يزحف اليمين المتطرف في أوروبا بقوة نحو السلطة متخذا من ملف الهجرة "قميص عثمان" الذي به يتاجر، في وقت تعيش فيه الحكومات الأوروبية ورطة تفاقم استحقاقات الهجرة وتعقيداتها وتسارع وتيرتها وتحولها إلى ملف ساخن داخليا، وانتقالها إلى تحد استراتيجي خارجي مع تناقص وضعف تحكم الأوروبيين في دول الساحل المصدرة للمهاجرين، وتزايد قدرات الروس على التحكم في مسارات الهجرة وشبكاتها في المنطقة لاستخدامها كورقة ضغط، هذه الأجواء جعلت الأوروبيين يعيشون حالة "هياج أعمى" يفتقد البصر والبصيرة في بحثهم عن جغرافيا عازلة ليطبقوا فيها رؤيتهم الأمنية في مجال حماية حدود القارة.
في هذا الإطار جاء الأوروبيون إلى موريتانيا بوفد عال جدا ومتنوع جدا وقدموا وعودا كبيرة جدا "في أعين الصغار"، ثم تمخض الجبل فولد "إعلان نوايا" أو مذكرة تفاهم خداج، واضحة الترميم، تعمدت التعميم بقصد التعتيم، وإن كانت كلها - وبشكل لا ينطلي على عاقل - مجيَرة لمصالح الأوربيين أولا، واللاجئين ثانيا مع "فتات" من التوصيات لذر الرماد في عيون الموريتانيين.
إن توقيع هذه "الوثيقة الإعلان" يعني توريطا لموريتانيا في مقتضيات المقاربة الأوربية للهجرة غير الشرعية وهي تستلزم انخراطا فعليا في الاستراتيجية الأوروبية لمكافحة الهجرة، وهو ما يناقض - بالقوة والفعل - الحفاظ على السيادة والمصالح الوطنية، ويرتب على بلادنا مجهودا أمنيا وعسكريا هائلا، ومنهكا، وبلا سقف، يقتضي إمكانيات غير متاحة، ويلغى التزامات سابقة مع دول ومنظومات إقليمية صديقة وشقيقة، ويزيد من عزلتنا عن محيطنا الإقليمي.
السياسات اللا أخلاقية، واللا قانونية، واللا عقلانية، والمجتزأة، التي يسعى الأوروبيون لفرضها فيما يتعلق بالهجرة غير الشرعية تستدعي الصياغة المفتوحة التي جاءت في الوثيقة والتي تعتمد الغموض الماكر، والضبابية الملغومة، والإطلاق المائع والفضفاض والتعميمي، أما الحشو والتسمين والصياغة المترهلة ففرضتهما الهبة الوطنية الشاملة ضد الوثيقة الأوروبية الأولى التي اختفت بقدرة قادر.
ورغم محاولات الصياغة "المراوغة" فقد امتلأت الوثيقة بعبارات لا تحتمل التفسير بغير معناها المفزع من قبيل: "التسيير المشترك للهجرة" و"تقاسم المسؤوليات" و"الترحيل القسري" و"استضافة اللاجئين" و"ودعمهم" و"تعزيز صمودهم" و"العمل على حمايتهم الدولية بما في ذلك طالبي اللجوء".
إن فقرة "الحماية واللجوء" في إعلان المبادئ تتضمن كل ما يقتضيه الإيواء والتوطين من إجراءات وحقوق، أي: التسجيل، الاستضافة، التكفل باللاجئين، إعطاء عناية خاصة للأكثر هشاشة (المثليين مثلا)، الولوج للخدمات الاجتماعية والاقتصادية، معاملتهم وفق إطار المنتدى الدولي للاجئين 2023. وتعاون الطرفين "في مجالي العودة وإعادة الدمج مع الحرص على حماية واحترام كاملين لحقوق وكرامة الأشخاص المعنيين".
قد يكون معنى اللجوء واضحا أما "الحماية" فيقصد بها أولئك الأشخاص الذين لم تتوفر فيهم شروط اللجوء، ولكنهم يدّعون بأنهم غير آمنين في حال عودتهم إلى بلدانهم فهؤلاء أيضا لا يمكن ترحيلهم وعلينا الانتظار حتى تزول الأسباب التي تهددهم في بلدانهم مثل الحروب الأهلية أو القمع الدكتاتوري أو الاضطهاد الديني، لذلك تتحدث الوثيقة بصرامة عن "احترام الإطار الدولي للحماية" أي ضرورة إبقائهم وحمايتهم.
هل فكرنا في خطر تحول المهاجرين إلى لاجئين، وهل غفلنا عن أن قبول "اللجوء" تتبعه محاولات "لم الشمل" فتأتي "العائلة الكريمة"، وهل يخفى علينا ما يعنيه مصطلح "الحماية" من قبول – تحت ادعاءات واهية - للذين لم يستوفوا شروط اللجوء حتى،
وهل يفوت مفاوضينا أن ترحيل أي مهاجر دون رضاه، يعد "ترحيلا قسريا" مجرما حسب القوانين والمعاهدات الدولية، أحرى الطرد الجماعي للمهاجرين.
رفضت تونس ورود كلمات "إيواء" اللاجئين وكلمة "إدماج" اللاجئين في وثيقة إعلان النوايا التي وقعتها مع الاتحاد الأوروبي رغم وجود ملايين الليبيين المهاجرين المقيمين في تونس فضلا عن المهاجرين من دول جنوب الصحراء، أما وثيقتنا فلم تستطع إلا الكشف عن أنيابها الحادة لتتبنى بندا من عدة فقرات خاصا بـ"اللجوء والحماية"، وهو تدخل سافر في أخص خصوصيات السيادة.
وفي تحد آخر للسيادة الوطنية توصي الوثيقة " بالتعاون الوثيق بين موريتانيا وفرونتكس" مع "إمكانية اتخاذ إجراءات بين موريتانيا وبعض وكالات الاتحاد الأوروبي بشكل منفرد كوكالات: افرونتكس، إيروبول، ووكالة الاتحاد الأوروبي للجوء"، مزحزحة بذلك الحدود الجنوبية لأوروبا لتشمل الحدود الجنوبية لموريتانيا. وفاتحة المجال لوكالات استخبارات حدودية أجنبية للقيام بعملياتها داخل الأراضي الموريتانية.
لا شك أن الوثيقة ملزمة سياسيا، أما قانونيا فرغم تأكيدها على أنها لا تهدف إلى خلق أي حقوق أو التزامات مرتبطة بالقانون الدولي أو القانون الوطني، يتناسى واضعوها كونها مليئة بالتوصيات الخاصة بالنصوص القانونية وبتعديل التشريعات، ومن البدهي أنه ستترتب عليها مسطرة من الاتفاقيات الملزمة قانونيا فأموال الأوروبيين لا توزع مجانا.
من الغريب أن المسؤولين الموريتانيين قدموا تصريحات تهدف إلى طمأنة الشعب بأن الاتفاقية لن يترتب عليها توطين إلا أن المواطنين يتساءلون لماذا لم يتم تضمين هذه التطمينات بشكل مكتوب في بنود الوثيقة الموقعة.
حاولت الوثيقة إحالة كل شيء إلى التفاوض، حيث تنص على أن "الأنشطة التي تم ذكرها هي مجرد أمثلة سيخضع تنفيذها للحوار والتبادل المنتظم، وسيتم تحيينها مع التقدم في إنجازها وحسب الحاجات المطلوبة"، إن إحالة كل شيء إلى التفاوض هو مراهنة واضحة على اختلال ميزان القوى بين الطرفين الموقعين (27 دولة أوروبية قوية في مقابل موريتانيا)، وعلى احترافية المفاوض الأوروبي وقدرته على الابتزاز في مقابل تواضع كفاءة وقلة حيلة المفاوض الموريتاني إذا افترضنا براءته من الفساد والخيانة و"أغداج".
كما أن حرص الوثيقة على التأكيد على "إمكانية إعادة النظر في الأولويات" – فما بالك بغيرها - يجعلنا أمام كائن قانوني هلامي متحرك يملؤه "المتغلب" بما شاء، متى شاء، بعيدا عن آليات الرقابة والضبط الرسمية والشعبية.
لم تنس الوثيقة الإحالة إلى اتفاقيات سابقة ومعاهدات دولية صممت لتكون لصالح الأوروبيين في حين تجاهلت نصوصا أصيلة، قائمة، تمت صياغتها دوليا بحضور الجميع وراعت التوازن بين بلدان المصدر وبلدان العبور وبلدان الاستقبال.
حرصت الوثيقة أيضا على إلزام موريتانيا بالأطر القانونية الأوربية التي تتعارض في أحيان كثيرة مع مرجعيات القانون الموريتاني.
يعرف الجميع أن الأوروبيين هم من مولوا - وبسخاء خبيث - إعداد الاستراتيجية الوطنية للهجرة في موريتانيا لتصنع على أعينهم، كما يعرف الجميع أن هناك ما يكفي من اتفاقيات ومعاهدات ومنظمات واهتمام دولي بالهجرة، لكن ما يريده الأوروبيون هو شيء آخر، يريدون اتفاقيات على مقاسهم ووفق أجندتهم، اتفاقيات قابلة للتسويق انتخابيا حتى ولو ترتب على ذلك توريطنا بطريقة غير مباشرة في معاهدات دولية رفضنا توقيعها عن وعي، واتفاقيات منحازة ضد المهاجرين، وضارة بمصالحنا، اتفاقيات ستورطنا في التزامات لا يمكننا الوفاء بها، وسندفع ثمنها قمعا لـ"ابن السبيل"، وضغطا على الاقتصاد والخدمات والبنى التحتية، واضطرابا أمنيا، وتحولات ديموغرافية وقيَمية لا قبل لنا بها.
تؤسس هذه الاتفاقية لتحويل موريتانيا إلى مقاول من الباطن يعمل لدى جهات تسيير الهجرة في أوروبا، وهو فخ سيترتب عليه تحويل مياهنا إلى مقبرة، وأراضينا إلى سجون ومعتقلات، وسيفرض على قوات أمننا ممارسات قمعية مخالفة للاتفاقية الدولية لسلامة الأرواح في البحر لسنة 1974، والاتفاقية الدولية للبحث والإنقاذ في البحر لسنة 1979، واتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لسنة 1982.
دور "الحارس الوفي" للحدود الأوروبية مقابل "المال" يهدد أيضا بخلق طبقة عسكرية وأمنية مستفيدة من "الريع الأمني" وسيصبح الحفاظ على هذا "الريع" من العملة الصعبة ضمانا لاستدامة قيامنا بالدور "القذر"، وهو ما قد تكون له مضاعفات مشؤومة سياسيا وأمنيا.
لقد سبقتنا تونس إلى توقيع "إعلان مبادئ" شبيه مع الأوروبيين ولكنها ما لبثت أن تراجعت عنه رغم "المليار دولار" التي التزم بها لأوروبيون، ورغم مصالحها ومصالح مهاجريها الجمة في أوروبا.
لقد لاحظ التونسيون انفجارا – غير عادي - في أعداد المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء بعد توقيع مذكرة إعلان النوايا مع الأوروبيين، وهو ما استدعى تصريحات من الرئيس قيس اسعيد حول "غزو تقف وراءه جهات أجنبية" كما تبين للتونسيين أن الأوربيين بخلاء ويماطلون في الوفاء بوعودهم التي التزموا بها في "إعلان المبادئ"، وأنهم "يقولون ما لا يفعلون" حسب التعبير البليغ لوزير الخارجية التونسي نبيل عمار. فهل سنستفيد من التجربة التونسية؟
على الموريتانيين رسميا وشعبيا أن يعملوا على الخروج من "إعلان النوايا" هذا وإلا فسيتم شيئا فشيئا، وبطريقة محترفة، وخبيثة، توريطهم في "تفاصيل شيطانية" لا قبل لهم بها.
على النخبة وأصحاب الرأي والقيادات الرسمية والشعبية وقيادات الأحزاب والنقابات والمنظمات غير الحكومية والأئمة والخطباء والمواطنين العاديين أخذ الأمر على محمل الجد فالأمر جلل والخطب خطير، وكل المؤشرات تؤكد على الاحتمال الكبير لتحول موريتانيا إلى منطقة تجميع وربما توطين - بحكم الأمر الواقع - لطالبي اللجوء، وهو احتمال مقلق إلى حد انهيار المجتمع والدولة لا قدر الله.
ألا هل بلغت اللهم فاشهد.