{إن الذين قالوا ربنا الله ثُمَّ اسْتَقمُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلئِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَيوةِ الدُّنْيا وَفِي الاخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رحِيمٍ وَمَن احْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صلِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} صدق الله العظيم سورة فصلت.
ثمة رجال يعاد إنتاج سيرتهم وحياتهم بعد موتهم وبصورة مستمرة، ومن هؤلاء والدنا الراحل العارف بالله الشيخ أحمد مولاي زين "الداه"، طيب الله ثراه وأكرم مثواه وجعل الجنة مستقره ومأواه.
في بحر شهر مايو / أيار الماضي، التقيته على غير موعد في مساء مشهود لدى "حضرة" أم المساكين والدتنا الشريفة البركة: (خديجة بنت اشمدة – خداجة) برد الله مضجعها وأحلها الفردوس الأعلى من الجنة - وكانت في أيامها الأخيرة – قال لي بعد السلام والسؤال عن الحال: "جيت اليوم زاير وامسلم اعل خداجة، وأران خليتلك رسالة في نواكشوط، عند محمد ولد أهل الكوري السالم، وربما يكون هذا آخر لقاء لنا).
تلقيت هذه الجمل المودعة على أنها من كلام القوم "الصوفية" الراحلين باستعدادهم للموت دائما، ثم أدركت لاحقا أنني لن أستقبل مرة أخرى ذلك الوجه الوضاء وقد أقبل طالع سعده حاملا بيمينه (مغرجه) ذو الذؤابتين وسبحته السوداء، كأنه قادم إلينا في مجلس دمن شيخنا الوالد "محمد بن اشمدة - بدي" نضر الله روضته وأعلى منزلته، بل لن أقبل يده في ازدحام مريدي الحضرة المعالية في أيام أعياد "آكرج" التي يتوافد فيها التلاميذ زرافات ووحدانا، هو إذا حديث مودع على قارعة طريق طالما استعد لها، وأحقُّ الناس بالرضا عن الله، أهلُ المعرفة بالله عَزَّ وجل.
إن اجترار معاني تأبين للشيخ أحمد يعني كتابة سيرة ومسيرة ذاتية الشخوص، جماعية النعوت، مزدوجة الأبعاد، لرجل من أولي العزم من مجتمع أسهم في إنجاز مشروعه الحضاري والاجتماعي، دون الوقوع في متاهات الجذور المتقاطعة مع الدفاع عن قيمه ومبادئه السامية.
لقد ظل الراحل أحد ملهمي "مسادير" التربية والطريقة القادرية الذين عبدوا طريق النسك أمام الأجيال والحفدة، ومثلوا سفارة "الحضرة المعالية" عبر مجابات مرتفعات وسهول وأودية وكثبان: التجال "آكرجات الثلاثة" و"لحنيكات" و"أكيرت" و"تنكراش" "...يمارس رياضة روحية تتجاور مع العزلة والخلوة والذكر والبعد عن ملذات الدنيا وزخرفها، وتسافر بالمريد إلى معارج الترقي في مقامات الإحسان والتخلي والتحلي في سبيل إعداد الباطن وتهيئته لتلقي أنوار المعرفة عن الله تعالى. ملازما الذكر أو الصمت بغية السلامة والغنيمة، إذ الصمت رسالة إنصات للوجود، والإنسان في هذا الزمان المليء بالضوضاء شديد الحاجة إلى الصمت والسكون.
وجدد البيعة والزياره *** دوام دهرك مع الخفاره
قبل زهاء ثمانية عقود، أطل على الدنيا لأبوين كريمين هما: مولاي ولد زين، وعيشة "اماه" محمد محمود الولي، ولد هو: أحمد ولد مولاي ولد زين. عاش الولد أول حياته في حضن أبوين حرصا – كغيرهما – من بيوتات الزوايا على البدء بتعليم الأبناء القرآن الكريم والعلوم الشرعية وهم في سن مبكرة، حيث تتلمذ وهو يافع حدث على الشيخ المقرئ النسابة وقتها: محمد بن الولي رحمه الله، ثم بعد الدراسة في محيطه بدأ رحلة تحصيل خارجي قادته إلى إحدى أمهات محاضر آفطوط، محظرة العلامة المرابط: أواه بن الطالب إبراهيم التاكاطي، ثم من أهل الطالب محمد بن أعمر بن عثمان بن يوسف (ت 1955 م)، فقد أدرك آخر حياته ونهل من زلال الفقه المالكي الصافي وعل بتكوينه التخصصي بهذه المحضرة كما هو السائد فيمن تخرج من الكتاتيب الأهلية والمحاضر القرآنية.
وبحكم العلاقة الروحية المتينة بين والدة الراحل والقطب الرباني الصالح الشيخ أحمد أبي المعالي بن الشيخ أحمد حضرمي، فقد حدثني الوالد حفظه الله تعالى وتولاه بولايته العظمى، قال: (ثلاث نسوة من سوباك ما رأيت مثلهن في التتلمذ، عيشة بنت الولي، وفاطمة بنت المختار، وآمنة بنت الولي، فقد شكل سفري الأول بهن أنا وسيدي محمد بن المختار رحمه الله تعالى، بداية العلاقة مع أشياخنا المعاليين). وكذلك مجاورة محضرة المرابط" أواه" لمجال ظعن حضرة الشيخ أحمد أبي المعالي وترحالها، كلها عوامل قضت بتشكيل ملامح فتى نشأ منذ صغره وهو مشتاق إلى معرفة الله تعالى ومحبته والفناء فيه.
وأفضل العلوم باتفاق *** علم به معرفة الخلاق
بايع الشيخ أحمد أبي المعالي وأخذ عليه الطريقة القادرية، ثم أصبح من صفوة مريديه الذين أجاب العلامة الجامع بين الشريعة والحقيقة محمد العاقب بن مايابى الجكني رحمه الله، عن حالهم في تلقيهم العلوم الظاهرة وأخذهم الأوراد السنية بقوله:
العلم نور وقلب الحبر مطلعه *** والقلب في الصدر مصباح بمشكاة
والورد للقلب مرآة ومصقلة *** وذم قلبا بلا صقل ومرآة
فمن تكن صلحت بالروض مضغته *** فالعلم في حقه أحرى المهمات
ومن تكن فسدت فالورد مرهمها *** وكم شفى الورد من داء وعلات
قال الغزالي في إحيائه وكفى *** به أخا ثقة سباق غايات :
أولى وظائف من رام التعلم أن *** يطهر القلب من رجس الرعونات
لا يترك الورد قال التاج نجل عطا *** ء الله إلا غبي ذو خرافات
علام لا يترك الجنيد سبحته *** وقد أناخ بحضرة المصافاة؟
هذا وما كان ورد القوم ترهة *** هوجا وما كان عن هوى بمفتات
لنا مشائخ في الأوراد كلهم *** أب ونحن له أبناء علات
توارثوا العلم كل عن أخي ثقة *** ثبت وما احتاج حالق لمرساة
عن جلة في العلوم عن جهابذة *** في الدين عن قادة للخير أثبات
إلى الجنيد وليس من يسير على *** قصد السبيل كمن يفري البنيات
خلال فترة ليست بالطويلة مارس الشيخ أحمد التجارة بإيعاز من شيخه وطلب من إخوته بعد وفاة والدته، لأن ملابسة الأسباب لا تعيق عن الله تعالى إذا كان خروج صاحبها وسعيه في سبيل الله:
أعلى مراتب التقوى التنزه *** عن شاغل عن الذي الأمر له
جاهد نفسه وصرف عمره في إصلاح قلبه أخذا بأن الدين ليس شيئا يحصله الإنسان ويقف سيره، ولا عملا يستراح منه، ولكنه عمل دائب لا ينتهي إلا بالموت {إنَّ في هَذَا لبَلاَغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} "الذين يحافظون على الصلوات الخمس".
فقد كان الشيخ طوال حياته - التي أدركنا - ذاهبا إلى ربه بالحال والمقال، ناكبا عما لا يعنيه، لا يفوه بما لا يفيد ولا يغني ولا يصغي إلى من يذم أو يثني، من شعائره: الدوام على الهيللة وتلاوة الذكر والفكر والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم ، من الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم واقشعرت جلودهم وتجافت جنوبهم، ملازما ركب العارفين بالله تعالى أضراب الفضيل بن عياض والشيخ عبد القادر الجيلي، والشيخ أبي البيان، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، والجنيد، والشيخ أحمد أبي المعالي وخليفتيه، وغيرهم، ممن سلكوا طريق صاحب الملة السمحاء، ولم يكن لهم غيرها من مراد، يحدوهم الاتباع ظاهرا وباطنا لأهل السنة والجماعة في مقدمة صنفهم السادس على حد تعبير عبد القادر البغدادي رحمه الله: "الزهاد الصوفية الذين أبصروا فاقتصروا، واختبروا فاعتبروا، ورضوا بالمقدور وقنعوا بالميسور، وعلموا أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك مسؤول عن الخير والشر، ومحاسب على مثاقيل الذر، فأعدوا خير الإعداد ليوم الميعاد، وجرى كلامهم في طريقي العبارة والإشارة على سمت أهل الحديث دون من يشتري لهو الحديث، لا يعلمون الخير رياء، ولا يتركونه حياء، دينهم التوحيد ونفي التشبيه، ومذهبهم التفويض إلى الله تعالى والتوكل عليه، والتسليم لأمره والقناعة بما رزقوا، والإعراض عن الاعتراض عليه {ذلك فضل الله يوتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}.
وإذا استنار القلب كنت مميزا *** ما كان من كل الخواطر يخطر
إنما يطفو على سطح هذه الأحرف من مناقب الشيخ أحمد "الداه" هو الجزء الصغير الظاهر للعيان، مثلما يظهر من جبل الجليد القائض في المحيط رأسه أو ذؤابته، في حين أن جسمه الضخم مطموس ومخبأ تحت الماء.
فالشيخ أحد الذين تفتَّحت لهم كمائمُ المعاقل عن زهرة الأنس بالله تعالى، وتحلَّى بعقود عُهودهم جِيِدُ كلِّ عصر تولى، في حلية الأولياء: "إن أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم".
قال شيخنا الشيخ التراد رضي الله عنه:
وعمر الأوقات بالتهليل *** فذاك أقوى سبب التحصيل
لمن يريد في إلهنا الفنا *** عما سواه وهو غاية المنى
وإن ترد بلوغ غاية المنى *** دع المنى من دون غاية المنى
هكذا ختم الشيخ مشوار حياته الوادعة المطمئنة بالتنقل بين حيه وحضرته كعبة المريدين ومجرة أنوار الذاكرين، فبعد هذا العمر الحافل بالتعرض لألطاف الله تعالى وتجلياته، انعزل الراحل في قريته "جابجولة" – المنعزلة - عن صخب الحياة وأدران البيئة، يعبد الله ويقوم على المسجد وينير درب سالكي سبيل المؤمنين بأوراده وأذكاره وأذانه وإرشاده وتوجيهه وسمته ودله وطلعته البهية حتى أتاه اليقين سعيدا وشهيدا ليل الجمعة العاشر من شهر محرم 1445 ه الموافق: 28 - 07 - 2023 في مرض بلا عواد كما اشتهى العارف بالله الفضيل ابن عياض تاركا وراءه فراغا لطالما ملأه في تلك المنقطة التي كان أهم عوامل الاستقرار فيها بعد رحيل والدنا الشيخ العارف المرابط: محمد الأمين بن الأمين فال تقبله الله في الصالحين.
مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة *** غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
وتم دفن جثمانه الطاهر بمقبرة "التوميات بمكطع لحجار" إلى جوار أمه التي كان برا بها في حياته، تغمده الله بواسع رحماته وأسكنه فسيح جنانه وإنا لله وإنا إليه راجعون.
لا زالت سُحُب الرَّحمة المُطَنَّبة بالقطر مخيَّمةُ على مرقده بـ"التوميات"، ولا برحْت تَحايا المُزْن مُهينِمة بلسان الرَّعد على معاهده، ما سقى غديرُ المجرَّة روضةَ السماء، وزَها نَرجِس النَّجم تحت بَنَفْسج الظَّلماء.