اطلعت على رسالة التكليف التي بعث بها معالي الوزير الأول إلى السيد وزير الزراعة والسيادة الغذائية المتعلقة بتحديد المبادئ والتوجيهات التي يجب أن تشكل الإطار العام لعمل القطاع، وهي بمثابة الخطوط العريضة لسياسة الحكومة نحو خلق ديناميكية جديدة من أجل تحقيق أهداف استراتيجية وأولها سيادة غذائية في بلادنا تعتمد على إنتاجنا الوطني، وفي المحصلة تكليف مهم يأتي في ظل ظروف عالمية متوترة وإقليمية مقلقة، وبعد سنوات قليلة من جائحة كورونا وحرب أوكرانيا التي ألقت بظلالها على الإنتاج الزراعي العالمي، وتعثر سلاسل التموين بالغذاء، وأثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن الزراعة والتركز على المقدرات الذاتية هي المفتاح لتحقيق الاستقرار والاستقلال الحقيقي .
وحتى نكون منصفين ومن باب الإشادة بالمكتسبات لا شك حققت بلادنا في الموسم الماضي قفزة معتبرة على مستوى الإنتاج وخاصة في مجالي الأرز والخضروات من حيث التخطيط والإنتاج والتسويق، وهذه ليست معلومات وإحصاءات مصدرها فقط من الدوائر الرسمية بل أيضا من المنتجين والنقابات والمراقبين للعملية الإنتاجية الزراعية الوطنية.
بيد أنه في هذا المضمار لا بأس أن يتوسع النقاش لكل الراغبين والمهتمين للإدلاء برأيهم حول الزراعة في بلادنا وتحدياتها، وكما يقال إذا تزاحمت العقول خرج الصواب، فبلادنا وإن كانت تحظى بمقدرات مهمة لديها أيضا تحديات كثيرة بل ومتجددة ما لم تعالج معالجة فعالة، وفي ظل انتشار وسائل التواصل والبث التلفزيوني والرقمي وإتاحة الفرصة لنشر المقالات ذات الصلة على نطاق أوسع، فإن الجميع مدعوون للتعبير عن آرائهم في جو من الاحترام والتقدير يضمن احترام التحفظ الوظيفي والتراتبي وإشاعة جو التفاؤل ورفع الهمم وعدم التحامل على الآخرين، ولكن في نفس الوقت لا يهمل التحديات أو الأخطاء الفنية والإدارية سواء في التصور أو التنفيذ، تلك الأخطاء والمسلكيات التي من شأنها أن تفاقم الخلل والنتيجة مزيد من النزيف تحت عباءة المجاملات التي كلفتنا الكثير، ولعل المنصة "عين" التي أطلقتها الحكومة مؤخرا تصب في هذا الاتجاه بعد أن حصلت لديها القناعة أن التعاون البناء بين الجميع والنقد المسؤول وكشف الاختلالات لعلاجها في الوقت المناسب هو السبيل الأمثل لرفع أداء القطاع العمومي.
إن الزراعة في بلادنا قطاع مهم يختلط فيه الاجتماعي بالتقليدي حتى السياسي وطبعا الفني والتنموي، وهي معادلة ينبغي أن تفكك رموزها وتعالج سلبياتها بكثير من الحكمة والفنية، فهذا القطاع الذي عمل لوحده ولعقود من الزمن في ظروف بالغة القسوة من أجل بلورة زراعة تخرج من ربقة الممارسات التقليدية إلى العصرنة والأخذ بزمام العلم لزيادة الإنتاج مر خلال رحلته بنجاحات وإخفاقات وخضع لمراجعات، وهذه المسيرة ما تزال تحتاج كل فترة إلى التنقيح والتصحيح، وفي هذا السياق ارتأيت أن أسلط الضوء على خمس نقاط أساسية:
النقطة الأولى: لا يمكن تحقيق اكتفاء ذاتي أو سيادة غذائية مستدامة دون أمرين، أولهما ربط الزراعة بالاقتصاد والجدوائية فلا يمكن أن نزرع من أجل الزراعة فقط، والأمر الثاني هو القطاع الخاص الذي ينبغي أن يأخذ مكانه المناسب ليس فقط في الاستثمار في أدوات الإنتاج التقليدية، بل الاستثمار في العلم وتطوير العملية وجلب الخبراء وتكوين الفنيين الموريتانيين والعمال، والتركيز على محاصيل كالقمح والأعلاف وزراعة الخضروات والتي يتيح نمط زراعتها للقطاع الخاص هامشا أكبر من حيث التمويل والتخطيط والتسويق.
النقطة الثانية: ينبغي للقطاع العام مراجعة بعض البنود التقليدية في ميزانية الاستثمار كمكونة "السياج" الذي أنفقت فيه الدولة مليارات الأوقية خلال العقود الماضية وتحول مع الوقت إلى "خلل متسع" من الصعوبة السيطرة عليه، أو كما يقال "اتسع الخرق على الراقع"، وساهم في تحويل المجتمعات الزراعية إلى "متسولين" وزادت استفادة "المنتفعين" على حساب "المستحقين"، ولكن في نفس الوقت ينبغي أن تحول تلك الأموال والاستثمارات إلى دعم المزارع خاصة في المناطق المطرية في الأمور الأكثر أهمية والأكثر قدرة على زيادة الإنتاج في الوقت الراهن وهي "الري التكميلي" و"البذور المحسنة" و"الميكنة الزراعية".
النقطة الثالثة: تفعيل البحث العلمي الزراعي وتنشيط دور المدارس والمعاهد الفنية وفتح كلية للزراعة لتخريج مهندسين زراعيين موريتانيين، فالبحث مع الأسف رغم عقود ما نزال نتعثر في إنتاج واستنباط بذور محسنة لمحاصيلنا التقليدية قادرة على سد النقص، والمدارس الزراعية ما تزال خجولة من حيث القدرة العلمية والعملية ومواكبة التغيرات المستجدة، فالزراعة اليوم تعتمد أكثر من أي وقت مضى على العلم والتكوين والبحث وهي أمور لا غنى عنها لدعم وتفعيل المقدرات التقليدية كالأرض والمياه ووسائل الإنتاج الأخرى.
النقطة الرابعة: ما أزال على قناعة راسخة أن أي تغيير منشود نحو الأفضل يحتاج إلى ضخ دماء جديدة وتحريك المياه الراكدة في مختلف هرم الإدارات والمؤسسات والمشاريع، ليس لأن من كانوا هناك سيئين - لا قدر الله - أو مفسدين، كلا، بل قد يكونون قدموا ما لديهم، كل ما في الأمر أنهم بسبب وجودهم في مكان معين لفترة طويلة تعودوا على نمط معين من المشاكل والتحديات، وفي نفس الوقت تعودوا على نمط من الحلول والتعامل مع تلك المشاكل ولم يعد هناك ابتكار لحل المعضلات بل الاكتفاء بذلك النمط والأسلوب... ومن أجل أن نخطو خطوة إلى الأمام لا بد من الحماس في معالجة الخلل والابتكار في الحلول.
النقطة الخامسة والأخيرة: وربما لا تتعلق بقطاع الزراعة وحده بل تشمل كل الإدارة الموريتانية، وفي الواقع يستغرب المرء تجاهل هذه النقطة ودورها المهم في التنمية، ألا وهي موضوع "اللغة"، وعندما نتناول هذا الموضوع لا نتناوله من باب تعصب أو حمية للغة أو هوية بل من أجل المصلحة، فالشرخ الكبير بين العمال في الإدارة الواحدة ونمط التقارير ونوعيتها وفهمها ومدى التفاعل معها، كلها عوامل تلقي بظلالها على قدرة الموظفين والعمال والعلاقة مع الجمهور المستهدف مما يولد إحباطا وتقاعسا وخمولا، وبالتالي تكبيل الطاقات وتجميد الخبرات، إن وضع الثقة في اللغة العربية وإعادة الاعتبار لها من العوامل الهامة في إصلاح الإدارة وتقريبها من المواطن وتنشيط العمل في شقيه التصوري والتنفيذي، إضافة إلى فتح المشاريع التنموية الممولة من شركائنا في التنمية أمام "اللغة العربية" وكسر احتكار اللغات الأجنبية لهذه المشاريع المهمة لما له من ضرر معنوي قبل ضرره التنموي.