مضى ما يكفي من الوقت على بداية الأزمة الخليجية، وقد آن الأوان للتأمل في جذور هذه الأزمة، وإشراك القارئ العربي في شيء من الخلفيات التي تلبَّست بها هذه العاصفة، وبعض التأمل في المسارات التي قد تسيرها، والمآلات التي قد تنتهي إليها، وحصادها المرتقب، وبيان الرابح والخاسر فيها، وآثارها البعيدة على الوطن العربي، وما أنتجته من اصطفافات إقليمية ودولية، ومن تبدلات في الجغرافيا السياسية في المنطقة وفي العالم. وهذا سنحاوله في هذا المقال وما يليه من مقالات بإذن الله.
فليست الأزمة الخليجية "خليجية" في واقع الأمر، وتسميتها "أزمة خليجية" اختزالٌ لطبيعتها المركَّبة، وتجاهلٌ لارتباطها العميق بما يدور في الوطن العربي وفضائه الإقليمي، وأثرها العميق على خرائط التحالفات الدولية. ونحن إنما نستخدم تعبير "الأزمة الخليجية" هنا مجاراةً للاصطلاح الإعلامي المتداول. فلفهم الأزمة الخليجية لا بد من الرجوع إلى خواتيم العام 2010 وبواكير العام 2011، حين تفجَّر الجسد العربي ثورات شعبية، بعد أن أرهقه الاستبداد وأضناه الفساد. فهذه الأزمة ليست سوى عرَض لأزمة الشرعية السياسية العميقة التي كشف عنها الربيع العربي. وهذا ما يسوغ إدراجنا لهذه المقالات عن الأزمة الخليجية ضمن "أوراق الربيع".
إن أدقَّ ما توصف به هذه لأزمة -إذا تأملنا بذورها وجذورها- أنها تعبير عن صراع عميق بين رؤيتين إقليميتين متضادَّتين لمستقبل المنطقة، تبلورتا مع بدايات الربيع العربي، وتجلت كلتاهما فيما يشبه مدرسة في التفكير والتدبير السياسي. أما الأولى فيمكن تسميتها مدرسة "الإصلاح الوقائي"، وهي الرؤية القطرية-المغربية التي ترى أن تتاح الفرصة للشعوب لحكم نفسها -ولو تدريجيا- وبناء مؤسساتها السياسية بعيدا عن القهر الداخلي والنفوذ الخارجي، وأن الأفضل للحكام الذين نشبت ثورات في بلدانهم، أو ظهرت بوادر توحي بقرب ذلك، أن يلتقوا مع شعوبهم في منتصف الطريق، بما يحفظ على الثورات العربية طبيعة الإصلاح السلمي الذي بدأت به، ويجنِّب الشعوب والأوطان حروبا أهلية عدمية بين الحكام والمحكومين يخسر فيها الجميع، ويقي المنطقة مزيدا من الانكشاف الاستراتيجي أمام القوى الإقليمية المتربصة، والقوى الدولية الطامعة.
وترى هذه المدرسة أيضا أن القوى السياسية الإسلامية جزء أصيل من النسيج السياسي العربي، وأن الاستمرار في محاولة إقصائها -على نحو ما درج المستبدون في الوطن العربي- مجرد تأجيج للصراع في أحشاء المجتمعات العربية، وإبقاءٌ للدول العربية في حالة استنزاف ذاتي مدمرة. فالأوْلى القبول بالحركات الإسلامية ضمن خارطة القوى السياسية الشرعية، بدلا من محاربتها ونزع الشرعية عنها لصالح قوى خارجية تعادي الهوية الإسلامية، وتحارب حرية الشعوب العربية. وقد ترجم ملك المغرب ذلك عمليا في تسليم الحكومة للإسلاميين المغاربية بعد فوزهم في الانتخابات، وترجمته قطر عمليا في رفضها أن تكون جزءا من الحرب على القوى السياسية الإسلامية أو أي قوة سياسية عربية أخرى.
وفي مقابل هذه المدرسة توجد مدرسة "الثورة المضادة" التي تجلَّت في الرؤية الإماراتية-السعودية التي تسعى إلى استئصال حركة الثورات الشعبية، وإعادة الشعوب العربية إلى بيت الطاعة بأي ثمن، ولو كان خراب البلدان وتمزق الشعوب، وشن حرب شاملة على الحركات الإسلامية الديمقراطية التي هي رافعة الثورات وطاقتها المتجددة، وهي التي كشفت زيف الاستبداد المتلبس بلبوس الدين الإسلامي في بعض الممالك العربية، كما بيَّنه المدير التنفيذي لمنظمة (هيومن رايتس ووتش) الحقوقية، حين ذكر في مقال له صادر بموقع (الجزيرة) الإنكليزي يوم 26 يوليو 2017 أن "جوهر ما يراه ملوك الخليج خطراً في الإخوان المسلمين هو أن الإخوان يقدِّمون رؤية للحكم الإسلامي تتأسس على صناديق الاقتراع".
هذه هي الصورة الكلية، وما سواها مجرد تفاصيل وخلافات هامشية كان الجميع متعايشين معها. وحين تحدث سفير الإمارات في واشنطن يوسف العتيبة منذ بضعة أيام عن "خلاف فلسفي" بين قطر والدول التي تحاصرها كان محقا. لكن الصراع لم يكن حول الإسلام والعلمانية كما زعم العتيبة تملقاً للمشاهد الغربي، وإنما هو خلاف فلسفي حول الاستبداد والحرية، وحول مناهج التغيير الأسلم للمنطقة وشعوبها، والتعامل مع قواها السياسية والاجتماعية -إسلامية وغير إسلامية- بعقلٍ وعدلٍ. وهو أيضا خلاف حول مكانة العرب في العالم: ذلا سياسيا وتبعية على طريقة أدلاَّء قوافل الاستعمار في الزمن الغابر، أو استقلالَ قرار وحرية على منهج الأمم المعاصرة التي تحترم ذاتها.
وقد وجدتْ كلتا الرؤيتين سندا إقليميا لها، فانضمت تركيا إلى المنظور القطري-المغربي، وانضمت إسرائيل إلى المنظور الإماراتي-السعودي. واجتهد معتنقو كل من الرؤيتين -وجميعهم حلفاء لأميركا والغرب- إلى إقناع حلفائهم الغربيين وبقية القوى الدولية بسداد ما ذهبوا إليه في قراءة الثورات العربية وفي التعامل معها. فقد سعت مدرسة الإصلاح الوقائي القطرية-المغربية إلى إقناع القوى الدولية بتكييف مصالحها مع عصر الشعوب في الوطن العربي، والتحرر من ربط مصالحها الاستراتيجية بعيدة المدى بقادة قمعيين فاشلين تمقُتهم شعوبهم. بينما سعت مدرسة الثورة المضادة الإماراتية-السعودية إلى إقناع القوى الدولية بأن انتصار الشعوب في ثوراتها سيكون خسارة كبرى لتلك القوى ونفوذها في الوطن العربي.
ويمكن القول إن رؤية الطرف الأول الداعي إلى تفهُّم الثورات والسماح للشعوب بالإصلاح السياسي السلمي كانت الأقرب إلى إقناع القوى الدولية في بدايات الربيع العربي. وساعدت على ذلك المفاجأة التي أخذت بها الثورات الجميع على حين غفلة، وما بدا من قوة وعنفوان في تلك الثورات، ومن تلاحم شعبي حولها عبر الطيف الاجتماعي العربي بكل فسيفسائه السياسي والأديولوجي، مما جعل الوقوف في وجهها خسارة محتَّمة، خصوصا في المنظور الأميركي الذي لا تزال تطارده إلى اليوم هواجس أربعة عقود من العداوة الإيرانية الأميركية الناتجة عن وقوف أميركا مع الشاه ضد الثورة الشعبية ضده عام 1979.
ومما يدل على أن القوى الدولية تفهَّمت الثورات العربية في البداية، ومالت إلى المنظور القطري-المغربي في هذا المضمار، تلك السهولة الملفتة التي تخلَّت بها فرنسا وأميركا عن نظاميْ زين العابدين بن علي وحسني مبارك على الترتيب، ثم تدخُّل تلك القوى الغربية لصالح الثورة الليبية ضد القذافي. لكن الكفة الدولية مالت بعد ذلك لصالح مدرسة الثورة المضادة. وبدأت القوى الدولية تُعاضِد الثورة المضادة جهارا نهارا على الطريقة الروسية، أو بصيغة ملتوية على الطريقة الأميركية، التي تصادق حرية الشعوب في العلن وتعاديها في السر.
ولعل بداية هذا المنعرج الخطير في مسار الربيع العربي لم تتكشَّف تماما إلا منذ بضعة أيام، رغم أنها مضى عليها بضعة أعوام. فقد كشفت صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية يوم 25 يوليو 2017 خبر لقاء سرِّي للغاية انعقد يوم 28 سبتمبر 2012 -أي في أوج الثورات السلمية العربية- بين وزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، صحبة سفير الإمارات في واشنطن يوسف العتيبة. ولعل مؤرخي المستقبل سيكشفون لنا أن يوسف العتيبة يمثل حالة اختراق خطيرة للاستراتيجية الخليجية من طرف إسرائيل والدولة العميقة المصرية، فقد أظهرت رسائله المسربة مؤخرا عمق ارتباطه باللوبيات الصهيونية واليمينية الأميركية، وعمق ولائه لنظام السيسي في مصر، حتى إن العتيبة وصف الشأن المصري في إحدى رسائله المسربة بأنه بالنسبة إليه "موضوع شخصي وعاطفي، أكثر من كونه موضوعا سياسيا"!!
ولفهم دلالة هذا اللقاء الذي لم تذكر عنه (هآرتس) سوى القليل ينبغي الاطلاع على دراسة لمركز (بيكر) صدرت في سبتمبر 2016 عن توثيق العلاقات بين إسرائيل ودول خليجية (خصوصا الإمارات والسعودية) مع اندلاع ثورات الربيع العربي. وليس من ريب أن وثائق في المستقبل ستكشف لنا أن ذلك اللقاء السري بين نتنياهو ومحمد بن زايد جاء ضمن تدشين الثورة المضادة العربية، فقد بذر نتنياهو وابن زايد وما حشداه من دعم إقليمي دولي ظاهر ومستتتر تلك البذرة المشؤومة التي حولت الربيع العربي المخملي إلى مواجهات دموية هوجاء وحروب عدمية مدمرة.
كان قادة إسرائيل قلقين للغاية من التحولات في البيئة الاستراتيجية المحيطة بإسرائيل جراء الثورات العربية. وتوصلت القيادة الإسرائيلية إلى أن أي انتصار سهل للثورات العربية سيؤدي إلى تحرير طاقات العرب، وصعود حكام يعبرون عن إرادة شعوبهم، في سياساتهم الداخلية والخارجية، بما في ذلك المزاج الشعبي المعادي لدولة الاحتلال. وامتد هذا القلق إلى أنصار إسرائيل من صهاينة العالم، وعبر عنه الصحفي اليهودي الأميركي الشهير توماس فريدمان في مقال له صادر بصحيفة نيويورك تايمز يوم 17 سبتمبر 2011 كتب فيه: "لم أقلق قط على مستقبل إسرائيل مثلما أنا قلق عليه اليوم. فانهيار الدعائم الأساسية لأمن إسرائيل -السلام مع مصر، والاستقرار في سوريا، والصداقة مع تركيا والأردن- مع وجود حكومة هي أقل الحكومات حنكة دبلوماسية وخبرة إستراتيجية في تاريخ إسرائيل، قد وضعا إسرائيل في وضعية خطيرة للغاية".
أما أبناء زايد فهم يحملون هواجس عميقة وموقفا أديولوجيا متطرفا، معاديا لحرية الشعوب وللحركات السياسية الإسلامية، التي تصدرت المشهد الشعبي أثناء الثورات، وحصلت على ثقة الشعوب في مجمل الانتخابات التي جرت في بلدان الثورات. كما كانوا يبحثون عن دور إقليمي ودولي يُغذِّي طموحهم وغرورهم. وقد عبَّر سفيرهم يوسف العتيبة عن هذا الشطط الأديولوجي والغرور الجامح في تصريحاته الأخيرة حول علمنة دول المنطقة -بما فيها السعودية!- في عشر سنين.
لكن أبناء زايد ما كان في وسعهم أن ينخرطوا في مشروع الثورة المضادة دون شرطين: أولهما الحصول على غطاء إسرائيلي يقنع الإدارة الأميركية بالمشروع أو يحيِّدها تجاهه على الأقل. وثانيهما: سحب السعودية معهم إلى هذا المسار الخطر، وتحميلها جزءا من عبئه المالي وضريبته المعنوية. وقد وجد أبناء زايد في الهشاشة المؤسسية التي تتسم بها المؤسسات السياسية السعودية، والتنافس بين الأمراء الشباب على خلافة الجيل الشائخ من أمرائها، فرصة سانحة للدخول إلى قلب المؤسسة السعودية الحاكمة، وتوجيهها في الاتجاه الذي رسموه مع نتنياهو، ودعمتهم فيه بعض اللوبيات اليمينية والصهيونية الأميركية.
كانت فلسفة الثورة المضادة التي قادها الحلف الإماراتي-السعودي-الإسرائيلي تقوم على أعمدة ثلاثة: وقاية البلدان التي لم تصلها حركة التغيير بعدُ من وصولها إليها، وتحويل الثورات السلمية إلى حروب أهلية عدمية لا غالب فيها ولا مغلوب تنفيرا للشعوب من الثورات، وتدعيم فلول الأنظمة المتهاوية في استرجاع مواقعها. لكن هذه الاستراتيجية فشلت فشلا ذريعا في إرجاع الشعوب إلى بيت الطاعة، أو توفير أي أمل ببديل أفضل مما وعدت به الثورة، أو حتى بإرجاع الأمور إلى ما كانت عليه ختام العام 2010. وكل ما أفلحت فيه هو إطالة أمد الصراع بين الحكام والمحكومين في الوطن العربي، ورفع ثمن التغيير من الدماء والأموال، وفتح الباب لتوسُّع الحريق الثوري في كل أرجاء الوطن العربي، واحتمال "استيراد الثورات" إلى دول الثورة المضادة التي كانت في منأى عنها.
كانت غرفة عمليات الثورة المضادة التي تمركزت تخطيطا وتمويلا في أبي ظبي منزعجة من النموذج المغربي الذي قدم للملكيات العربية قدوة في الإصلاح الوقائي، لكن ما أزعجها أكثر هو وقوف قطر وتركيا مع حركة الشعوب، وموقفهما الصلب المتبنِّي إعلاميا ودبلوماسيا لحق الشعوب العربية في الإصلاح السياسي والعدالة الاجتماعية. وبعد أن يئست الثورة المضادة من تغيير المواقف القطرية-التركية قررت أن تنتقل من محاولة تغيير السياسات إلى محاولة تغيير القيادات، فكانت محاولة الانقلاب "الخشن" في تركيا العام الماضي، الذي موَّلتْه أبو ظبي بمبلغ ثلاثة مليارات دولارا، حسب ما كشف عنه الكاتب التركي محمد أسيت لصحيفتي "يني شفق" و"ديلي صباح" التركيتين، نقلا عن مصادر في وزارة الخارجية التركية. ثم جاءت محاولة الانقلاب "الناعم" في قطر هذا العام استمرارا لهذا المسار الذي يسعى إلى حرمان الشعوب من أي ظهير، ولو كان مجرد داعم معنوي وإعلامي.
ويمكن أن نضيف إلى هذا الخلاف الفلسفي حول مصائر الإصلاح السياسي في المنطقة، وسبل التعامل مع ثورات الربيع العربي، سببا آخر يدخل ضمن التفكير الصبياني والعقلية القبَلية اللذين تدار بهما بعض الدول العربية. فبعض الدول الخليجية -خصوصا الإمارات- ساءها كثيرا النجاح الباهر التي حققته قطر في اقتصادها، وسياستها، ودبلوماسيتها، وإعلامها، حتى أصبحت القاطرة القطرية مثالا في العالم العربي في صلابة الموقف الأخلاقي من قضايا المنطقة (قضية فلسطين، الربيع العربي)، وفي الاستراتيجية الشبكية التي ضمنت صداقة العديد من الخصوم المتنافرين فيما بينهم، وفي الجمع بين الثبات في الموقف الاستراتيجي، والواقعية التكتيكية في التنفيذ، وفي الجرأة في المواقف السياسية وروح المبادرة في السياسات الإقليمية والدولية، وفي المخاطرة المحسوبة التي مكَّنت من استثمار الإمكان مع تجنب المزالق الصعبة، وفي الحرص على التعايش مع الجيران وتجنب التصعيد غير الضروري مهما كان الخلاف.
وقد زادت الحساسية من قطر أكثر حين بدأت في البحث عن عمق استراتيجي جديد إدراكا للواقع الجيوستراتجي المتغير، ووقع اختيارها على تركيا التي تشترك مع العرب في الدين والفضاء الحضاري والتجربة التاريخية. وقد كتب أحد المفكرين الخليجيين بأسلوب لطيف ومعبِّر عن هذا الموقف الإماراتي-السعودي من قطر الذي يتسم بالحسَد والريبة على طريقة القبائل العربية في الجاهلية، التي لم تكن إحداها ترى لنفسها مجدا إلا على أشلاء الأخرى.. فكتب تغريدة بأسلوب فكاهي يقول فيها: "بادية الجزيرة العربية لم تصبح دولا، بل عادت لجاهليتها. فقبيلة بني ياس [الإمارات] حسدت قبيلة بني تميم [قطر] على ألعاب2022، فتحالفت مع بني حنيفة [السعودية] ليحاصروهم."
فشل الانقلاب الخشن في تركيا العام الماضي فشلا ذريعا، وفشل الانقلاب الناعم في قطر هذا العام فشلا ذريعا. ولا يكاد يختلف المحللون الجادون في الشرق أو في الغرب في أن أن قطر أدارت الأزمة الحالية بذكاء وشجاعة وفطنة، بينما أدارت دول القطيعة هذه الأزمة بارتجال وابتذال. وذلك حديث آخر نتركه لما يلي من مقالات عن أصول الأزمة الخليجية وفصولها.