لم تكد تهدأ القنوات الأمريكية الرئيسيّة خلال عطلة الأسبوع الماضي، بسبب تتبع خبر تمّ تسريبه إلى قناة CNN عن دعوى متعلقة بقضية تدخل روسيا في الإنتخابات الأمريكية الأخيرة، قالت القناة إن إيداعها تمّ يوم الجمعة الماضي لدى إحدى المحاكم الفدرالية، من قبل فريق المحقق Robert Mueller، حسب التسريب الإعلامي الذي تأكدت صحته يوم أمس. فمن العادي في وسائل الإعلام، التي يحترم بعضها البعض، أن تجد موضوعاً على شبكة رويترز مثلا، نقلته عن صحيفة النيويورك تايمز، أو تحليلاً على ال BBC لتداعيات خبر نشرته الغارديان..، والعكس صحيح. كما تناقش ذلك الخبر البرلمانات والسّاسة، ويطيح برؤوس ويرفع أخرى.
لا يكترث المسئولون الموريتانيون بالصحافة الوطنية، بل ويتعمّدون تمييعها وزعزعة ثقة المواطن في ما تتناوله من أخبار وتحقيقات. وهكذا يضمنون بقاء هامش استقلاليتها، مهما تعاظم، ضعيف التأثير على العمل الحكومي، ويتلاشى، بالتالي، دور هذه السلطة المهمة في حياة الدولة والمجتمع. فلا يمكن للمواطن الموريتاني حتى الآن أن يقرأ لرئيس دولته مقابلة صحفية مع جريدة أو موقع إعلامي وطني، ولا أن يشاهد وزراءه على منابر البرامج الحوارية في التلفزيونات المحلية المستقلة..، حيث يكتفي الرئيس ووزاؤه بخرجات إعلامية هزيلة، هم من يحدد أوقاتها وأشخاصها ويوجهون نقاشاتها المحدودة.
إن من أهم أسباب الاستفادة من هامش حرّية الصّحافة في أي بلد وجود أربعة عوامل: قضاء مستقل، يمكن لادعائه العام أن يحرّك الملفات القضائية بناء على الاستقصاءات والعمل الصحفي الجاد؛ أو سلطة تشريعية قوية، يمكنها مساءلة السلطة الحاكمة بناء على المعلومات التي يقدّمها الإعلام؛ أو أن تدرك السلطة التنفيذية نفسها صعوبة تغطية جميع حالات التقصير الإداريّة والخروقات القانونية اليومية، فتشجع الإعلام المستقل وتتخذ منه وسيلة لتلافي النقص والاستهداء إلى أماكن الخلل. ويبدو هذا كلّه واقعاً بعيد المنال، في ظل ارتهان القضاء الموريتاني للسلطة التنفيذية، وضعف البرلمان ومركزيّة الحكم.
أما العامل الرابع المتاح، والذي يبدو تجاهله غريباً في موريتانيا، فهو التّعاون في ما بين الصّحافة نفسها من أجل الاستفادة من الموجود من هامش الحريّة. فبدل أن تتلقف وسائل الإعلام الموريتانية المستقلة الأخبار المهمّة والاستقصاءات الجادّة من بعضها البعض، وتحاول الضغط مجتمعة من أجل نشر الحقيقة، وفرض سلطة القانون، وحماية الوطن والمواطن، تعمد إلى تجاهل وخنق نظيراتها المحليّة، مهما كانت أهمية ما تنقل وحسّاسيته. فالأخبار عند بعضها -على ما يبدو- محصورة في تلك التي تكون حكومية المنطلق، أو خارجية المصدر!
لا شك، كما أسلفت، أن للسلطات الموريتانية الدور الأساسيّ في تجاهل أغلب التحقيقات والأخبار الوطنيّة المهمّة، كجزءٍ من تجاهلها للمواطن ولكل ما هو محلّي، لدرجة أن وسيلة الإعلام الأجنبية تنقص حظوظها في المصادر الموثوقة والأخبار بشكل لافت عندما يكون ممثّلها صحفي موريتاني الجنسية. وكلكم تذكرون كيف تجاهل النّظام الحاكم قضية "صناديق أكرا"، إبريل 2013، بسبب أن موقع تقدمي هو من نشرها، على الرغم من تشكيل لجنة برلمانية موريتانية للتحقيق في الموضوع. ولم يعلِّق رسميًّا على هذه القضية إلا بعد عامين، في مايو 2015، عندما أثارتها صحيفة اللموند الفرنسية.
ولكن ما لا يُستساغ، مهنيّا على الأقل، هو التعاطي السّلبي لصحافتنا الوطنيّة مع بعضها البعض. فهل من المنطقي أن لا تكتب بعض وسائل الإعلام المستقلة الرئيسيّة حرفاً واحدا عن ملف الشركة الوطنية للإيراد والتصدير "SONIMEX" الذي تنشره هذه الأيام وكالة الأخبار، مشفوعاً بالتفاصيل والوثائق؟ كما فعل بعضهم مع قضايا مشابهة عديدة، بقيّت مدفونة في أرشيف هذا الموقع، وفِي نظرائه من المواقع والصّحف الموريتانية.
ألم نعتبر ممّا آلَ إليه ملف صفقة أجهزة التجسس الذي نشرته نفس الوكالة قبل أكثر من عام؟ وهي القضية التي خلّفت احتجاز موريتانيا لـ"رهينة" إيطالي، تمّ "تهريبه" مؤخراً، بعد أن أضرب عن الطعام، وأتى مساعد وزير خارجية بلاده واصطحبه إلى إيطاليا! واستطاع النظام الحاكم، ببساطة، أن يحتجز هذا الشخص لمدة سنتين، بعيداً عن رقابة القضاء ومُساءلة السياسيين والرأي العام، وخسر الشعب الموريتاني أكثر من نصف مليار أوقية في صفقة مافياوية خسارة، لو أن من فجر خبرها صحيفة فرنسية أو أمريكية، لتناقلتها جميع وسائل الإعلام الموريتانية، ولاعتُبرت في أعين النظام فضيحة مدوية.
يمكن القول إن العقد الماضي شهد تحسّنا شكليا في مجال حرية الصحافة في موريتانيا، إلا أن هذا الهامش لم تتم الاستفادة منه بشكل يرفع من قيمة هذه السلطة ويعلي من دورها في ترسيخ دولة الديموقراطية والحكم الرشيد. فلا أعضاء الحكومة وفاعلوها امتلكوا الرغبة والجراءة اللازمة للحديث مباشرة إلى المواطن عبر منصات الإعلام المستقل وكانوا أكثر شفافية، وزوّدوه بالمعلومة الصّحيحة، ولا هم حين عجزوا عن ذلك استشعروا أهمية "تسريب" المعلومات النوعية من حين لآخر للإعلام المهني إيمانا منهم بحساسية دوره في المساهمة في خلق رأي عام فعّال ومؤسسات حكومية ناجحة.. وفِي مقابل هذه الظروف المُحبطة التي لا يحتكر فيها النظام المعلومة فحسب، بل ويشرف على نشر الأخبار الكاذبة والشائعات، لم يستطع الصحفيون الموريتانيون أنفسهم أن يواجهوا هذا الواقع بروح مهنيّة موحدة، وجهود متكاتفة.
فبدل حملات التضامن الصحفيّة البينيّة، على أهمّيتها، والدّعم "المظاهري" للمضايَقين من زملاء المهنة، كان الأولى بالفاعلين الرئيسيين وأصحاب المصداقية في هذا الحقل الحسّاس أن يدركوا أن الثقة فيما بينهم والتعاون من أجل خلق تنافس إيجابي، يُعلي من قيمة الخبر النوعي والعمل المهني الجاد هو الدّعم الحقيقي لصحافة تتلمّس طريقها إلى الحريّة وأخذ مكانتها اللائقة.