على مدار الساعة

معالم في سبيل العدل

23 أبريل, 2018 - 17:42
المحامي / محمد سيدي عبد الرحمن إبراهيم

من أجل تشييد طريق ما يجب أن تتوفر الإرادة القاطعة التي تنصب أولا على توفير التمويل قبل مباشرة العمل الذي تعتبر الدراسات مرحلته الأولى. وعندما يسفر عمل الخبراء عن تحديد مسار الطريق ووضع معالمه على الأرض يبدأ التنفيذ بتمهيد الأساس ووضع الطبقات ولكن ما لم يوضع الغلاف الإسفلتي السطحي goudron فإن الطريق يظل غير سالك وربما أثرت العوامل المختلفة سلبا في مراحله المنجزة فعلا.

 

وتتطلب المشاريع التي يتوقف تنفيذها رصد تمويلات إضافية للدراسات مردها تغير المعطيات ومع ذلك يظل من المتاح ترشيد الموارد من جهة واختصار الطريق (أكريج) من جهة أخرى بالاعتماد على الدراسات السابقة والعمل على تحيينها سيما إن تضمنت تحديد المعالم الرئيسية (اكبير الشور). وفي هذا السياق أستعرض بعض الدراسات التي أنجزت في سبيل إصلاح القضاء.

 

منذ قرابة ربع قرن وأنا أراقب القضاء الموريتاني عن كثب وأتابع عمله عن قرب، لا بحكم طبيعة عملي كمحام فحسب، بل بحكم الاهتمام الشخصي بنواقص هذا المرفق الحساس والتطلع للمساهمة الفاعلة في إصلاحه. وعندما أستذكر الأعمال التي انصبت على إصلاح القضاء الموريتاني أذكر ثلاثة مصنفات أساسية أولها نتاج عمل المجتمع المدني والثاني عصارة عمل رسمي أما الثالث فمن قبيل المبادرات الفردية، هذه المصنفات جاءت بحسب التسلسل الكرونولوجي، على النحو التالي:

 

1. مذكرة الهيئة الوطنية للمحامين التي صدرت في دجنبر 1994، ولخصت مظاهر سوء تسيير القضاء في خمس نقاط (البطء المفرط أو العجلة غير الطبيعية، غياب الماهية المعيارية، انعدام السلطة تارة والشطط في استعمالها تارة أخرى، انعدام استقلالية حقيقية وانعدام الوسائل) ودقت هيئة المحامين ناقوس الخطر وأوصت بإصلاحات تتعلق بالعنصر البشري والنصوص وهي توصيات أخذتها السلطات بعين الاعتبار وجسدت أغلبها في الواقع.

 

2. تقرير اللجنة الوزارية المكلفة بالعدالة التي أنشئت إبان فترة حكم المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية، بالمرسوم: 076 – 2005، والتي كانت تضم في عضويتها عشرة وزراء استنفر لمساعدتهم طاقم فني يتألف من 27 خبيرا، وخلصت هذه اللجنة إلى تقرير، نشر في أكتوبر 2005، عبر عن تردي القطاع في خلاصته التالية: "لقد بينت مشاركات الخبراء والمطلعين على القطاع مدى انتشار الممارسات المخلة بالشرف في قطاع العدالة ويذهب البعض حتى إلى اعتبار القطاع من أكثر القطاعات تعرضا للفساد في الدولة" ووفر التقرير المستفيض للجنة الوزارية معطيات أساسية عن الموارد البشرية والترسانة التشريعية والبنى التحتية وانصب على ثلاثة محاور رئيسية (استقلالية القضاء والإصلاح القانوني، المصادر البشرية والتكوين والبنى التحتية والتحديث) وخلص إلى مصفوفة إجراءات تم اعتمادها، ويعتقد على نطاق واسع، أنها انعكست إيجابا على أداء القضاء إبان الفترة القصيرة لحكم المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية حيث تحسنت الظروف المادية للعاملين بالقطاع وشعر المتقاضون والشركاء بالأمل في نجاح الإصلاح.

 

وعندما انقضت الفترة الانتقالية وانتخب السيد سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، رئيسا للجمهورية، وكان يقيم ويعمل خارج البلاد، استبطأت عمله واستحضرت بأنه قد لا يكون على اطلاع كاف بنواقص القضاء ووضعيته المتردية فكتبت إليه تقريرا أرسلته لمدير ديوانه بتاريخ 12 نوفمبر 2007 بواسطة بريد UPS (أحتفظ بما يثبت إرساله) وهو تقرير تمكن مطالعته في ص: 188 من كتابي مباحث في سبيل العدل (الذي يمثل الإسهام الفردي المذكور في التمهيد).

 

3. كتاب مباحث في سبيل العدل، معالجات لواقع التردي القضائي في موريتانيا وضرورات الإصلاح (الفترة من 1997 وحتى 2010)

 

استنقصت مبكرا أداء الجهاز القضائي الموريتاني عندما لاحظت انتهاكه لمبادئ القضاء الصالح والتي لخصتها في ستة عناوين (استقلال القضاة، مجانية العدالة، البت والآجال، علنية المرافعات، تعليل القرارات وظروف التنفيذ) وضمنت رؤيتي في مكتوب من 27 صفحة، أكملته في دجنبر 1997، وسلمت نسخا منه للقضاة والمحامين وكتاب الضبط العاملين معي في دائرة انواذيبو. ورغم صدور المذكرة عن محام مبتدئ فقد حظيت باهتمام كبير حيث عقب عليها قاضيان بارزان في انواذيبو هما السيد أحمد سالم ولد مولاي اعلي، رئيس محكمة الاستئناف والسيد محمد الأمين ولد داداه، رئيس محكمة المقاطعة. وبغض النظر عن نقدهما للعمل فقد كان تعليقاهما مقبولين وباعثين للأمل حيث استشعرت بفضلهما أهمية المبادرات الكتابية ودأبت بعد ذلك على نشر مقالات علقت من خلالها على الأحداث التي تهم القضاء، إبان حكم المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية إلى اليوم مرورا بفترة حكم السيد سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله.

 

كل هذه الأعمال جمعتها في كتاب أصدرته، في مارس 2010، تحت عنوان "مباحث في سبيل العدل" وقسمته إلى خمسة فصول: فصل تمهيدي عنوانه الخلل القضائي، وثلاثة فصول أولها مبادئ القضاء المنتهكة التي تعود لسنة 1997، والثاني الإصلاح المتسرع ويلخص في نظري الإصلاح الذي تم في فترة حكم المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية، أما الفصل الثالث فقد اخترت أن يكون عنوانه الاستقالة القضائية للدولة الموريتانية وينطبق على الفترة التي تبدأ مع حكم السيد سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله وتمتد لتشمل فترة حكم رئيس الجمهورية الحالي السيد محمد ولد عبد العزيز إلى تاريخ نشر هذه التدوينة (إبريل 2018)، أما الفصل الختامي فقد اخترت أن يكون تحت عنوان ضرورات إصلاح القضاء. أرسلت نسخا من المصنف لرئاسة الجمهورية وللوزارة الأولى ولوزارة العدل ولبعض المهتمين المحتملين ومنهم التلفزة الموريتانية، غداة بث برنامج الحكومة في الميزان مع وزير للعدل، فاقتبس مقدم البرنامج (سيدي ولد النمين) مقدمة البرنامج منه إلا أنه تجنب الخوض في مضمونه.

 

وبعكس ما كنت أتوقع من أن يكون الكتاب حديث الساعة، لم يحظ بالاهتمام كما فصلت في مقالي رحلة كتاب كاسد.. مما أصابني بإحباط أشعر بأنه دهاني بخور خثر مداد قلمي.

 

واليوم يتجدد الأمل بحديث وزير العدل، الذي أعرب من خلاله عن الحصول على الضوء الأخضر لافتتاح ورشات لإصلاح القضاء بالاعتماد على مخصصات مالية يقدمها الإتحاد الأوروبي.. وهو التصريح الذي، على الرغم من نطاقه المحدود، آمل كما يتمنى الكثيرون أن نستخلص منه السمن (انحصلو منو ادهن).

 

وفي ذلك السياق سأقدم في وقت لاحق مبادرة لإصلاح القضاء الموريتاني.

- يتواصل.