ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها مشهد الطائرات الشراعية محلقة فوق المستوطنات، وتحتها جيف الحسرى من بني صهيون، والملثمون الأبرار يتقافزون من فوق حيطان قواعد الجيش العسكرية، وكأنهم يتقافزون إلى أنهار الفردوس.
صبيحة السابع من أكتوبر وأنا ممدد على سرير طبي في مستشفى مومريال شيشلي بمدينة اسطنبول العاتية، خمسة وأربعون يوما مضت على عملية زراعة الكبد التي أجريتها يوم 24 أغسطس 2023، وما تزال بعض المضاعفات تلزمني الإقامة في المستشفى، بدأت أشعر بالملل من الروتيني اليومي للعلاج، وصرت أشعر بالضيق كلما لمحت وجه ممرضة أو طبيب.
كنت أقاتل الوقت المفتوح بسيف المطالعة وقرآن القرآن، لكن المطالعة متعبة، خاصة لمريض مثلي يعاني من نقص حاد في الطاقة، لذلك بدأت في الأسبوع الذي سبق الطوفان أعيد متابعة مسلسل عمر بن الخطاب، انفتحت لي فيه نوافذ من الفهم جديدة، وأدركت قيمته الفكرية والثقافية، إنه مسلسل يستحق أن تمهر إجازته بقائمة يتصدرها الشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله.
أيقظتني زوجتي –كالعادة - عند أذان الفجر، جلست على الكرسي وصليت بخمول معهود، عدت إلى السرير، كانت عقارب الساعة تقترب من السابعة، قبل نوم الصبحة تصفحت بعض المواقع - لا أتذكرها - بسرعة، كانت هناك أخبار عن مقاومين اقتحموا الحاجز، لم يثر الأمر كثيرا في ذهني، حسبتها إحدى عمليات المقاومة المحدودة، سرقني النوم، وليتني لم أفعل.
في حدود الثامنة والنصف بدأت أتلمس الأخبار الأولى من خلال القنوات التلفزيونية خاصة الجزيرة، وبدأت أحداث الطوفان تكبر، كان كل مشهد يبعث في طاقة جديدة، لم ينتصف اليوم الأول حتى تأكدت أنني أستطيع أداء رقصة الفلامنغو باحترافية، أنا الذي ما زلت –حينها - أحتاج من يسندني عند المشي اليومي في ممرات جناح الزراعة بالمستشفى.
ظللت ذلك اليوم أشعر بقوة خارقة، لاحظت زوجتي ذلك، كانت مشاهد جثث الجنود الصهاينة ومشاهد أسرهم تصنع الأفاعيل بوجداني فيترجمها في دموع غزيرة، أخفيها عن زوجتي حتى لا تظن أني جزع من وضعي الصحي، الذي نسيته منذ ذلك اليوم، كان كل مشهد يذكرني بآية قرآنية أو بحديث نبوي أو بقصة من قصص المجد في تاريخنا العظيم، طالعت تعليقات سيد قطب على سورة القتال (محمد)، "عقب إعلان هذه الحرب من الله على الذين كفروا ، أمر صريح للذين آمنوا بخوض الحرب ضدهم، في صيغة رنانة قوية، مع بيان لحكم الأسرى بعد الإثخان في المعركة والتقتيل العنيف :{فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ، فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها}. يا إلهي هذا القرآن يتجسد أمامي، أقرؤه صوتا وأراه عيانا، قتلى من اليهود الغاصبين، وأسرى يسحبهم جند الله بأرجلهم وقمصانهم، يا الله ما أبردها على كبدي، مشهد الضابط الصهيوني وجندي من القسام يمسك بتلابيبه يخرجه من قعر الدبابة.
لقد شفاني طوفان الأقصى، لم يشف صدري فقط، ولكنه شفى بدني، فقد أحسست منذ ذلك اليوم بعافية مطردة، ولعل البهجة التي عشتها كانت لها أثرا في بدني، ولا شك في علاقة عافية الروح والنفس بعافية البدن.
لقد أعادتني مشاهد طوفان الأقصى -كما أعادت الأمة كلها - إلى أزمنة المجد المؤثَّل، إنه يوم خارجَ زمن الاستخذاء والضعف الذي أقنعتنا به قيادات الوهم، يومٌ انهارت في لحظاته الأولى كل المسلمات الذليلة التي كانت تكبل عقولنا ومشاعرنا، وأول تلك المسلمات قناعتنا بقوة المادة.
إن السابع من أكتوبر جاء ليعلي من شأن القيم الإيمانية والنفسية ودورها في التغيير، وأن الهزيمة في النفس قبل أن تكون في الميدان، وأن النصر تصنعه النفوس المتعالية بإيمانها، فيستطيع المؤمن الحق بأدعية صادقة وأدوات متواضعة أن يهزم خصمه المدجج بالسلاح والتقنية المرعبة، وإلا فمن أين لكتائب القسام أن تجتاح القواعد العسكرية الإسرائيلية المحيطة بغزة، وتنفذ إلى أعماق المستوطنات القابعة خلف الجدر المحصَّنة!
لقد انهار عند اللحظات الأولى للسابع من أكتوبر المجيد حاجز الخوف من كلمات مثل: الجهاد – القتال – اليهود - الكفار التي كانت أجهزة أمننا العميلة قد زرعت فينا الخوف من مجرد سماعها، لكننا بعد السابع من أكتوبر أصبحنا نتحدث عن جهاد مقدس ضد الصهيونية البغيضة وضد داعميها من الكفار والملحدين.
نعم، شفاني السابع من أكتوبر، كما شفى كثيرين، لقد كنا مرضى بداء الوهن قبله، فرفع همما بدأت تضعف، وأعاد قناعات كادت تتبدل، وأنقذ أمة كاملة كانت تساق نحو المذبحة وهي خاضعة.
وإن من أعظم آثار السابع المبارك أنه لم يهز إسرائيل فقط، ولكنه هز العالم كله، وهز أركان الأنظمة العربية هزة لن تقوم بعدها لها قائمة، ورغم أن كثيرين لا يرون آثار تلك الهزة الآن، إلا أن الأنظمة تعرفها في قرارة نفسها، وتحس دوختها كل حين، ولن تنجو منها مهما أظهرت من تماسك وادعت من قوة.