كل الدول التى احتلت الريادة العالمية فى الإنتاج والتطور إنما وصلت إليها عن طريق سواعد أبناءها لأوفياء، ممن حملوا مشعل العلم وأناروا الدرب، والمتفحص بعمق يجد أن جانب التكوين والتأهيل هما أكبر عامل فى الرفع من المستوى الاقتصادي والحد من البطالة على حد السواء.
فى عام 1991 تم إنشاء مشروع للتكوين المهني لحل مشكلة قائمة آنذاك وظل المشروع كغيره قيد التجربة بضع سنين، ليتم تحويله من مشروع إلى مراكز جهوية شملت جل عواصم ولايات الوطن تابعة لمركز التكوين والتدريب المهني في نواكشوط، ومن ثم تم تحويل هذه المراكز الجهوية بموجب القرار: 089 الصادر بتاريخ 1998 إلى مراكز للتكوين المهني ذات استقلالية مالية وإدارية، تسند مهمة إدارتها لأشخاص حسب ولائهم السياسي.
إبان طور التجربة ونظرا للنقص الحاد في طواقم التأطير المهنية تم اللجوء إلى ممتهنين وكل من يحسن السكوت عليه لسد الفراغ الناتج عن رحيل جيل التأسيس من الدول الشقيقة لأماكنهم الأصلية "تونس، المغرب..." مما ترك الحبل على الغارب لمن تنقصهم الكفاءة ويعوزهم التأطير، اللهم إلا بعض الوجوه القلية، لتدريس التخصصات المسندة إليهم في كثير من المؤسسات المهنية الشيء الذى أفقد هذه المؤسسات مصداقيتها إذ من المفترض أن تخرج "متدربين قادرين على الكسب ذوو كفاءة منافسة في السوق المحلية" وجعل الكل يشكك فى قيمتها والدور الذى تقوم به.
وبما أن الاكتتاب فى هذه المؤسسات يتم عن طريق التعاقد المباشر مع المخول فقد ظل تبعا لأمزجة القائمين عليها سوى بعض الحالات النادرة والتي تفرضها طبيعة المرحلة ووضعية التخصص، مما سمح لبعض من لديهم الكفاءة المهنية بمزاولة مهمة التدريس داخل هذه المؤسسات، ورغم عددهم الضئيل والذي لا يتجاوز في مجمله 66 مكونا فقد بثوا فيها روح العمل وأعادوا شيئا من الاعتبار.
ولينتقل هذا القطاع من وصاية الوظيفة العمومية وكمرحلة لاحقة تم إنشاء كتابة مكلفة بالتكوين المهني عهد بإعداد برامج للتكوين المهني تحت إشراف المعهد الوطني لترقية التكوين التقني والمهني، ولأول مرة تم اكتتاب 30 أستاذ تقنيا تم تحويلهم إلى مراكز التكوين كجزء من الإصلاح المرتقب بعدها انتقل القطاع من كتابة للتكوين المهني إلى وزارة للتكوين المهني بمسمياتها المختلفة والتي آخرها وزارة التشغيل التكوين المهني وتقنيات الإعلام والاتصال.
خلال هذه الفترة دخل القطاع الكثير من الأستاذة التقنيين المكتتبين عن طريق الوظيفة العمومية مما ولد شرخا بين مكونتين هما ركيزة التكوين المهني فى موريتانيا.
إذ يعتبر الأساتذة المحولون إلى مراكز التكوين المهني أنهم لا ينطبق عليهم حكم العمل فى هذه المؤسسات باعتبارهم أستاذة مرسمين فى الوظيفة العمومية بموجب قرارات ترسيم صادرة عن الوزارة.
أما مكونو مراكز التكوين المهني البالغ عددهم 66 مكونا ممن أثبتوا جدارتهم فى هذا القطاع ولديهم عقود مفتوحة مع هذه المؤسسات وهم الركيزة الأساسية لها كغيرهم من أصحاب الوظائف الإدارية فإنهم عمال محليون لا يحق لهم أن يستفيدوا من شيء نطرأ لغياب الإطار القانوني الناظم لوضعية الأشخاص داخل هذه المؤسسات، هذا "إذا استثنينا بعض الإشارات الخفيفة فى مدونة الشغل والاتفاقية الجماعية وبعض ترتيبات قانوني: 009/93 و082/2016 والمعدل بـ061/2017" وعليه فهم تبع لأمزجة من يديرونهم إذ لا يحق لهم الترقي فى الوظائف وليس لهم الحق فى علاوة ما إذ لا يشملهم النص القانوني.
ذلك ما جعل الباب مفتوحا على مصارعيه لتلك الفوضى العارمة فى تسير مؤسسات تتمتع باستقلاليتها الإدارية والمالية جعلها إقطاعا لمن يولون تسييرها، فتجد ما بين المستويين العلمين تباينا وضاحا فى الرواتب والامتيازات كما تجد من يفتقر لمؤهل علمي أعلى راتبا من له مؤهل علمي عالي ناهيك عن الزبونية والمحسوبية... مما يؤكد الفوضوية الحقة فى تسيير هذه المؤسسات وقل أن تجد مؤسسة منها يستوي فيها اثنان لهما نفس المؤهل.
إن عدم اعتناء الدولة بهذا القطاع جعله مسرحا لممارسة السياسة الفرعونية {فاستخف قومه فأطاعوه} ويحكم فيه بما تهوى الأنفس وما تمليه الرغبة. إن سكوت الدولة عن هذا القطاع وإن كان "واجهة السياسة ومصب الخطابات - فلا يخلو خطاب من ذكر للتكوين المهني" جعل مصير طبقة عاملة فيه عريضة في مهب الريح.
والقارئ لواقعه يجد أن سياسة الدولة في الاكتتاب واستحداث الثانويات والإعداديات الفنية منبئ بزواله وأن مصير هؤلاء مرهون بإحدى ثلاث:
- إما أن يشارك احدهم في مسابقة للوظيفة العمومية إن كانت السن تسمح بذلك ولو فى غير قطاع التكوين المهني فيربح اعتمادا ماليا.
- وإما أن يستقيل لسأمه من الوضعية المزرية والعمل الشاق وتدني الراتب.
- وإما أن يبقى مرابطا إلى أن يدركه التقاعد أو يجد عصا سحرية يترقى بها من وظيفة لأخرى بلا ضابط ولا قانون.
فى تعليق مكشوف للتكوين المهني على حبال المشنقة. فهل من مغيث؟