نشرت المنظمة غير الحكومية الناشطة في مجال الحكامة والمسماة "منظمة الشفافية الشاملة" تقريرها الأول والمعنون بـ(تقرير خاص بالصفقات العمومية ومشتريات الدولة للسنوات 2020 و2021 و2022 يوم 20 ديسمبر 2023)، وأتبعته يوم 21 ديسمبر بنشر ملحق عن صفقات مشروع السور الأخضر الكبير، وما شابها، حسب المنظمة، من خروقات جسيمة..
وأوضحت المنظمة في تقريرها الأول أنها، ولأسباب تتعلق بمنهجها الإعلامي الساعي إلى توعية المجتمع بمخاطر الفساد، ستعتمد النشر المجزأ للملحقات المتعلقة بصفقات بعينها، تمكنت من التدقيق في إجراءات إسنادها وظروف تنفيذها ووجود شبهات استغلال للنفوذ والزبونية وعدم احترامها لترشيد الموارد وللآجال ومعايير الجودة.
منهجية التقرير
خلافا لما سمت به المنظمة وثيقتها فلم يكن الأمر يتعلق البتة بتقرير، لا بناء منهجيا ولا تشخيصا لفعالية منظومة الصفقات، ولا إسنادا بجداول تحليل ومقارنة اعتمادا على معايير محددة، ولا استنتاجات بل تعلق الأمر بوثيقة غير مختصة، ظل تحريرها في مستوى العموميات وقد اكتفى التقرير- الوثيقة بالتركيز على الفترة 2020 - 2022 دون ذكر أسباب وجيهة لعدم دراسة حالة الشفافية في موضوع الصفقات العمومية خلال الفترات السابقة لفترة الدراسة، وذلك بالرغم من توفر المعطيات والبيانات المتعلقة بالصفقات العمومية، على الأقل منذ سنة 2000.
دراسة المحتوى
استعرض التقرير- الوثيقة ما أراد الوصول إليه بانتقائية في أربعة أجزاء سيتم تحليلها تبعا لمنهجية المنظمة كما يلي:
أولا: الخطاب الرسمي:
أورد التقرير- الوثيقة الفقرة التالية من خطاب رئيس الجمهورية بمناسبة الذكرى الحادية والستين للاستقلال الوطني: "سنضاعف تركيزنا على إرساء حكامة رشيدة، وعلى محاربة كل أشكال الفساد. فالفساد، بطبيعته، مقوض لدعائم التنمية، بهدره موارد الدولة، وتعطيله المشاريع عن تحقيق أهدافها، وإخلاله بالعدالة التوزيعية للثروة، وهتكه قواعد دولة القانون، بما يضعف ثقة الأفراد فيها، ويصيب النسيج الاجتماعي في الصميم" ورغم أن هذه الفقرة كانت تأصيلا مهما للإرادة السياسية، والتي لا غنى عنها في محاربة الفساد إلا أنه كان من المناسب تدعيمها بفقرة أخرى لم يكن صدفة أنها الفقرة الموالية من نفس الخطاب لرئيس الجمهورية، وكان مستغربا عدم تطرق الوثيقة لها، لما قصدته الفقرة من ضوابط ومحددات لمحاربة الفساد وهي الفقرة التي تقول: "ونحن لا نريد لمحاربة الفساد أن تكون مجرد شعار، أو أن تتحول، هي نفسها، إلى فساد، بالانتقائية، وتصفية الحسابات، والوقيعة في أعراض الناس دون قرينة أو دليل. بل نريدها عملا مؤسسيا فعالا، تصان به موارد الدولة، وينال به المفسدون جزاءهم طبقا للنصوص السارية المفعول، ولذا سنضاعف العمل عل تعزيز استقلالية السلطتين، القضائية والتشريعية، وتحديث مدونة الصفقات العمومية، وكذلك على تكثيف نشاط أجهزة الرقابة والتفتيش، بنشر فرقها في كل المؤسسات العمومية والقطاعات الوزارية. وسنرتب، فورا، على التقارير الصادرة عنها كل ما تقتضيه".
طبعا قد لا يجد قارئ الوثيقة كبير عناء في فهم أسباب حذف هذه الفقرة التأطيرية من وثيقة منظمة الشفافية الشاملة. وقد أوردت الوثيقة كمرجعية لها، الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد وقرار إلحاق المفتشية العامة للدولة برئاسة الجمهورية والدعوات المتكررة من قبل المسؤولين على أعلى المستويات للصحافة المستقلة وللمجتمع المدني للمشاركة في جهود إرساء الشفافية وكشف الفساد، وكان من المناسب أن يتم الترحيب في الوثيقة بهذه الإجراءات لاستهدافها معاقل الفساد ولكن ذلك لم يحصل.
ثانيا: طرق منح الصفقات وإنجازها:
أورد التقرير- الوثيقة ما يشبه المغالطة، أو على الأقل عدم فهم لمقاصد بعض الترتيبات حين ذكر : (تعتبر الصفقات الصغيرة (المبالغ تحت السقوف المتعلقة بالصفقات العمومية) والأشغال التي تنفذ تحت هذا البند، أداة فعلية من أدوات الهدر والفساد، وقناة مفتوحة لتبديد ميزانيات التسيير والاستثمار في كل القطاعات. وقد ساهمت الحكومة في تفاقم مفعولها الخطير برفع سقفها مرتين، الأولى عبر المقرر: 0835 بتاريخ: 20/10/2020، إلى 20 و30 مليون أوقية قديمة، والرفع الثاني بموجب المرسوم: 810 بتاريخ: 17/08/2022 إلى 30 و50 مليونا)، والحال أن الأمر لا يتعلق هنا بما أسماه التقرير "صفقات صغرى" بل يتعلق بنفقات خارج اختصاص لجان الصفقات كما أن المغالطة الأكبر كانت حين ذكر أن "المرسوم" 810 بتاريخ: 17/08/2022 رفع سقف هذه النفقات إلى 30 و50 مليون أوقية قديمة، والحال أن النص المذكور هو مقرر من الوزير الأول وليس مرسوما، وهو منشور بالجريدة الرسمية، وقد حدد هذا السقف بـ6 مليون أوقية قديمة أيا كان موضوع النفقة (مشتريات، دراسات أو أشغال) بدل 30 و50 مليون الواردة في الوثيقة والتي لا علاقة لها بسقوف الإبرام، بل بسقوف وجوب الضمانات والتعهد على الشرف.
لقد منح المشرع عبر قانون الصفقات للسلطة التنفيذية صلاحية تحديد سقوف الصفقات حسب اللجان المختصة، وهو إجراء تنظيمي يهدف بالأساس إلى الرفع من القدرة الاستيعابية للتمويلات وتسريع وتيرة تنفيذ بعض الخدمات الأساسية، وبكل تأكيد أن الحاجة ماسة إلى تعزيز الرقابة على هذه الفئة من النفقات العمومية حتى لا يعتبرها المسيرون ضوء أخضر للدوس على معايير المنافسة السليمة، ومن هنا تترتب المسؤوليات على هيئات الرقابة للقيام بعملها.
إن ما ينبغي التأكد منه بالنسبة لأي جهة تهتم بمحاربة الفساد (هيئة تفتيش، منظمة من المجتمع المدني..) هو التثبت من احترام القوانين والترتيبات المنظمة للمساطر الإجرائية للتعاقد عبر الصفقات، والتأكد من أن الشروط المطلوبة لصحة التعاقد والإبرام قد تم احترامها، وحينها لن يكون لنمط التعاقد (طلبات عروض, التراضي..) أي إسقاط أو أثر سلبي على فعالية وشفافية وترشيد صرف الموارد العمومية.
ثالثا : أداء هيئات التفتيش والرقابة وإنفاذ القانون:
اهتمت الوثيقة في هذا الجزء بتدخل المفتشية العامة للدولة وسلطة تنظيم الصفقات العمومية باعتبارهما الهيئتين المعنيتين بشكل مباشر بمجال التقرير، والحال أن في هذا الاختزال تبسيط وربما جهل بهيئات الرقابة على المال العام في موريتانيا، وعلى الصفقات بشكل خاص، إذ تتدخل إضافة إلى الهيئتين المرجعيتين في التقرير، محكمة الحسابات والمفتشية العامة للمالية، والرقابة المالية، واللجنة الوطنية لرقابة الصفقات، ولجان إبرام الصفقات القطاعية.
ذكر التقرير في إحدى فقراته ما يلي: (أثار تسامح المفتشية في هذه التجاوزات المجرمة قانونا، وتسترها على أسماء الشركات والأشخاص الخاصة التي كانت ستستولي على المال العام دون وجه حق، اهتمام منظمتنا لتعارضه مع المادة: 9 والمادة: 21 من قانون محاربة الفساد رقم: 014/2016، ما دفع بنا لإجراء تقص معمق حول الموضوع.) وهنا وردت مغالطة كبرى، ذلك أن تقارير المفتشية العامة للدولة تذكر بالأسماء والصفات المعنيين بالملاحظات في إطار مهامها التفتيشية، ولكن وعلى غرار مثيلاتها في بلدان الإقليم، لا تقوم المفتشية لحد الآن بنشر تفاصيل هذه التقارير للعموم، والسبب الرئيس هو أن للمعنيين الحق في حفظ أعراضهم، طالما لم تصدر إدانات قضائية في حقهم، والمفتشية ليست جهة اتهام ولا جهة حكم.
من جهة أخرى، فإن آليات عمل المفتشية العامة وطبيعتها كجهاز رقابي إداري يحدان من تدخلها عقبَ التفتيش، إذ هي ليست مختصة بالتعهد في أخطاء التسيير (اختصاص محكمة الحسابات) ولا في التعهد بحالات الاختلاس (اختصاص القضاء) وبالتالي تعمد إلى التدخل العلاجي لاسترداد الأموال المصروفة دون مراعاة إجراءات الصرف المنظمة لها، كما تقوم باعتراض ملفات النفقات المشبوهة، وتوقيفها خلال مهامها التفتيشية قبل أن يتم سدادها، وكل ذلك دون المساس بإجراءات التتبعات اللازمة والتي تحيل ملفاتها لمحكمة الحسابات بالنسبة لأخطاء التسيير ولوزير المالية، ليحيلها إلى القضاء بالنسبة لحالات الاختلاس وتلقي الرشى، ولكن من المهم تعميق التنسيق بين كل الهيئات المعنية بالتفتيش والرقابة ضمانا لنجاعة أداء هذه الهيئات لمهامها وتضييقا على المخالفين، وقطعا للطريق أمام تبديد الموارد العمومية.
أما بالنسبة لسلطة تنظيم الصفقات، فلا شك أن شوائب عديدة لا تزال تطبع عملها، وتحد من فعالية تدخلاتها، ومن اضطلاعها بمهامها على الوجه الأمثل، بما في ذلك نشر البيانات التفصيلية عن الصفقات، وتوزيعها حسب نمط الإبرام (طلبات عروض, التراضي) والتدخل الناجع للبت في التظلمات المرتبطة بإبرام ورقابة الصفقات، ولا شك أن الإجراء المتخذ قبل أسابيع على مستوى رئاسة هذه السلطة لا بد أنه يندرج ضمن ما يمكن فهمه بسعي السلطات العليا إلى تنشيط هذه الهيئة المركزية في منظومة الصفقات العمومية.
رابعا: التوصيات
في هذه الفقرة، وهي الجزء الأخير من التقرير، وردت ثلاث توصيات لا ينبغي أن يطرح اعتمادها أي إشكال لتناغمها مع أهداف السياسات العامة للحكومة والمصادق عليها من طرف البرلمان، وخاصة ما يتعلق منها بإضفاء أكبر قدر من الشفافية في تسيير الموارد العمومية وتحسين نوعية الإنفاق وسد الثغرات التنظيمية والاستفادة من مزايا الرقمنة في إرساء الشفافية والفعالية في دورة الإنفاق، وهنا يندرج أول وأهم إصلاح جذري في هذا المجال عبر رقمنة منظومة الصفقات العمومية، وهو ما كان موضوع مرسوم صادق عليه مجلس الوزراء يوم 20 ديسمبر الجاري.
أسئلة مفتوحة
هل من قبيل الصدفة أن جل أعضاء المكتب التأسيسي لمنظمة الشفافية الشاملة هم أعضاء سابقون في مجلس الشيوخ المنحل؟
لماذا التستر من طرف منظمة الشفافية الشاملة في ملحقها بتاريخ: 21 ديسمبر 2023 على مهمة المفتشية العامة للدولة على مستوى مشروع السور الأخضر؟ وهي المهمة التي أفضت إلى استرجاع 300 مليون أوقية قديمة من طرف المدير السابق للمشروع ومحاسبه وبعض المستفيدين من الصفقات المعيبة؟
لماذا التستر من طرف المنظمة على قرار السلطات العمومية بتجريد الموظفين الضالعين في خروقات مشروع السور الأخضر وغيرهم كثر وقد تم سجن بعضهم؟
ثم لماذا الإصرار على ذكر اسم متعامل واحد من المستفيدين من صفقات هذا المشروع وصفته الانتخابية ودائرة تمثيله البلدي؟ في حين تم التستر على الآخرين، والذين ذكر الملحق أن أسماءهم وأرقام هواتفهم موجودة بحوزة المنظمة؟
هل كان استهداف هذا الشخص هدفا بحد ذاته؟ وكيف يمكن لهذا الاستهداف خدمة أهداف الشفافية؟
خلاصة:
مما لا شك فيه أن الرقابة عبر منظمات المجتمع المدني هي ضرورة ملحة في دولة المؤسسات شريطة عدم انخراط هذه المنظمات في أجندات سياسية مريبة، وبالتالي فينبغي للجهات المعنية بتسيير الشأن العام مواصلة الانخراط بقوة في الإصلاحات الجوهرية لمنظومة الصفقات العمومية ودورة الإنفاق العام بشكل أشمل، بما يطمئن المواطن على الاستخدام الأمثل للموارد العمومية خدمة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، كما ينبغي مواصلة وتكريس التوجه الرسمي القاضي بالترحيب بأي جهد مدني لمحاربة الفساد، حتى ولو كانت هناك شكوك تحوم حول خلفية ومقاصد بعض المبادرات الجمعوية في هذا الإطار.
ومن المهم أيضا التفكير في إجراءات غير نمطية لتأكيد الالتزام بمحاربة الفساد، وذلك من قبيل سياسة إعلامية تفاعلية تتبعها المفتشية العامة للدولة، وينبغي على هذه الأخيرة تصميم موقع اليكتروني يتم إثراؤه بالنصوص القانونية والترتيبية المنظمة للمالية العامة، وكذا رفده بالبيانات والإحصاءات عن مهام التفتيش وحجم ما وقفت عليه المفتشية من اختلالات تسييرية، وإحداث نافذة تفاعلية مع المتصفحين، يمكنهم من خلالها طرح أسئلة وإبداء ملاحظات، على أن لا يكون بإمكان الحسابات الوهمية أو المستعارة الولوج للموقع، وذلك بالرفع من مستوى الأمان للموقع الاليكتروني ولكن لا يعقل أن تظل المفتشية العامة للدولة بدون موقع إلكتروني.