الناس متشابهون في أصل الخلقة مختلفون في الثقافات. الثقافات هي ما يضفي على الإنسان هويته لا شيء آخر غيرها. ولقد أحسن الله ببعض الناس فخلقه في أحسن بيئة ثقافية، وفتح الطريق أمام آخر ليختار؛ كل ذلك لحكمة يعلمها صاحب الشأن الأكبر جل جلاله.
بيد أن بعض المسلمين يتنكر لما بين يديه من كنز ثقافي فيستبدله بآخر فتن العالم فترة من الزمن نشهد نهاياتها في هذه الحقبة، أي أن الأقدار شاءت أن تكشف للناس ما اكتنزت كل أمة لنفسها من ثقافة لعلهم ينظرون أيها أحسن مقاما.
جنايات ثقافية
تعميم اللغات الأوروبية، الفرنسية والإنجليزية خاصة، سوّقت له النخب الحاكمة في البلدان الإسلامية على أنه انفتاح على العالم ولحاق بركب الحضارة العالمية! وترافق ذلك مع تهميش اللغة الوطنية، وخاصة العربية، وازدراء الدين الإسلامي. إن أكثر من كان يقف خلف ذلك وما يزال العلمانيون والشيوعيون والمستغربون. هذا شطر الحقيقة، والشطر الآخر منها له صلة بموازين القوة في العالم، وسعي هذه النخب دأبا إلى كسب ولاء الأجنبي؛ كي يمدها بنسغ الحياة فتبقى في الحكم أمدا بعيدا؛ وفي ذلكم مقامرة لا تخدم مصالح الشعوب المسلمة ولا ثقافتها الحقيقية بتاتا.
في تركيا مثلا، تنكب قادتها بعدما أسقطوا الخلافة الإسلامية - مطلع القرن العشرين - لماضيهم الحافل بالأمجاد، ويمموا شطر الغرب يستوردون لشعبهم الكفر بالله والحرف اللاتيني، ليبنوا بهما صرحا هشا لم يطاول علياء ما طاوله أجدادهم من إيمان وقبول في الأرض، وما يزال الأتراك يتزلفون إلى الاتحاد الأوروبي عله يفتح لهم الأبواب فلا يستجيب، ويستجلبون متوددين إلى بلادهم الطاهرة منه، ومن كل حدب وصوب، السياح ليعربدوا فوق آثراها الخالدة.
والجزائر مثال آخر، لهذا التيه، بعد أن طفق العالم اليوم في نفض يديه من تركة الاستعمار الفرنسي، وشرع في التحرر من صلف الفرنسيس ومن ثقافتهم المستكبرة - ليفرض قادة البلاد الإنجليزية على الأجيال الناشئة ويقرروا تعميمها كخيار ثقافي بلا ثمن يرتجى من أهلها، وبلا مشورة تأخذ من شعبهم؛ في استخفاف جديد لا يبشر الأمة بالخير، سوى ما يروج له عن قرب الانضمام إلى هذا الحف أو ذاك، وما يراد به من تحالفات وطيدة في عالم متعدد الأقطاب تسعى إليه بجد روسيا والصين؛ وتلكم مقامرة أخرى غير مأمونة العواقب، تشكل الجانب السياسي لذلكم الخيار الثقافي.
في الجزائر، كما في الدويلات التي تشبهها، لا يستثمر الساسة في العقول، كما تفعل الدول التي في طليعة العالم؛ ربما لأن العلم يحكم في الدول المتقدمة فأدرك قادتها أهمية الإنسان فاستثمروا فيه، وتحكّم الجهل في قادة الدول المتخلفة فبقيت شعوبها في مؤخرة الركب، لا يكاد يصلح أمرها على شيء مهما صغر أو عظم.
في معركة محتدمة منذ سنوات، ولم ينقشع غبارها بعد، يتشوف حملة الماجستير والدكتوراه في الجزائر إلى مواقعهم الطبيعية في الجامعة، فلا ينالونها، رغم حاجة الكراسي الأكاديمية إلى أمثالهم، في حين تفتح السلطة القائمة في البلاد للناس أبواب الوظيفة على مصراعيه في القطاعات الأمنية بسخاء، بل إنه لينادى في شبكات الاتصال على الراغبين فيها عبر رسائل نصية تدخل هواتفهم النقالة بلا استئذان، في مفارقة عجيبة، لا يستهدي أصحابها إلى سبل حماية الأمن القومي صراحة! إن من صنع برامج "بيغاسوس" ومسيّرات الذكاء الاصطناعي وما بات يحطم كبرياء دول عظمى، ظن الناس دهرا أنها لا تقهر، لم يك موظفا يطلب بمنصب عمله في الدولة خبزه كفاف يومه، بل صنعتها عقول مجيدة، في قومها محترمة مكرمة، هي أثمن ما تملك السياسة الراشدة في حقيقة الأمر.
بات من المعلوم للقاصي والداني أن علاقة وطيدة ما تربط الحاكم المستبد بثلة من المثقفين ذات ميول نفسية تشبه سيدها ولا تعدو لدى الطرفين الحفاظ على المصالح، المصالح الدنيوية المادية المغتصبة من الجهة "المستضعفة" إلى حين من الدهر ليس أكثر.
وللقائمين على الشأن الأدبي في بلادنا نصيب من هذا الواقع. فبات الحاكم يدني منه هؤلاء لحاجته إلى ملء الكراسي الفارغة من المثقفين في حاميته، ما داموا لا يعيبون عليه الأمية في العربية، ويكبرون فيه حديثه المتعثر بالإفرنجية، لغة المحتل! وما دام هو لا يطالب هؤلاء بالقيام على اللغة الوطنية، ولا يحرضهم على الإنتاج الجيد بالعربية؛ لعلمه بأن أغلبهم لا يكنّ ودا لهذا اللسان، ولا يبالي إن خطت يده، على رق، كلاما مبتذلا غير مقروء.
من أسرار العربية
يقع في الخطأ الفادح كل من يقارن اللغات الإنسانية ويخضعها لمعايير موحدة لا تراعي الخصوصية في ما بينها؛ سيخلص من يفعل ذلك إلى نتيجة معروفة سلفا، تمنح "الريادة" لأي لغة تبعا لتفوق أهلها في المعرفة. إن هذا عمل مضر جدا بالمنافسة الحضارية بين الشعوب؛ وبيان ذلك أن لكل لغة في العالم خصائصها الفارقة، وللعربية مثل ذلك. وتتميز العربية علاوة عليه أنها كانت لغة الحضارة الإنسانية في القرون الوسطى، ثم أخرجت عنوة من المنافسة الحضارية بحركة الاستعمار التي قادها الغرب الإنجليزي والفرنسي على الخصوص؛ كما تتميز العربية بأنها ناطقة بالخطاب الإلهي للبشرية، وفي هذا الخطاب ما فيه من كنوز معرفية في شتى الميادين، تفتقد إليه الحضارات الأخرى.
لقد نطقت الحضارة الحديثة باللغات الأوروبية، وذهبت بعيدا في توظيفها لإنتاج معرفة ذات غاية مادية محضة، فكانت المحصلة كوارث في كل الميادين. بخلاف ما كتب بالعربية بوحي الخطاب الإلهي، إذ ما يزال نابضا بالخيرية والحياة، وسيكسب الرهان عاجلا أم آجلا عندما تعلن الثقافة الحديثة إفلاسها الذي بدأ يلوح منذ سنوات.
من واجب الناطقين بالعربية الصبر على هذه المحنة، واستخدام العربية في الكتابة والنشر، وفي ترجمة ما وجدوه من حكمة عند غيرهم إليها، حتى يعود للإنسانية رشدها فتستفيق على اللغة الحية الباقية بحق، ويستفيق الذين يطبلون ويزمرون بسذاجة لتفوق اللغات الأوربية على ما سواها.
لكل ساقطة في حيّهم لاقطة في حيّنا، من دون عناء البحث في النافع منها والضار. ولقد افتتن جل النقاد العرب بما عند الغربيين من مدارس نقدية ظهرت تباعا، قام بعضها على أنقاض بعض، كالبنيوية والتفكيكية والتوليدية... وألقى نقادنا عنهم الأسفار التي كانوا فيها يقرؤون بأمان، راكبين أمواج الثقافة الغربية على ذات ألواح ودسر بحماسة، لأن سواهم ركب عليها؛ فلا هم زادوا غيرهم علما جديدا، ولا هم عادوا إلى مضاربهم بنفع عميم.
عيّر قوم قومهم، وأنفسهم عيروا لو كانوا يعلمون، ألّا نظرية أدبية نقدية عند المسلمين، وأن النظريات الغربية هي الأولى بالأخذ والقبول، بعدما صم آذاناهم طنين الجوقة من وراء البحار. وأخطر ما في ذلكم أن يقول هذا الكلام أساتذة جامعيون، وينبروا بكل جد واجتهاد لتسويق بضاعة تبدت لهم بعد أعوام أنها كاسدة؛ بعدما تبرم كثير من الطلاب منها، وعزفوا أكثر فأكثر عنها وعن مجاراة أساتذتهم في ما هم فيه ذاهبون.
"الأدب الإسلامي" ثري بما يكفي ليشع على غيره، واللغة العربية ألهمت اللغات اللاتينية كيف تقعد قواعدها، و"عمود الشعر" وعاء نقدي أشبه الاشتقاق الخليلي في الاتساع والشمولية، وذلكم قليل من كثير ليس مقام الحديث عنه الآن. كتبت "مقالة" يوم كان الصراع محتدما حول العطاء الإسلامي في الأدب، وقد كان في الواقع صراعا بين جهل غير محتشم من بعضنا وسراب موهم بدا عند غيرنا؛ أما الحقيقة العلمية فقد كانت الضحية الأولى لتلك المعركة، التي أوشكت اليوم على نهايتها.
اللغة العربية اصطفاها الخالق عز وجل لآخر كتاب أنزله على البشرية ولسانا يتحدث به عباده من أهل الجنة، أي أنها اختيرت لتبقى كما هي، لا تخضع لقانون الانزياح الذي يحكم نشوء اللغات وموتها وتبلبلها؛ وعليه، يبنى على الشيء مقتضاه؛ فكل من أراد أن يخلد ما يكتب فعليه باللسان العربي لا غيره.
هذه الحقيقة العلمية ثبتت بالوحي وبالعلوم اللسانية الحديثة، وأعداء العربية يمارون في هذا ويتلبسون في ما يكتبون بألسنة أخرى قد أعماهم بريقها المنبعث في لحظة من الزمن وسيطفئها ربها إلى الأبد لا محالة؛ وفي ذلكم تمحيص شديد من الخالق جل شأنه؛ فمن أراد الله تعالى لأثره أن يبقى دلّه على هذا السر في العربية فكتب بها مكافأة له على الإيمان، ومن أراد لأثره أن يجتث من فوق الأرض أعمى بصيرته عن هذه المكرمة وأضله على علم عن الطريق. إنها قسمة عادلة، فما تغني النذر!؟
إدمان الكتابة بالعامية على منصات التواصل الاجتماعي مصيبة تهدد العربية فينا، والرقن الدائم على أزرار الحاسوب بالأصابع ينسي قواعد الإملاء، وتلك مصيبة ثانية. والفصحى حصان من كل ذلك، لأن الحفظ الإلهي يحوطها من كل جانب، وتلك منقبة جليلة لهذا الحرف والله؛ فيا ويحنا من خسارة كبرى، ستخرجنا من تاريخ الإنسانية إن لم تقرأ الأجيال القادمة ما نكتب فلا تترحم علينا! واحيفاه كم ظلمنا أنفسنا حين حرمناها من ركب الله الذي أنشد حاديه باللسان العربي!