عندما يعم الغموض المشهد، وتلتحف الحقيقة الظلام، يصبح لزاما علينا أن نقتحم الزيف، أن نعري الوجوه الصدئة، يجب علينا إذا لزم الأمر أن نكون حطب نار تحرق ذاك الظلام الذي تنمو تحته وبكل وقاحة جذور الطغيان.
بعد عقد ونصف من الصراخ والعويل والخطب الرنانة والقهقهات الماجنة، بعد عقد ونصف من الصبر والتعقل والترقب والدعاء والإنتظار وصرف الأنظار، من التدبير والتكشير والتنظير، عم صمت متعدد الأوصاف كل زاوية في جسم هذا البلد، وجده البعض مهيبا، والبعض الآخر اعتبره مريبا، بينما عند آخرين مرعب ومخيف.
من حقنا أن نقلق عندما يخيم الصمت على غابة من القردة، من حقنا أن نشعر بالريبة عندما تربض فجأة جميع الضواري باسطة الأذرع تحدق في الفراغ وكأنها تنتظر أمرا أهم من الطرائد التي تمرح في الوادي.
يحب الحكام الغموض وهم بارعون في خلقه، لأنه يمكنهم من فعل ما يريدون، وتكرهه الشعوب الحرة لأنه يصنع الطغاة، فالمكاشفة رمز العفة، والصمت يغلق الأبواب في وجه كل شئ ويفتحها لأي شئ.
تجلب الثروة الخراب وتجلب السلطة الشر، لذلك ليس من الإنصاف أن نحسن بهما الظن، والحاكم العادل هو الذي يتترس بإيمانه والخوف من الملك الحق، الملك الواحد، ليبقي تحت دائرة النور.
إن الصمت والغموض ليسا وليدا البساطة والتواضع، ولا شئ فيهما يبعث على الاطمئنان إنهما الأداتان الأمثل للقوة الغاشمة.
إن السياسة هي لعنتنا، إنها افيون المثقف، ومسكرة العقلاء، لذلك من حقنا الحصول على ركن نمارس فيه حقدنا عليها واحتقارنا لها، لأننا نكرها وهي تزأر ونكرهها وهي تصرخ ونكرهها أكثر حين تدعي الوقار.
لقد سكتت المعارضة وسكتت الموالاة، سكت اليمين وأقصي اليمين ثم سكت اليسار واليسار المتطرف، سكت الحقوقيون والمهربون والقافزون، سكت المغاضبون والمصفقون، وحتى العازف سكت فجأة مع الساكتين.
فقط، وفي قمة زخم صراخهم يهمس شيء في آذانهم فيسكتون، بدون تمهيد ودون مبرر، فقط يعم الصمت، يجتاحهم، يكتسحهم، فما الذي ينتظرونه؟ هل ينتظرون انهيار السد؟
أي جنة أغرتهم، وأي نار أرهبتهم؟
هل كنا داخل عجلة عملاقة تدور بنا منذو عقد ونيف، وتم إيقافها فجأة بكبسة زر؟
إذا لم يكن الأمر كذلك فإن الشعور الذي يسيطر علينا مشابه تماما.
هل كنا جميعا: المعارض والموالي والحقوقي والصحفي ورجل الأعمال والمواطن، نهرول بكل ما نملك من قوة هربا من مجهول لم نكلف أنفسنا عناء سبر أغواره، مرتبطا عضويا بالرئيس السابق وعندما رحل توقفنا جميعا في لحظة صمت لاهثة.
إذا لم يكن الأمر كذلك فإن الشعور الذي يسيطر علينا مشابه تماما.
وفي الحالتين يجب الإبقاء على الصمت لأننا نشعر بدوار عقد كامل من الزمن، وغثيان عقد كامل، وعرق عشر سنين، علينا أن نصمت ونترقب لأننا لا نصلح إلا لذلك، حتى تسيير الأمور لا نصلح له بسبب الدوار والغثيان والعرق.
لقد كنا جميعا ندور وكان هناك رجل واحد واقف ومعاونيه يرمقنا بقسوة عشر سنين ثم استدار ورحل...