلك العدل بين الزوجات عند تعددهن ذلك التعدد الذي لا ينبغي إلا لمن له قدرة على جهاد النفس تمكنه تشغيل مكابحها حتى لا يميل كل الميل فتبقى إحداهن كالمعلقة.
فالمصطفى صلى الله عليه وسلم قهر مجال الميل العاطفي بتلك المكابح فصار مجال عدل وتهذيب للنفس وتحرير لها من أسر الشهوة وشاركته في ذلك أمهات المؤمنين ليجد نساء البشر في سلوكهن مثالا يحتذى في الإيثار والزهد والعفة وكبح جماح الغير، تلك القيم التي جعلت نساء النبي أرفع منزلة من نساء العالمين.
وفي واقعنا نشاهد إيثارا لأضداد تلك القيم من قبل النساء وعدم تشغيل للمكابح من قبل أغلب الرجال ما سبب انهيار أسر كثيرة قبل الإنجاب لا تعدد فيها للزوجات وهو انهيار سيقضي على لبنة المجتمع والدولة، تلك اللبنة التي من دونها ستبيض الجريمة بيضة يفرخها غزو إعلامي ثم يحميها ضغط أجنبي يعطل أحكام القضاء فنبقى تائهين في اتجاه لا يكون العدل فيه أساسا للملك.