على مدار الساعة

نذر الحرمين الشريفين لملوك آل سعود (2/3)

16 سبتمبر, 2024 - 10:51
بقلم: عز الدين مصطفى جلولي - كاتب وأستاذ جامعي جزائري

الرموزية من مستلزمات التحضر العمراني

غياب الرموزية في إدارة شؤون الحجيج أرهق الجميع، ضيوف الرحمان والهيئات المشرفة على الحرمين على حد سواء. فالحرم على صغر مساحته، إذ لا يتعدى كيلومترين مربعين، عسير أن يستوعب قاصدوه خارطته، بل إن هؤلاء ليبذلون جهدا غير يسير في البحث عن المداخل والمخارج المفضية إلى المطاف والمسعى وما إلى ذلك، من دون أن تسهم معرفة الطريق - فيما لو أنهم وفقوا مرة - في حفظ المسار إليها إذا ما أعادوها كرة أخرى. ويقضي المنظمون جل وقتهم في توجيه الحجاج من خلال إجابات مكررة مملولة. لست أدري أين المشكلة فيما لو وضع المنظمون رموزا دالة تختص بالحرمين؟ غير أني على يقين بأن عقدة ما في عقل من يخطط للحرمين تحول دون حل جذري لهذه المشكلات.

 

قلما يوقع النظام الدقيق لمدن الغرب المترامية الأطراف قاطنيها وزائريها في تيهان كالذي يقع في الحرم المكي الشريف. الرموزية حاضرة في أدق التفاصيل في الغرب، وفك طلاسمها رهن القراءة والتوجيه الهادئ البسيط، ولا مجال لتغيير ما اتفق على إشاعته بين الناس بعد أن درسه أهل الخبرة والاختصاص، حتى غدت العلامات والإشارات عندهم محفورة كالتقاليد العريقة في كل مناحي الحياة. كيلومتران مربعان تعجز عن إنهاء الأشغال بهما طيلة خمسين عاما دولة لها من الإمكانيات الضخمة ما الله به عليم، كما أن جهل الموكل إليهم خدمة الحرمين أهمية الإشارات والخرائط والمجسمات في إدارة ملايين البشر يأتون إلى هذا المكان الطاهر طيلة العام من بقاع الأرض قاطبة، يحتاجون فيه إلى دليل سهل يأخذ بأيديهم إلى محراب صلاة ينظرون من خلاله إلى البيت العتيق أمر غريب وقوعه. إن الحاجة ماسة لرموزية ثابتة عابرة للأجيال في إدارة المعتمرين والحجاج يا أيتها الرئاسة العامة لشؤون المسجدين!

 

 التكييف الاصطناعي وسوء إدارته  

لم يك اختيار الخرسانة المسلحة بالحديد وتجصيصها بالرخام المنقوش خيارا موفقا مع وجود مواد أخرى أطول عمرا وأسهل تركيبها وتحويلا، بل وأنسب لمناخ المنطقة الحار جدا. أقصد لو أن المسجد الحرام بني من الحجارة المقطعة على مقياس حجارة الكعبة التي رفعت بها، وهي لا تزال بخير وعافية إلى يومنا هذا وستبقى كذلك ما بقي الليل والنهار بإذن الله. إن الجدران الحجرية مكيفة طبيعيا، تتلاءم وحاجات الزائرين المكان إلى الأجواء المعتدلة. لقد أضرت شبكة التكييف المنتشرة في داخل الحرم وغير المدارة بحكمة بصحة الناس كثيرا، خاصة بأولئك القادمين من مناطق استوائية كالإندونيسيين أو من مناطق باردة كالأوروبيين والمغاربة، نظرا للفروق بين درجات الحرارة المتدنية داخل أبنية المسجد الحرام وبين الدرجات المرتفعة في الساحات المكشوفة المحيطة به.

 

والعجيب أن توضع ميضأة الرجال والنساء في تلكم الساحات فقط، يخرج إليها المصلون ثم يعودون منها إلى مواضعهم من الصلاة كلما اقتضت الحاجة، والحاجة تقتضي أن تكون هنالك ميضأة داخل المبنى كما خارجه، ليتجنب عمار بيت الله الضرر الواقع بهم وهم يتقلبون بين حالين متفاوتين في درجة الحرارة تفاوتا كبيرا. ولقد اضطر بعض الناس إلى أن يلجأ إلى حنفيات الماء المبارك زمزم، المصممة للشرب وقوفا، ليتخذ منها مكانا يتوضأ فيه، فتنشب من جراء ذلك خصومات في الحرم بين الحرس وعمال النظافة وبين المتوضئين، كلما نادى المنادي "حي على الصلاة".

 

مشكلة المسالك المؤدية إلى الحرم المكي

للطرقات العامة المحيطة بالحرم المكي والمؤدية إليه متاعب، طرقات تختلط فيها المركبات بالمشاة، ولا توجد قواعد صارمة تنظم حركة المرور، فمن سبق مر، مر ماشيا أو مهرولا، كل بحسب حظه، ولا يخلو الأمر من مخاطر وحوادث، تجعل من تصريف الحجيج إلى مأواهم تصريفا بطيئا مزدحما عقب كل صلاة مكتوبة. إذن هنالك ما يقال في الطرقات من ناحية أمن الحجيج وراحتهم، خاصة العجزة منهم، الذين يقعون فريسة استغلال أصحاب العربات، الذين يعرضون على الضعفاء والمرضى التوصيل إلى الفنادق لقاء مبالغ مالية لا أحدثك عن غلائها. لقد توزعت الطرقات على المرتفعات المحيطة بالحرم، فجاءت غير ممهدة بما يكفي، فأرهقت الساعين على أقدامهم أيما إرهاق، وأرهقت من يرافق قريبا عاجزا يدفع به عربة، فتراه محتاجا إلى من يساعده على الدفع بها أحيانا، كل ذلك تحت شمس حارقة لا مظلات تقي من لهيبها. وهكذا يصل الحاج إلى الحرم متعبا، ويخرج منه إلى إقامته متعبا، حتى تنتهي مدة إقامته المسموح له بقضائها وقد نال من المشقة المقدور على تذليلها حظا وافرا.

 

إن المعارف الحديثة التي تتيحها الهندسة المدنية سهلة ميسورة، يعلم بها كل من تخصص في هذا المجال. ولا أعلم حقا سببا وجيها يدعو من يقوم على خدمة الحجيج إلى التلكئ عن الأخذ بها لسد حاجة لا تزال ملحة. ومما تعجب له ولا عجب، أن يقوم عمال البلدية بطلاء طريق مشاة رئيسي باللون الأبيض الناصع ذات صباح، فما كاد النهار أن يسفر والشمس يشتد ضياؤها حتى انعكس شعاعها القوي على الطريق المدهون، ولك أن تتخيل قوة الضوء المنعكس وأنت تمشي، فأن تنظر إلى قرص الشمس ضحى خير لك من أن تنظر إلى مواضع قدميك. ليس صعبا أن تنصب طرقات متحركة على غرار السلالم المتحركة كالتي نراها في المطارات الكبرى موضوعة لإراحة المسافرين، ونصب مظلات، كالتي في باحات الحرم المدني حل ميسور فعله كذلك. وإقامة أروقة مكيفة في بعض الشعاب ليس صعب المنال. ثم إن قواعد المرور في القرن الواحد والعشرين تعد من الخبز اليومي للمدنية المعاصرة، فما الغاية من ترك "خدام" الحرمين الشريفين كل ذلك النفع، والسعي حثيثا إلى سوق عكاظ أمام الناس عارين، يودون لو أن الشعراء نظموا فيهم قصائد مديح.

 

"بروباغندا" الأبواب العالية

لتفرق الأبواب وتعددها فوائد ترتجى، حين يلج المصلون إلى رحاب المسجد الحرام وحين يصدرون، وفي كثرتها واتساعها ذخر في أوقات الشدة لا سمح المولى. واللافت في ما أبصرت من توسعة، أنها تعنى برفع المداخل لتبدو ذات هيبة وجمال، وتركب لها أبواب عالية المصاريع، لا تخلو هي كذلك من حسن وبهاء، ولكنه حسن غير أخاذ، ما دامت القلوب مشغوفة بالكعبة المشرفة، يسأل ضيوف الرحمن هل توصل هذه الأبواب إليها أم لا؟ والنفي هو الجواب غالبا؛ إذن اهتم المصممون ومن يوجههم بتفخيم أبواب مخصوصة وجعلوا لها مداخل واسعة وأروقة مرمرية تسلم إليها، وسموها بأسماء ملوك آل سعود، كباب الملك فهد والملك عبد الله بني عبد العزيز. إنه لا يخفى على الناس ما في ذلك الأمر من "بروباغندا" سياسية لا علاقة لها بالتجرد التام في خدمة الحرمين الشريفين. وإلا فقل لي بربك، كيف لا يعتني هؤلاء السادة بالأبواب التاريخية اعتناءهم بالأبواب المستحدثة، أبواب كالسلام والفتح العمرة والصفا، تبدو اليوم صغيرة بحجومها، ولكن وقع ذكرها على المسامع كاف وحده ليقف الحجاج أمامها تعظيما وإجلالا.

 

تخلو المصليات في الحرمين الشريفين من متكآت تريح أظهر المصلين من طول القعود، لذلك ترى الناس عقب كل صلاة يلقون بأجسادهم المرهقة على الأرض مستلقين. وبين القعود والاستلقاء، يضطر بعض المرضى من ظهورهم إلى الاتكاء على العرصات، غير المهيأة قواعدها بما يلبي هذه الحاجة خاصة في المسجد الحرام. فيجد البعض في "السجادة التكاية" - كما تلقب في الأسواق ببكة - بغيته، لكنها ليست سجادة عملية بما يكفي لتلبي. وللعمامة عند اليمنيين فوائد أخرى، يشهد لهم المرء بالسبق الحكيم في الاحتباء بها من دون الحاجة إلى شيء آخر سواها، والاحتباء حيطان العرب كما يقول المثل. وعودا على بدء يبقى القول بأن هندسة الحرم المكي، لم تك موفية كما يجب متطلبات وفادة ضيوف الرحمن في بلده الأمين.