تناولنا في الجزء الأول من هذا المقال مفهوم الزندقة ونشأته في بلاد فارس قبل ظهور الإسلام وكيف واجه المسلمون في العصر العباسي خطر الزناقة وما عرفه المفهوم من تطورات كان من آخرها ما يشهده العالم الإسلامي منذ القرن الماضي من دعوات العلمانية التي يسعى أصحابها - وهم يزعمون أنهم مسلمون مؤمنون - إلى فصل الشريعة الإسلامية كليا عن تنظيم المجتمع وقصرها على شؤون العقيدة والشعائر التعبدية متوسلين لذلك بتبريرات داحضة وتأويلات منحرفة. وقد استخلصنا في نهاية المقال جملة من المقومات أو المحددات للزندقة وهي إجمالا: (إنكار حاكمية الدين والعمل على إقصائه من التأثير في المجتمع، النفاق والازدواجية السلوكية، ممارسة الـتأويل التحريفي والمغالطة السوفسطائية، الاختباء خلف عناوين تحظى بنوع من القبول الاجتماعي).
ونريد في هذا الجزء الثاني والأخير أن نبين تجليات هذه المقومات أو المحددات في كتابات للمسيء ولد امخيطير ثابتة نسبتها إليه، وهي:
- مقال المسيء المعنون بـ(الدين والتدين ولمعلمين) وهو منشور في مواقع عدة. ونشير إليه بالمقال الأول. أو المقال / البيان.
- مقاله المعنون بـ(توضيح حول مقال الدين والتدين ولمعلمين) وهو منشور في عدة مواقع. ونشير إليه بالمقال الثاني.
- رسالته إلى المحكمة العليا التي يعلن فيها توبته وهي منشورة في موقع أكجوجت إينفو.
وقبل البدء في بسط الموضوع، نود التنبيه إلى أمور ثلاثة:
أولها: أننا لا أسعى هنا للرد على افتراءات ومغالطات المسيء تجاه الجناب النبوي الشريف، فقد كفانا مؤونة ذلك كتاب وباحثون قاموا بالأمر في وقته، من أبرزهم: الأستاذ مختار بن الغوث المحاضر بجامعة الملك عبد العزيز في مقال بعنوان (الدين والتدين ولمعلمين: قراءة نقدية) والأستاذ الإعلامي في قناة الجزيرة محمذن باب ولد أشفغ في مقال بعنوان (لا.. لا عنصرية ولا محاباة في مواقف النبي) والردان منشوران على شبكة الانترنت.
والأمر الثاني: أن دراسة كتابات ولد امخيطير تبعث على الاعتقاد أنه كان يعمل ضمن فريق من الملحدين والزنادقة لديهم مخطط مدروس لإثارة الرأي العام في توقيت محدد (أواخر عام 2013 وبداية عام 2014) عن طريق نشر مقالات تشكك في عدالة وعصمة الأنبياء وخاصة محمدا وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام من أجل تحقيق أهداف مرسومة يبدو أن جهات خارجية معادية للبلد لم تكن غائبة عنها. ومن دلائل هذا الاستنتاج أن أحد هؤلاء الملحدين وهو محمد ولد عبد العزيز ولد الشيخ محمد المامي كتب من مهجره بأمريكا بعيد اعتقال ولد امخيطير مقالا يفيض إلحادا وسبا بعنوان (هذا النبي من ذاك الإله) وعنوانه هذا يواطئ كيفية استخدام ولد امخيطير في نهاية مقاله الأول للمثل العربي (ذاك الشبل "البيظاني " من ذاك الأسد). وقد اعترف هذا الشاب بإلحاده وتأييده لولد امخيطير في مقابلة أجراها معه راديو سوا الأمريكي الناطق بالعربية ونشر خلاصتها على موقعه الإلكتروني. كما كتب المدون العتيق ولد آب قبيل ظهور مقال ولد امخيطير الأول -وقفا لمصادر إعلامية متواترة - تدوينة على صفحته بالفيس بوك تضمنت إساءة للنبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم غادر البلاد بسرعة مثيرة للانتباه متوجها إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وقد تابعنا خلال محاكمة ولد امخيطير اتجاها لدي آحاد من المدونين يظهر نوعا خاصا من التعاطف معه يتعدى الدعوة إلى قبول توبته - بناء على رأي فقهي مرجوح كان مقننا في المادة 306 ق. ج. م الجاري تعديلها - إلى التعاطف مع موقفه وشن حملة على الفقهاء وجماهير النصرة النبوية عموما ووصفهم بالتعصب والنفاق والتخلف. ومن أبرز أصحاب هذا الاتجاه المدونة مكفولة بنت إبراهيم التي تظهر على صفحتها منذ سنوات تدوينات وتعليقات تتضمن - فضلا عن التعاطف مع المسيء - أمورا بالغة الخطورة تدل - إن صحت نسبتها إليها - (لا يمكن الثقة كليا في المكتوب على الفيس بوك نظرا لإمكان فبركة الحسابات وقرصنة الصفحات) على زندقة متأصلة. ومن هذه الامور الشنيعة: {الهجوم المستمر على العلماء والفقهاء ونعتهم بأبشع الأوصاف دون استثناء أو تقييد، السخرية من بعض الأحكام الشرعية (تعدد الزوجات، المفاضلة بين البنت والابن في الميراث، إيجاب عدة الوفاة على المرأة دون الرجل)، الاستهزاء بالملائكة الكرام، التنقيص من اللغة العربية}. وقبل أيام تابعنا تصريحات على قناة إيطالية لأحد أصدقاء ولد امخيطير وهو الناجي ولد عبد الله تدل على اشتراكه معه في المشروع الزندقى حيث أنه عبر عن تأييده له وتحدث عن بعض فيئات المجتمع الموريتاني مستخدما جملة خاصة (تعبر عن الأطروحة التي لا تحمل الدين مسؤولية بعض المظالم الاجتماعية بل تحملها لممارسات خاطئة) قريبة في ألفاظها ومطابقة في مضمونها للجملة التي افتتح بها المسيء مقاله الأول، وألمح الناجي إلى رفضه هذه الأطروحة وهو الرفض الذي كان محور مقال ولد امخيطير الأول، وهذا ما يكشف تواطؤ الشابين واعتمادهما مخططا فكريا وصياغيا واحدا.
وقد نبه عدد من المدونين الكبار إلى استغلال ولد امخيطير ورفاقه للمقهى التونسي بالعاصمة وتحويلهم إياه إلى ناد للزندقة والإلحاد مطالبين بالتحقيق مع القائمين على المقهى لإيقاف استغلاله في هذا النشاط التخريبي.
وبناء على هذه المعطيات يغدو من المشروع السؤال: لماذا لم يعمق التحقيق في ملف ولد امخيطير ليشمل كل أفراد الفريق المحتمل والمتواطئين معهم؟
والأمر الثالث: أنه من المعلوم أن المجتمع الموريتاني منذ سقوط دولة المرابطين وحتى مجيئ الاستعمار الفرنسي لم يعرف الدولة المركزية، وساد فيه العمران البدوي الذي تراقفه عادة أشكال خاصة من التنظيم السياسي (المشيخات العشائرية، الإمارات القبلية) وفي ظل هذا العمران البدوي يسود التدين الفردي والتناصر القبلي على حساب التدين الاجتماعي والتعاضد العقدي. وهو ما أدى - بالرغم من تميز البداوة الموريتانية بانتشار واسع للعديد من المعارف - إلى ضمور وندرة الاهتمام بالسياسة الشرعية (الفقه الدستوري) وما تتضمنه من إقامة العدل والإنصاف ورفع المظالم وإعلاء القيم الخلقية الإسلامية الأصيلة القائمة على تحكيم الأخلاق والتقوى والكفاءة في تقدير الأشخاص دون اعتبار أي معايير مخالفة. ومن هنا عانت شرائح من المجتمع الموريتاني القديم (لحراطين، لمعلمين، إيكاون، أزناكة) قدرا من التهميش والظلم في تلك الفترة جراء سيادة بعض التقاليد والعادات المخالفة للشرع الحنيف والتي أشاعت نظرة نمطية سلبية تجاه تلك الشرائح. ولا شك أن السعي إلى معالجة مخلفات المظلوميات القديمة التي عانت منها هذه الشرائح وتغيير النظرة السلبية الخاطئة تجاهها هو عمل نبيل وقضية عادلة ينبغي أن تحظى بتأييد الجميع وأن تصان ممن يستغلونها لمآرب خاصة أو أغراض مشبوهة.
ولنبدأ باستعراض مظاهر الزندقة في كتابات للمسيء ولد امخيطير:
1- إنكار حاكمية الدين على المجتمع والسعي إلى تهميشه وإقصاءه من دائرة التأثير
لما كان الدين الإسلامي يمتاز بأنه دين ودولة وعقيدة وشريعة، مما يمنحه الحاكمية على المجتمع الاسلامي، فإن المقصود أولا و بالذات لكل زنديق هو الكيد للدين من أجل إضعاف تأثيره والتشكيك فيه وتنفير الناس منه. وهذا هو الهدف الأساسي لمقال المسيء الأول. وقد يبدو لبعض الناس من القراءة الأولى للمقال أنه نفثة مصدور صادرة من شاب غر يعاني من رواسب مظلومية تعرضت لها شريحته (لمعلمين) في مرحلة ما من تاريخ المجتمع الموريتاني. لكن القراءة المتأنية للمقال تظهر بجلاء أن هذا الفهم ساذج وسطحي وهو مجرد إيحاء تمويهي ستؤسس عليه الخطة (ب) للتخلص من نتيجة المقال عند المجتمع والدولة لها.
فحقيقة هذا القال - في نظرنا - أنه بمثابة (بيان رقم 1) أريد منه الإعلان عن التأسيس الفكري لمجموعة من الزنادقة تتخفى خلف الدفاع عن شرائح معينة بزعم السعي إلى توعيتها وإنصافها.
يتألف المقال الأول - الذي يحق في نظرنا أن يسمى ( المقال / البيان ) لخطورة مضمونه ومقصوده - من ثلاثة عناصر هي: أطروحة أولى، ونقض هذه الأطروحة، ثم إعلان أطروحة ثانية مغايرة هي الهدف المقصود. فالأطروحة الأولى هي أن ما يلاحظ في المجتمع الموريتاني من "الافتخار بالأنساب" و"الطبقية" مما أنتج تمييزا ضد لمعلمين مثلا هو أمر لا علاقة له بالدين في جوهره. وقد عبر كاتب ( أو كتاب) المقال عن هذه الأطروحة بالقول: (لا علاقة للدين بقضيتكم أيها لمعلمين الكرام فلا أنساب في الدين ولا طبقية ولا "امعلمين" ولا "بيظان" وهم يحزنون...
مشكلتكم إن صح ما تقولون يمكن إدراجها فيما يعرف بـ"التدين"...... تلكم أطروحة جديدة وقد وجدت من بين لمعلمين أنفسهم من يدافع عنها.... حسنا.... دعونا الآن نعود للدين و التدين حتى نتبين موقع الأنساب والطبقية من الدين..)
ثم أورد المقال نقلا عن أحد الباحثين تمييزا بين "الدين" و "التدين " باعتبار أن الدين (هو ذات التعاليم التي هي شرع إلهي) والتدين (هو التشرع بتلك التعاليم فهو كسب بشري). وبذا يصح - وفقا لهذه الأطروحة الأولى - أن يقال إن أي تمييز في المجتمع على أساس النسب أو الطبقة هو مبني على نوع من التدين الخاطئ والدين منه براء.
ثم يشرع كاتب (أو كتاب) المقال / البيان في سرد ما يعتبره نقضا لهذه الأطروحة منتقيا أحداثا من العهد النبوي ليحرف دلالاتها وصولا إلى هدفه الزندقي. وهذه الأحداث هي (فداء أسارى بدر وإعفاء أبي العاص بن الربيع ، تكريم هند بنت عتبة و خالد بن الوليد بعد إسلامهما وعدم تكريم وحشى الحبشي بعد إسلامه، العفو عن رجال قريش بعد فتح مكة وقتل رجال بني قريظة بعد نقضهم العهد في عزوة الأحزاب) وقد أخذها المسيء معزولة عن سياقها متجاهلا الفروق الجوهرية بين أطرافها ليفسرها بطريقة مغلوطة ويستنتج منها في زعمه أن النبي صلى الله عليه وسلم - وحاشاه من ذلك - حابى قرابته وطبق التمييز ضد من ليسوا من قبيلته ومارس القتل الجماعي ضد من ليسوا من قومه. وهذا السعي الخائب للطعن في عصمة وعدالة الجناب النبوي هو سلوك معروف للزنادقة، لأنه بالتشكيك في عدالة وأمانة النبي صلى الله عليه وسلم ستزول الثقة في الشرع الذي جاء به والكتاب الذي بلغه.
وبعد سرد المسيء هذه الأحداث - كما حرفها - بعناية وتركيز يصل إلى إعلان الأطروحة الزندقية المعتمدة لديه مستخدما أسلوبا ماكرا تكون فيه الكناية أبلغ من التصريح ،حيث يقول في نهاية (المقال/ البيان): (إخوتي أريد فقط أن أصل معكم – و أخاطب لمعلمين أساسا – أن محاولة التفريق بين روح الدين و واقع التدين هي محاولات "طيبة لكنها لا تنافس" فالحقائق لا يمكن طمسها، وهذا الشبل/البيظاني من ذاك الأسد... وأن الذي يعاني يجب أن يكون صريحا مع ذاته في سبب معاناته مهما كان السبب، إذا كان الدين يلعب دورا فلنقلها بأعلى صوت: يلعب الدين ورجال الدين وكتب الدين أدوارهم في كل القضايا الاجتماعية من: قضايا لحراطين و لمعلمين وإيكاون الذين لا زالوا صامتين رغم أن الدين يقر بأن مأكلهم حرام و مشربهم حرام وعملهم حرام...) وبذا يتضح سعيه إلى تحميل الدين نفسه مسؤولية ما حصل أو يدعى حصوله.
من مظالم تعاني منها ثلاث شرائح (لمعلمين، الحراطين، إيكاون) ويدعو هذه الشرائح إلى التحلي بالصراحة وإعلان التمرد على الدين الإسلامي. وواضح أن هذه الدعوة جزء أساسي من مشروع إقصاء الإسلام من المجتمع الموريتاني.
2- النفاق والكذب بادعاء الالتزام بالدين والتظاهر أمام العامة باحترام الشعائر واغتنام أي فرصة مأمونة للكيد للدين وازدراء أحكامه وشعائره
يظهر هذا المحدد في المقال الثاني الذي كتبه المسيء بعد ثلاثة أيام من نشر المقال الأول (كما ورد في تلخيص مذكرة محاميته الوارد في قرار المحكمة العليا رقم: 01/2017 بتاريخ 31/01/2017). فبعد أن شاهد رفض المجتمع والسلطة لمضمون مقاله الأول وتكاثر الداعين إلى معاقبته بجريمة الردة المغلظة (المروق من الدين مضافا إليه سب النبي صلى الله عليه وسلم والتنقيص منه)، لجأ ولد امخيطير إلى الأسلوب المعهود للزنادقة عندما يحيق بهم مكرهم السيء ألا وهو الكذب والنفاق والخداع من أجل إنكار كل ما يجلب لهم العقوبة والتبرؤ منه مهما كلفهم ذلك من سفسطة ومكابرة. ويتجلى نفاق المسيء وازدواجية سلوكه في:
أ- قوله في مقاله الثاني الذي سماه توضيحا والحق أنه تمويه (و في هذا الإطار أريد أن أؤكد على ما يلي: 1- لم أسئ فيما مضى عن قصد أو عن غير قصد للرسول صلى الله عليه وسلم ولن أفعل مستقبلا، ولا أؤمن أن في هذا العالم من هو أكثر مني احتراما له صلى الله عليه وسلم).
فهذا عناد ومكابرة منه إذ يعلن أنه لم تصدر منه أي إساءة ولم يقترف أي ذنب. وقد جاء تأكيد هذا العناد أيضا في ملخص مذكرة محاميته في قرار المحكمة العليا: (...فإن موكلها، اعترف بأنه هو الكاتب للمقال، وأنه لا ينوي الإساءة لسيد الخلق، بل قصده هو تبيان الفهم الناقص عند البعض، وأنه أراد التفرقة بين الدين والتدين، وأن موكلها، كتب بعد ثلاثة أيام من كتابة المقال الأول مقالا آخر، لتوضيح ما أراد تبيانه، وندمه على ما صدر من سوء فهم، من لدن الجمهور، مؤكدا فيه أنه "لم يسئ في ما مضى عن قصد أو غير قصد للرسول صلى الله عليه وسلم ولن يفعل مستقبلا، وأنه لا يؤمن أن في هذا العالم من هو أكثر منه احتراما له صلى الله عليه وسلم”،....) ويبدو من ملخص مرافعة المحامية فاطمة امباي أنها لا تجيد العربية وإلا فماكان لمحامية كبيرة مثلها أن تعتمد هذه المغالطات السخيفة. فموكلها قد أتى بالتفرقة بين الدين والتدين باعتبارها أساس أطروحة أولى سرعان ما سخر منها وبدأ في نقضها بتفسيره المنحرف لتلك الوقائع التي انتقاها من السيرة النبوية.
والغريب في أمرالمسيء أنه لو كان اعترف في المقال الذي سماه توضيحا بأنه أساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأعلن توبته من هذا الجرم وندمه عليه، لصحت توبته فقهيا عملا بظاهر حاله. لكنه أخذته العزة بالإثم وتمكنت منه الزندقة فطفق في مقاله التوضيحي يكابر ويغالط كاشفا للقراء وللقضاء عن عدم صدق توبته ولو في الظاهر. فإذا لم يكن الطعن في عدالة النبي صلى الله علي وسلم واتهامه بالمحاباة والظلم في مقال ممنهج ينتقي حوادث معينة من السيرة النبوية يحدد زمانها ومكانها وأشخاصها بدقة وينتزعها من سياقها محرفا دلالاتها عن عمد وسبق إصرار، إذا لم يكن هذا الصنيع تنقيصا وإساءة، فما هي الإساءة إذن؟ وما هو النتقيص؟ وإذا لم يكن السعي إلى تشويه الدين وتحميله أخطاء بعض أتباعه وتحريض فئات من الشعب على نبذه والتمرد عليه ردة وزندقة، فما الردة؟ وما الزندقة؟.
ب - قال في رسالته إلى المحكمة العليا التي يعلن فيها ما سماه توبته: ((أشهد الله تعالى العالي المتعالي على توبتي من كل خطأ اقترفته في حياتي، وأبرأ إليه تعالى مما أقدمت على كتابته في ذلك المقال. وأقر بخطئي، وأتضرع إلى الله طلبا لعفوه ومغفرته، وأطلب من المحكمة تفهم توبتي والتجاوز والعفو عن ذلك الخطأ الذي أشهد الله على توبتي منه، والتي أعلنتها سابقا، وكبتتها أيضا في المراحل الأولى للتقاضي وتم تغييبها، وصمّت الآذان عنها، وأعلنها اليوم بإرادتي وبكامل وعي توبة نصوحة لله ولا لغيره...)).
وجاء في قرار المحكمة العليا في تلخيصها لمرافعة محاميته فاطمة امباي: ((وقد صرح المتهم أمام الشرطة، وأمام قاضي التحقيق بالتوبة، وهو تصريح صريح وواضح، لا يمكن أن يكون مثار شك، فيتعين لذلك تطبيق العقوبة التعزيرية، بدل الاعدام في حال تاب المتهم في أجل ثلاثة أيام)). وهنا نسأل الاستاذة فاطمة امباي: مم تاب موكلك؟ فان كان تاب عن الإساءة فهو لا يعترف بها أصلا وتوبته لا محل لها .وإن كان تا ب مما سماه سوء فهم البعض لكلامه، فهذه توبة من أمر وهمي لا وجود له، لأن كل من طالع مقاله من خصومه وأنصاره في كل بقاع العالم لم يفهموا منه إلا أمرا واحدا هو الإساءة لنبي الإسلام عليه الصلاة والسلام ودعوة بعض الفيئات للتمرد على هذا الدين، وهذا أمر لا مفر منه لأن مقاله أعد بعناية ليكون بيانا واضحا لهاتين الفكرتين، فهو متواتر على محور واحد لإفادتهما. وهذا النوع من الصياغة يجعل الكلام نصا في معناه لا يحتمل أي تأويل مغاير. فيكون ادعاؤه أن كل الناس فهموا كلامه المتواتر فهما سيئا وقولوه ما لم يقل و ألزموه ما لا يلزم عن كلامه مجرد سفسطة سمجة لا تغني عنه شيئا. فلا محصل إذن لتوبته على كلا التقديرين. وننقل للقراء بعضا مما كتبته موسوعة ويكيبديا الحرة في تعريفها بولد امخيطير: ((محمد الشيخ ولد لمخيطير هو شاب موريتاني ينتمي لشريحة مجتمعية تسمى لمعلمين. كتب مقالا يتمحور حول قضية لمعلمين. {....} وتجلت بوضوح في مقاله عدة إساءات للنبي. حيث أظهر المقال النبي بأنه شخص غير عادل وأنه قد ظلم بني قريظة {....} وكذلك تجلى بوضوح ولعدة مرات امتناعه عن الصلاة على النبي بعد ذكر اسمه كما يفعل المسلمون)).
وإذا كان من الممكن بل من المطلوب أن يتوب الإنسان في أي مرحلة من حياته قبل احتضاره وليس لأحد أن يمنعه من ذلك، فإن مشكلة توبة ولد امخيطير هذه التي يبعثها عن طريق محاميه ولد أمين إلى المحكمة العليا هي أنه يؤسسها على توبته الزائفة والوهمية في مقاله الثاني حيث يقول في رسالته إلى المحكمة: ((وأطلب من المحكمة تفهم توبتي والتجاوز والعفو عن ذلك الخطأ الذي أشهد الله على توبتي منه، والتي أعلنتها سابقا، وكبتتها أيضا في المراحل الأولى للتقاضي وتم تغييبها...)) ولنلاحظ جيدا أنه لم يذكر نوع الجرم الذي ارتكبه وهو سب النبي صلى الله عليه وسلم في أي كلام صدر عنه، بل حرص على التلفظ بتوبة مجملة ومبنية على توبته في مقاله التوضيحي وقد أوضحنا أنها لا أساس لها من واقع، فلن يكون ما بني عيها أحسن حظا. ولو أن المسيء أعلن توبة صادقة في الظاهر ومستقلة عن تلك التوبة الوهمية لتوقفنا عن الحكم عليه وفوضنا أمره إلى علام الغيوب.
ج- ذكر ولد امخيطير النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة مرة في مقاله / البيان المكتوب حال الاختيار ولم يصل عليه أو يسلم في أي منها. و في هذه المرات الثلاث عشرة ذكر المسيء نبينا عليه الصلاة والسلام سبع مرات باسمه الشريف (محمد) مجردا من صفة النبوة و الرسالة وهذا صنيع الكفار والمستشرقين، وهو خلاف سبيل المؤمنين الذين يتأدبون بقوله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} ويمتثلون قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}. وفي المقال نفسه كتب المسيء عن عطية القرظي: ((فنجا من السيف المحمدي)) وكتب عن فتح مكة: (( ما يعرف بفتح مكة)) ولا يخفى ما في التعبيرين من سوء الأدب. ولا شك أن تعمد المسيء ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقال ليس عن تكاسل أو رغبة في الاختصار، وإلا لرمز للتصلية ولو مرة واحدة بحرف (ص) أو بحروف (صلعم) كما يفعله بعض الناس تكاسلا أو إيثارا للاختصار وإن كان العلماء يكرهونه. كما أن هذا الترك الكلي للتصلية يستبعد صدوره من شخص مسلم تتوفر لديه دواعي التصلية من محبة لنبيه ورغبة في تحصيل الثواب. فلا بد إذن من سبب خاص لهذا الترك الكلي، إذ لا يمكن أن يكون صدفة أو اتفاقا لأن الصدفة لا تتكرر بانتظام أو بتعبير المناطقة: ((الاتفاق لا يكون دائميا ولا أكثريا)). فلم يبق من باعث على هذا الترك إلا خلو قلب صاحبه من أي محبة أو تعظيم لنبي الإسلام عليه الصلاة والسلام وهذا هو الحال المناسب للزنديق. أما في المقال الثاني المكتوب حال الخوف والاضطرار، فقد ظهر نفاق المسيء و مراءاته فحرص على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل مرة من المرات التسع التي ذكره فيها حتى إن إحداها كان ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالضمير. وفي مرة منها وصفه بالرسول الكريم. وهذا الانقلاب في طريقة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من الترك الكلي للتصلية عليه إلى الالتزام بذكرها تامة دون رمز أو اختصار، هذا الانقلاب في الموقف لو كان ثمرة توبة واضحة صادقة لما كان موضع إشكال، ولكن حيث أن الالتزام بالتصلية جاء في مقال تمويهي يتحدث صاحبه بمغالطة ومكابرة فهو دليل على نفاقه وزندقته.
3- ممارسة التأويل التحريفي لنصوص الدين ولما يصدر عن الزنديق من أقوال واعتماد السفسطة و المكابرة
التأويل هو صرف الكلام عن معناه الظاهر إلى معنى مجازي اعتمادا على قرينة معينة. وعند بعض المحققين هو تفسير الكلام بمعنى لا يظهر إلا بالنظر إلى التركيب الكلي لمفرداته والسياق الواردة فيه (الظهور التركيبي) وهو يختلف عن المعنى الذي يظهر من مفردات هذا الكلام إن نظر إليها مفردة مفردة (الظهور الإفرادي). ومن هنا فإذا كان الكلام يقبل تأويلا سائغا وفق الدلالات العرفية للغة المستعملة فلا يمكن رفض هذا التأويل. أما إن كان التأويل المدعى مخالفا للظهور الإفرادي لأجزاء الكلام ولا يدعمه الظهور التركيبي للكلام ولا سياقه ولا العرف اللغوي، فإنه يكون تأويلا تحريفيا باطلا. ولما كانت مقاصد الزنادقة مصادمة لحقائق الدين الاسلامي ومعرضة للإنكشاف الذي يوقعهم تحت طائلة العقاب، فإنهم لا يجدون بدا من اللجوء إلى تأويلات تحريفية باطلة يتشبثون بها تشبث الغريق بالقشة ويحاولون دعمها بنوع من التشغيب والسفسطة.
ويتجلى سعي المسيء إلى استعمال التأويل التحريفي في محاولته الخائبة للخروج من مأزق مقاله الأول. فلما كان قد سرد تلك الأحداث التي انتقاها من السيرة النبوية متعمدا إخراجها عن سياقها ومجاراة بعض المستشرقين المعادين للنبي صلى الله عليه وسلم في تحريف دلالاتها وتفسيرها بصورة كيدية مغلوطة للطعن في الجناب النبوي الشريف، فقد ظن برعونة وحماقة أنه يمكنه بكتابة كلام تمويهي أن يهدئ الساحة ويخدع الجمهور ليكسب بعض الوقت وينجو بجلده هاربا إلى خارج البلاد ليواصل زندقته دون أن يكون قد تراجع عن طعنه في عدالة النبي صلى الله عليه وسلم فيفقد بذلك الورقة الرائجة لدي الجهات التي ستؤويه في الخارج. فاستسهل الأمر وكتب يقول: ((إن جميع الأحداث والوقائع التي ذكرتها في مقالي السابق هي أحداث حقيقية وتاريخية وكجميع الأحداث لها مظاهرها السطحية ومغازيها العميقة)) ثم ذكر أن المعاني السطحية لهذه الأحداث هي ما اعتمدته شريحة "الزوايا" لتوظفه ضد "لمعلمين" حيث واصل يقول ((هذه هي النقطة الأهم والتي شكلت سوء فهم لدى الكثيرين ممن قرؤوا المقال وأود منكم الانتباه لها، فعكس ما روج له البعض عن أنني أسأت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أريد هنا أن أوضح ما أردت تبيانه: وهو أنه أمام ثنائية المظهر السطحي والمغزى العميق فقد استخدم "أزواي" سطحية تلك الأحداث والوقائع التي حدثت في عصر الدين ليأسسوا عليها ما يخدم مصالحهم في زمن "السيبة" من خلال تقديم تلك السطحية على شكل تشريع تديني انتقل مع الزمن إلى يومنا هذا، وكانوا يهملون المغازي العميقة للنبي صلى الله عليه وسلم)).
ويلاحظ على كلامه أولا: أنه يكذب نفسه في المقال الأول فكلامه هنا - باستثناء ادعائه الكاذب أنه لم تصدر منه إساءة للجناب النبوي - ينسجم مع الأطروحة الأولى التي ذكر أن بعض لمعلمين يتبنونها ومفادها: أن ما شهده المجتمع الموريتاني القديم من تمييز ضد بعض الفئات يعود إلى شكل من التدين الخاطئ (عادات منافية للشرع) وليس الى جوهر الدين. وهذه الأطروحة افتتح بها المسيء مقاله الأول ساخرا منها ثم وظف الوقائع التي ذكرها من أجل نقضها ليخلص إلى الأطروحة التي تحظى بـتأييده وهي مناقضة للأطروحة الأولى، حيث لا تعتبر من المفيد ولا الصحيح التمييز بين الدين والتدين، وتنصح الفئات التي تعاني تهميشا بالتخلص من الدين ونبذه لافتكاك حريتها.
وثانيا: أنه لم يوضح - رغم أنه يكتب مقالا توضيحيا - ما هي المغازي العميقة لهذه الأحداث والتي لا يمثل حملها عليها أي إساءة.. والواقع أنه ما كان يريد توضيح هذه المغازي، لأنه إن ذكر المعاني الصحيحة لهذه الأحداث ناقض مقاله الأول وخسر ورقته الرابحة التي تمنحه حظوة لدي حلفائه أوسادته الجدد الذين كان يتهيأ للفرار إليهم، وإن كرر ما نقله عن أعداء الاسلام بصددها أحكم الخناق على نفسه. فاكتفى بادعاء وجود مغازي عميقة لهذه الأحداث لا يريد عن عمد وليس من مصلحته في الحال الكشف عنها. وهو بهذا التلويح بتوظيف ثنائية السطح والعمق أو الظاهر والباطن يسير على نهج أسلافه وأقرانه من الزنادقة (الباطنية وغلاة الصوفية والعلمانيون) الذين يلجؤون كلما حاق بهم الخطر إلى توظيف هذه الثنائية ليؤسسوا عليها تأويلاتهم الباطلة. ولكن المسيء لم يكن قادرا على تقديم تأويل معين يخلصه من مأزقه، لأن الأحداث المذكورة ليس لها إلا التفسير السليم الذي يفرضه سياقها ومنطق مسارها أو التفسير الكيدي المحرف الذي يقدمه أعداء الاسلام وكلاهما لم يكن يخدم موقف المسيء أثناء تحريره مقاله "التوضيحي".
4- الاختباء والتستر خلف عناوين نخبوية لها نوع من القبول الاجتماعي
يتجلى هذا المحدد في محاولة المسيء توظيف قضية الشريحة التي ينتمي إليها من أجل الظهور بمظهر المنافح عن حقوقها لنيل تعاطفها وتعاطف من يناصرون قضيتها. ولا بد من الإشارة إلى أن شريحة لمعلمين المحترمة قد تبرأت من جريمة المسيء كما تبرأت منها عائلته التي عرفت - كما أفاد كثيرون - بالعلم والاستقامة باستثناء والده المثير للجدل. كما لا بد أيضا من التذكير بتسفيه المسيء لتوجهات "حراك لمعلمين" الذي أعلن منذ إنشاءه سعيه لرفع الظلم والتمييز عن هذه الشريحة باستلهام أصول العدالة و المساواة في الدين الإسلامي. وهي الأطروحة التي بدأ المسيء مقاله بالسخرية منها وعمل على إبطالها كما مر توضيحه. ومن تجليات محاولات توظيف المسيء لانتمائه الاجتماعي:
- يقول المسيء في تعليله لموجة الغضب العارمة ضد مقاله الأول ((... لقد ساعد في ردات الفعل تلك مجموعة من العوامل منها: التحليل التآمري المتأصل لدى "أزواي" والمتمثل في تهويد وتكفير وتهميش كل ما هو "أمعلم" والأخذ بسطحيات الأمور من أجل قضاء حاجات في أنفسهم المريضة قضوا منها وطرا فيما مضى وذلك من خلال تلفيقهم للأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرسول منها براء...)).
- ويقول محاولا الإيهام أن استهدافه هو بسبب انتمائه الاجتماعي وليس بسبب إساءته للجناب النبوي ((...إن من يتجرأ {يقصد شريحة الزوايا} على وضع الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف لن تمنعه أخلاق ولا دين عن القيام بتأويل مقال لشخص بسيط في عالم مغمور ولا سيما إذا كان هذا الشخص "أمعلم"، ولن يبخلوا جهدا في تحريك العاطفة الدينية لدى عامة المسلمين إذ وصلت بهم الوقاحة إلى إشاعة أن "لمعلمين" أساءوا للرسول صلى الله عليه وسلم من خلال مقال كتبه "أمعلم"...)).
- ويقول في الفقرة قبل الأخيرة من مقاله الثاني في نفس تحريضي مقيت: ((إخوتي لمعلمين: يجب أن نعرف جميعا أننا في صراع قديم متجدد مع ما يسمى "أزواي"، وأنهم لن يدخروا جهدا من أجل إرجاعنا للوراء قدر الإمكان وسيستخدمون جميع الوسائل المشروعة واللا مشروعة ويجب علينا أن نكون منتبهين حذرين وأن نعرف أن من بين أولويات الوسائل التي يستخدمونها هو عامل التفرقة الذي استوحوه من رفيقهم القديم: "المستعمر" والمتمثل في قاعدة "فرق تسد"، لذا يجب أن نعي جدا هذا الأسلوب وأن نحافظ على وحدتنا وعلى وحدة نضالاتنا)).
وفي الأخير نصل إلى أن المسيء ولد امخيطير هو جزء طلائعي من مشروع زندقي مبرمج يظهر أن مخططيه أعدوا لإطلاقه في توقيت مختار محاولين اغتنام موجة ما سمي "الربيع العربي"، غير أن يقظة الشعب الموريتاني وعاطفته الدينية المرهفة وتجاوب العلماء والسلطات السريع مع هذه الهبة الشعبية التي سميت بالنصرة النبوية حالتا - بحمد الله - دون وصول هذا المشروع إلى أهدافه الخطيرة.