على مدار الساعة

نذر الحرمين الشريفين لملوك آل سعود (1/3)

11 سبتمبر, 2024 - 16:59
بقلم: عز الدين مصطفى جلولي - كاتب وأستاذ جامعي جزائري

دواعي الحديث في شأن الحرمين

لم أتردد في الكتابة عن شيء كترددي في الكتابة عن واقع الحرمين الشريفين، اللذين باتا ألعوبة حقيقية في أيدي الملوك. فالمظاهر الغربية التي اقتحمت الأماكن المقدسة لا تشي بالخير، وسوء المعاملة من قبل الشرطة والقوات الخاصة الموكل لها ضبط النظام داخل الحرم المكي تنفر الحجيج، والاستغلال المادي الفج لضيوف الرحمن خاصة الضعفاء منهم يسيء لحرمة المكان، والتثاقل الشديد في إتمام التوسعة وكأنه لا يراد لها أن تنتهي في ميعاد، مع قلة صلاح المنجز منها، بين لا لبس فيه، وضبط أعداد الحجيج عند عتبة معينة لا تتعداها رغم تزايد أعداد المسلمين يدعو إلى الريبة، وغياب الاهتمام بالقضايا الحيوية للأمة في منابر الجمعة وتجيير خطبها للدعاية السلطانية ليس من الأمانة في شيء، والعقبات الكثيرة للحجاج على درب الآمال والآلام بين عرفات والجمرات مع القدرة على تذليلها أمر غير مفهوم... وما إلى ذلك من مظاهر مقلقة تعترضك صارخة وأنت تتجول في جنبات المسجدين العظيمين وفي المشاعر المقدسة.

 

إنك لتخلص بعد تفكير عميق ومشاورة أهل الرأي، أن عبادة الخالق كأنما انحصرت داخل جدران المسجدين ومواضع المناسك لا تتعداها، وأن عبادة الدنيا استولت على الحياة خارجها. فلا يشكن عاقل زار البيت الحرام بأن الأيدي التي تقوم على الحرمين وتدعي خدمتهما، لها في نفس أصحابها حاجات أخرى غير الخدمة، حاجات تتصل بالسياسة والمال والأعمال، إنهم يتصرفون في الحرمين الشريفين وكأنهما ملك مشاع، أو كأنهما تركة ورثتها عائلة مالكة، أو ملك خاص بدولة حديثة نشأت بفعل الاستعمار، أو كأنهما والعياذ بالله، آبار نفط تدر مالا. إن خطة "التحديث" التي جلبت على المجتمع السعودي وعلى البقاع المقدسة تحديات حقيقية، تمضي في درب التطبيق على قدم وساق، مفروضة فرضا بأوامر ملكية وبإشراف ولي العهد محمد بن سلمان. أسأل الله العلي القدير أن يعيد الحرمين الشريفين إلى أيد تعظمهما، وينزعهما من أخرى تريد الصد عن سبيلهما، {وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون}.

 

للبيت العتيق منعة ظاهرة، تأبى الأقدار أن تجعلها منالا سهلا للملوك، كلما عنّ لأحدهم أن يضيق فيه أو يعدل أو يزيد. ولقد كان الفضل في صرف أيدي الحكام عن التلاعب به، بعد الله عز وجل، لإمام المدينة مالك بن أنس (رحمه الله)، حين قال للخليفة المنصور مناشدا إياه لما عزم على إعادة بناء البيت: "أخشى أن تصير ملعبة للملوك، فترك"؛ فسد الإمام على الأمة بابا من الشر، قد تسول النفس فيه لمن جاء بعد المنصور من الحكام والملوك المتاجرة السياسية بادعاء خدمة البيت وتعظيمه؛ فبقي ما عدا البيت العتيق من المسجد الحرام وغيره من المشاعر غير مشمول بهذا الذي قال مالك.

 

التوسعة حجبت الكعبة

"التوسعة" كلمة تتردد على ألسنة العساكر والموظفين إلى درجة الملل إن رحت تسألهم عن مكان ما من المسجد الحرام اختلط عليك إيجاده، وفي أغلب الأحيان أنت تسأل وهم يجيبون أو يشيرون عليك حين يجيبون بالتوسعة الأولى أو بالثانية أو بالثالثة... حتى غدا الحديث عن التوسعات أهم من الحديث عن مرافق المسجد الحرام مما يعني الأمة. وإنك تقضي مدة إقامتك في مكة مصليا كل الصلوات ومعتكفا في أغلب الأوقات ولن تستطيع أن تستوعب مخطط الحرم المتغيرة حواجزه على الدوام، بل إنه لا ثابت فيه غير المتغير، مما يوقع الحجاج في مشاق هم بغنى عنها. وإذا شكوت إلى منظم ما تجد، أجابك بأن المشقة من طبيعة الحج! سبحان الله! وكأن المشقة مقصودة لذاتها في هذا الركن العظيم! ذلك انطباع عام لدى كل الحجاج، يهمس به بعضهم على استحياء إلى بعض، خشية أن يخدش كلامهم حرمة المكان.

 

ومهما بالغوا في التوسعة تبقى الكعبة المشرفة أكبر متعة للزائرين، ولوجود مشكلة حقيقية في العقل الذي يدير شؤون المسجد الحرام حرم الحجاج من تلك المتعة، بحجة التوسعة، كما في الصفا والمروة، حيث ترى الزوار وهم على الجبلين يتطلعون إلى البيت داعين في كل شوط من أشواط السعي فلا يرون غير حيطان عالية تحجز الرؤية، ويخيب ظنك في مكان آخر وهكذا في كل مرة. ناهيك عن التنفير الدائم للساعين على الجبلين من قبل الحراس الفدادين بحجة أن الوقوف للدعاء يعطل سلاسة السعي. ولست أدري لم سيّجت قمة الجبلين بزجاج فضاق على الناس المكان؟ وأذكر أن السعاة كانوا يقفون فوق الجبلين المسيجين قبل خمسة عشر عاما لأداء سنة النبي من دون أن يكون هنالك حرج يذكر آنذاك.

 

 ما علاقة التوسعة بالملوك؟  

التوسعة الأولى والثانية والثالثة تحمل أسماء ملوك سعوديين، أصدروا تباعا أوامر ملكية بها، كأنهم يريدون أن ينحتوا في مخيال الأمة صدقية اللقب الذي استعاره هؤلاء الملوك لأنفسهم، "خادم الحرمين الشريفين". ولعلي لم أنس يوما زرت فيه البيت العتيق معتمرا عام توفي الملك عبد الله بن عبد العزيز وتولى الملك من بعده أخوه الملك الحالي سلمان بن عبد العزيز سنة 2015 م، لم يكن يوم أديت العمرة بين وفاة الأول وتولي الثاني إلا فترة قصيرة، فلما أنهيت الطواف، وانصرفت إلى صلاة السنة عند المقام والشرب من الماء المبارك زمزم، وهممت أن ألج المسعى لأداء الأشواط السبعة، رمقت ورقة صغيرة غير ملصقة بعناية، مكتوب عليها "توسعة الملك سلمان"! فسألت رجلا من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقف مرفوع الهامة ماسكا بعباءته البنية بيديه من جهة كتفيه، عن إعلان "توسعة" لملك لم يحم مقعد الملك تحته بعد؟ فرمقني بنظرة فهم منها مغزى السؤال واستدار ماشيا معرضا عني. لم يتبق من تلك الهيئة، التي أطبقت شهرتها الآفاق، اليوم إلا ذكرى، يجهل تفاصيلها كثير من حديثي الأسنان، ممن يعمل في الحرم ولا يمتلك الثقافة الشرعية التي كان يمتلكها رجال الهيئة. نعم لقد اقتلعت "التحديثات" الجديدة التي يقودها ولي العهد محمد بن سلمان جذور هذه الشجرة، التي كانت على علاتها أنسب الهيئات للعمل في الحرمين وفي خارج الحرمين كذلك، اقتلاعا لم نسمع للقائمين على شأن الهيئة منه شكوى، لا جهرا ولا همسا.

 

في الإجابة عن ماهية التوسعة، مهما كان العدد الذي ستحمله أو الملك السعودي الذي أمر بها، بيان شاف لما يحدث في الحرم المكي من إنشاءات ملكية الطابع لا يعني أكثرها الزائرين، عدا ما تبقى حول الصحن الشريف من أقواس وقباب عثمانية لا يعلو ارتفاعها سطح الكعبة المشرفة ولا تحول أعمدتها دون نظرك إليها، فطابعها بسيط روحاني مؤنس. بل إن الفخامة التي تبدو على التوسعات الحديثة وتتم ببطء شديد، ويراد لها أن تأسر القلوب المشغولة بذكر الله وبالصلاة، لم تجد نفعا في كسب قلوب الطائفين والقائمين والناظرين، الذين خابت آمالهم في أن يروا بيت إبراهيم (عليه السلام) من كل موقع اشرأبت فيه أعناقهم، وتطلعت إليه عيونهم، لعلهم يستمتعون بهذا المهوى الجذاب، الذي يفجر بسحره المشاعر تفجيرا. إن التوسعة أمر مطلوب فعله مدى الحياة الدنيا، ولكن هل الخطط التي وضعت لذلك تخدم هذه الغاية النبيلة؟ وهل تم حقا بذل أقصى الجهد للاستفادة من الفنون المعمارية الإسلامية لجعل الحرمين قبلة لا تشوبها شائبة؟ لا أظن أن الإيجاب سيكون ردا صحيحا عن التساؤل.