إسهاما منه في إنارة الرأي العام وتأصيلا للموقف الرسمي الذي أعلن عنه فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، والداعي إلى محاربة ونبذ عادة الإسراف والتبذير في المناسبات الاجتماعية.
وانطلاقاً -كذلك-من مهمة المجلس بالتوعية والتحسيس بأحكام وأخلاقيات الشرع الإسلامي رأى المجلس الأعلى للفتوى والمظالم أن ينشر ما يلي:
موقف الشرع من الإسراف والتبذير في المناسبات الاجتماعية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحابته ومن اهتدى بهداه؛
وبعد، فإنّ من أعظم المصالح التي جاءت بها شريعة الإسلام وما سبقها من شرائع السماء حفظَ المالِ من الضياع والإتلاف، وقد تقرر عند علمائنا أن ذلك من كليات الشرع الراجعة إلى الضروريّات التي لا تنتظم الحياة ولا تقوم دونها. [يُنظَر مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور: ص:190].
فمعظم القواعد الشرعية المتعلقة بالتشريع المالي تعود لحفظ أموال الأفراد وهي بذلك آئلة إلى حفظ مال الأمة؛ فمنفعة الثروة الخاصة عائدة بالنفع إلى الثروة العامة، وقد جاء حفظُ الشارع للمال ـ كغيره من الضروريات ـ من جانب الوجود بتشريع ما يقوم به ويَثبُتُ، ومن جانب العدم لما يدرأ عنه الاختلال والفساد. [يُنظَر الموافقات: 2/ 265].
يقول جلّ وعلا: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً}. [النساء: 5].
قال الطبري: "معناه: لا تؤتوا أيها الناس سفهاءكم أموالكم التي بعضها لكم وبعضها لهم فيضيعوها". [جامع البيان في تأويل القرآن: 7/ 568] فالمال وإن كان ملكُه في الظاهر خاصّا، فإنّ ارتباط مصالح الوجود الإنسانيّ به جعل فيه حقّا للأمّة جمعاء فأُمِرت بحفظه وإقامة ما يصونُه.
بناء على هذا الأصل العظيم في الإسلام، فإنّ ما يشيع في بلادِنا من المغالاة في المهور، وما ينتشر من تبذير في المناسبات الاجتماعية، وإسراف في الولائم، وتكلُّف الهدايا... إلخ تلك المنكرات أمورٌ مخالفةٌ للشرع، منكَرَةٌ في الإسلام؛ لما يترتّبُ عليها من المحرّمات، وما ينشأ عنها من المفاسد، ومن أعظم ذلك شيوعُ ظاهرتين مُضرّتين بالمجتمع وأخلاقه ومصالحه:
الأولى: ظاهرةُ التبذير والإسراف، والتبذيرُ صرف المال في وجوه الإنفاق المحرّمة كسهرات السّفه والاختلاط المحرّم، وقد حرّم الله التبذير فقال: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً}. [الإسراء: 26-27].
وأمّا الإسراف فهو الإنفاق الزائد عن الحاجة في وجوه النفقة الجائزة، وهو أيضا محرّمٌ مذمومٌ؛ قال تعالى: {ولا تُسْرِفوا إنّه لا يُحِبُّ المُسرِفينَ}. [الأعراف: 31]، وقال سبحانه مخاطبا رسولَه وصفيَّه صلى الله عليه وسلّم: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً}. [الإسراء:29]، ووصف عبادَه الأخيارَ فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يُقْتِرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}. [الفرقان:67].
فإنَّ الإفراط في تناول اللَّذّات والمباحات، وإنفاقَ المال بسرَفٍ في تحصيلها، يفضيان غالبا إلى استنزاف الأموال والشَّره إلى الاستكثار منها، وفي ذلك من المفاسد ما فيه؛ فإذا ضاقت على المُسرِف أموالُه تطلَّب تحصيلَ المال وجمعَه من وجوه الفساد وطُرُق الحرام، فيكون ذلك دأبَه، أو يعيشُ في كرْبٍ وضِيقٍ، وربَّما تطلَّب المالَ من وجوهٍ غيرِ مشروعة، فوقع فيما يُؤاخَذُ عليه في الدنيا أو في الآخرة، ثم إن هذا يُؤَدِّي إلى أن يوصِلَ عياله ومن ينفِق عليهم إلى خصاصة وضَنكِ معيشةٍ. [يُنظَر التحرير والتنوير: 8/ 124].
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلّم قال: "إن اللهَ يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا... إلى قوله: ويكره لكم قيل وقال، وكثرةَ السؤال وإضاعة المال". [صحيح مسلم ].
الثانية: ظاهرة العنوسة في النساء والعزوبة في الرجال، وفيها من المفاسد الاجتماعية والأخلاقية ما لا يخفى على أحدٍ، فإنّ الله تعالى جعل النكاح من الفطرة ومن سُنن المرسلين؛ {ولقد أرْسلنا رُسُلا من قبلِكَ وجعلنا لَهُم أزواجًا وَذُرِّيَّةً}. [الرعد: 38]، وهو سبيل للعفّة والطهارة وقرّة العين وبناء أواصر الصِّهارة والمودّة والقرابة}، {وهوَ الذي خلقَ مِنَ المَاءِ بَشَرا فجعله نسَبًا وصهرا}. [الفرقان: 54] .
وليس النكاحُ في الإسلام طريقا إلى التبذير وتضييع المال والإسراف في غير طائل، فذلك منافٍ لمقاصد الإسلام في الزّواج، ومخالفٌ لأحكامه.
ومن هنا فإنّ المجلس الأعلى للفتوى والمظالم-إذ يُثَمّنُ ويُشيدُ بتعليمات فخامة رئيس الجمهورية محمّد ولد الشيخ الغزواني لأعضاء الحكومة بالتثقيف الشامل لكافَّة فِئات المجتمع من أجل الكف عن الإسراف في المناسبات الاجتماعية، والابتعاد عن مثل هذا التصرف المشين والمنافي لقِيَم الدّين والأخلاق-ليؤكِّدُ على وجوب التعاون من الجميع على البرّ والتقوى وعلى التعاضدِ للقضاء على هذه المفاسد والظواهر المخالفة للشرع، وينَبّه إلى:
1-ضرورة السّعي لتيسير الزواج وتسهيل أمره، فإنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: "خير النكاح أيسرُه". [ابن حبّان].
2-البعد عن التغالي في المهور والتباهي بالسرف المحرّم والتنافس في مظاهر التكلّف والبذخ، فإنّ في هذا من الفساد وإعنات الناس وصدّهم عن سبيل الحلال والسّكن ما نعلمه جميعا، وقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قال:" خير الصداق أيسرُه". [البيهقي]، وقال: "التمس ولو خاتما من حديد". [متفق عليه [؛
3-الحَذَر من عادات الإسراف والتبذير المصاحِبةِ للمناسبات الاجتماعية فهي من المنكرات التي يجب القضاءُ عليها، وإسهام الجميع في محاربتها ترغيبا للشباب في الزواج، وتسهيلا لإشاعة الحلال؛ ففي حديث أنس رضي الله عنه قال: "ما أولم النبيُّ صلى الله عليه وسلّم على شيءٍ من نسائه ما أولم على زينبَ بنتِ جحش، فإنَّه ذبَحَ شاةً". [متفق عليه]، وفي الصحيح أنّ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تزوّج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم امرأة على وزن نواة من الذهب (نحو خمسة دراهم وقيل ثلاثة) فقال له صلى الله عليه وسلّم: "أولم ولو بشاة". [صحيح مسلم].
واللهُ يُوَفِّقُ الجميعَ لما يُحِبُّه ويرضاه.