في الفترة الأخيرة من حكم ولد الطايع، وبحكم السكن في منطقة واشنطن، كثيراً ما كنت أتولى الاتصال بالسلطات الأمريكية المحلية للحصول على إذن (إشعار على الأصح) للاحتجاجات السياسية الموريتانية التي كانت تحدث يومها هناك. ومن منطلق تلك التجربة، وبعد شيء من الاطلاع على بعض النظم والقوانين المتعلقة بحرية التعبير والتظاهر والتجمّع، يمكنني القول بأننا (حكومة وشعباً)، وبحكم رسوخ ثقافة الأحادية والاستبداد، نستخدم ونتقبل في الغالب خنق الحريات بحجة "غياب الترخيص" بشكل غير صحيح وغير قانوني.
ما تحدث عنه الناطق الرسمي باسم الحكومة الْيَوم، السيد محمد الأمين ولد الشيخ، من ضرورةٍ لترخيص الاحتجاجات و"ضوابطٍ للتظاهر"، وما تبرر به السلطات الحاكمة قمع الأفراد وفض التجمعات السلمية بالعنف، هو نفس ما تتحجّج به جميع الأنظمة الاستبدادية.
القول بأن حرية التعبير والتجمع مصانة و"لا يوجد أي تقييد لها وأنها مطلقة في ظل النظام الحالي" قول يجانب الواقع للأسف. فما تفعله السلطات الآن باختصار، هو أنها اتخذت من مطلب الترخيص وسيلة لخنق حرية التجمع لا أداة للتمكين من حقه. فباتت تمنع بعض الجمعيات والأحزاب السياسية من الترخيص، رغم سلميّتها، بدون مبررات قانونية مقنعة، وتمنع الطلاب والعمال والأفراد العاديّين من حق التظاهر السلمي، رغم تقديم الطلبات في الأوقات المناسبة، ثم تفرط في العنف تجاههم بشكل غير إنساني، بحجة أن أنشطتهم غير مرخّصة.
على السلطات الموريتانية أن تدرك بأن أعراف التظاهر السلمي وقوانينه في جميع الدول التي تكفل هذا الحق واضحة ومعروفة. وأن الأصل في التجمع والاحتجاج هو الترخيص، وأن إبلاغ السلطات عن الأنشطة في الأماكن العمومية ليس ضروريا في الأصل، إلا إذا رأى القائمون عليها – مثلا - أحد الأمور التالية:
- حاجتهم إلى حماية أمنية من أجل ضمان حرية التعبير عن رأيهم، إذا توقعوا أن هناك طرفا ما قد يعيق تلك الحرية.
- توقع حضور عدد كبير من النَّاس، قد يحتاج إغلاق أحد الشوارع، أو تنظيم حركة السير والحياة العمومية، بشكل ينسجم مع ذلك النشاط. وهذا الأمر يختلف بين مراكز المدن والضّواحي والأرياف، لاختلاف طبيعة ما يمكن أن يؤثر على الحياة العامة في كل من هذه الأماكن.
- إمكانية تزامن حجز نفس المكان العمومي مع حجز جهة أخرى، خوف إعاقة أي من هذه الأنشطة..
إلى غير ذلك من الأمور التي تهدف إلى صيانة حق التظاهر وليس إعاقته كما هو الواقع عندنا للأسف.
أما على مستوى الفنادق والأماكن الخاصة، كالبيوت ونحوها، فلا يمكن للسلطات أن تعيق فيها حرية التعبير والتجمع بأي وجه. وإن كانت هناك جهة تُنظّم تلك الأنشطة فهي سلطة ذلك الفندق ونظمه الداخلية.
ما تقوم به السلطات الموريتانية من منع للناس من عقد الندوات واللقاءات داخل البيوت والفنادق، وقمع للطلاب والعمال والناشطين، في ظل رفض حصولهم على التراخيص، واتخاذ ذلك ذريعة، هو كبت لحرية التعبير وحرمان من حق التجمع مكتمل الأركان.