على مدار الساعة

المواجهة القانونية للرشوة في موريتانيا

28 أبريل, 2018 - 16:26
محمد كونين

 تعتبر جريمة الرشوة ظاهرة عالمية شديدة الانتشار ذات أبعاد واسعة تتداخل فيما بينها، ولذلك فهي ظاهرة اقتصادية واجتماعية وسياسية تتمركز بشكل أكبر في المجتمعات الرأسمالية، وخصوصا في دول العالم الثالث بحكم فساد مؤسسات الدولة و تدني مستويات الرفاه الاجتماعي، وموريتانيا على غرار الكثير من البلدان عانت منذ عقود من هذه الظاهرة  التي تنامت واتسع نطاقها في العصر الحاضر وتسللت إلى معظم أجهزة ومؤسسات الدولة الحديثة.

 

 

ووصلت تكلفتها السنوية حسب تقديرات الصندوق الدولـي لسنة 2016 إلـى:  01،5 و 02 ترليـون دولار تقريبـا أي مـا يقـارب % 02 من إجمالي الناتج المحلي العالمي، و قد أشارت المديرة العامة للصندوق الدولي أن التكلفة الاقتصادية المباشرة للرشوة معلومة، غير أن التكاليف الأخرى غير المباشرة أكبر وأشد وطأة، و تشكل أكبر عائق أمام  جهود التنمية.

 

وأمام هذا الوضع الكارثي كان لابد من إنشاء مراكز مؤسساتية ووضع نصوص قانونية تهدف إلى الحد من انتشار هذه الظاهرة التي تقضي على مبدإ المساواة بين المواطنين أمام القانون، وتنخر جسم الدولة وتقضي على هيبتها، وتطعن في قيمة المرفق العمومي الذي من مبادئه الأساسية المساواة والمجانية في أداء خدماته للمواطنين، وانتهاك مبدأ المساواة أمام القانون.

 

 

يعني ضياعا لقيمة العدل في المجتمع، وتلاشي فكرة القانون من الجماعة، لأنه إذا كان القانون هو تلك القواعد المجردة والملزمة، فإن انتشار الرشوة يعني أننا ألغينا أساس القانون ونفينا فكرة العمومية والتجريد.

 

ولأن الموظف العمومي هو الأداة التي تقدم بها الدولة خدماتها للمواطنين وهو المظهر البشري للدولة كشخص معنوي عام فقد جاءت التشريعات تحمي هذا الموظف من نفسه ومن الأهواء التي قد تعتريه كبشر، فجرمت الرشوة وعاقبت عليها، وقد عرفت الرشوة بداية في القطاع العام إلا أن ذلك لا يعني عدم وجودها في القطاع الخاص بل كانت موجودة.

 

 

 لكن القوانين لم تكن تجرمها في البداية، بيد أنه وبعد انتشارها في القطاع الخاص كان ضروريا على التشريعات التصدي لها وتجريمها، حفاظا على القطاع الخاص من استفحال هذه الظاهرة فيه.

 

لقد ظلت جريمة الرشوة ولاتزال محل إشكالات قانونية عديدة لم تحسم منذ زمن بعيد، لذا اختلف الفقهاء في أمرها وتضاربت حولها أحكام المحاكم، وتعتبر جريمة الرشوة من أقدم الجرائم الإنسانية وجدت في كل الأزمنة والشعوب - وإن تغيرت صورها ومظاهرها في المجتمعات المختلفة قديما وحديثا - فقدعرفتها أعتق المجتمعاتالقديمة كالإغريق والرومان.

 

 

وتناولها قانون اللوائح الاثني عشر حيث كان يعاقب كل من يرتشي من القضاة بالإعدام  آخذين بنفس الصرامة في التعامل مع هذه الجريمة عند الإغريق، غير أنهم استعاضوا عنها فيما بعد بغرامة تساوي المبلغ الذي أخذه المرتشي ، وتناولتها كذلك شريعة حمورابي الضاربة في أعماق التاريخ، والتي تكاد تكون أقدم تشريع عرفته البشرية.

 

ولئن كانت جريمة الرشوة عرفتها المجتمعات البشرية منذ أقدم العصور، وتفشت فيها بصورة فاحشة، وجرمتها تشريعاتها وعاقبت عليها، فإن الشريعة الإسلامية التي جاءت لتطهر الناس من الفساد وتقيم العدل بين خلق الله - شعارها في ذلك لافرق  بين الفقير والغني،والقوي والضعيف.

 

 

 كان من الطبيعي أن تجرمها باعتبارها داء خطير فتاك يهدد تماسك وأمن واقتصاد الأمم والشعوب ، لذلك فقد كانت الشريعة الإسلامية سباقة في تحريم الرشوة ولاسيما رشوة الحكام وأصحاب السلطة ومن يتقلدون المسؤولية،وتبرأ الإسلام ولعن كل من خاض في مستنقع هذه الجريمة وتوعده بسوء المصير .

 

وقد اعتبرت الشريعة الإسلامية  جريمة الرشوة جريمة تعزيرية  تاركة أمر تحديد تفاصيلها وعقوبتها لولي الأمر ، وأدلة تحريمها ثابتة بالكتاب والسنة، قال تعالى :

"ولاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون..." ، وقال جل من قائل: "سماعون للكذب أكالون للسحت" ، وقد فسر العلماء السحت بالرشوة.

 

أما في السنة فقد قال صلى الله عليه وسلم "لعن الله الراشي والمرتشي" ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم "هدايا الأمراء غلول".

 

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله ابن رواحة إلى اليهود ليقدر ما يجب عليهم في نخيلهم من خراج، فعرضوا عليه مالا يبدلونه، فقال لهم : "فأما ما عرضتم من الرشوة فإنها سحت وإنا لا نأكلها.

 

وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به، قيل وما السحت قال:الرشوة في الحكم" ، وكان أمير المؤمنين عمر الفاروق رضي الله عنه يتشدد في محاسبة عماله ويحصي أموالهم بعد تركهم للخدمة العامة ليعرف حجم الزيادة، وهل استغلوا تلك الوظائف لحسابهم الخاص أم لا؟ ، وهذه الخطوة هي ما يعرف اليوم في التشريعات المعاصرة بالإثراء غير المشروع.

 

يلاحظ أن فقهاء الشريعة الإسلامية أجازوا دفع الرشوة إذا كانت لرفع الظلم أو للوصول إلى الحق، شريطة عدم وجود وسيلة أخرى لتفادي دفعها ، كما أعطوا للرشوة عدة تعريفات من أبرزها :

 

"الرشوة هي ما يدفع من مال إلى ذي سلطان أو وظيفة عمومية ليحكم له أو على خصمه بما يريد هو أو ينجز له عملا أو يؤجر لغريمه عملا وهلم جرا" 
إن أركان جريمة الرشوة في الشريعة الإسلامية يتضح من خلال التعريف السابق أنها هي نفسالأركان في القانون الوضعي، بمعنى أنها من جرائم الصفة، وكانت صفة المرتشي حينها تطلق على القضاة والولاة، أي الحكام وأصحاب السلطة ومن يتقلدون المسؤولية.

 

وقد تم تجريم هذه الظاهرة في مختلف التشريعات الوضعية الحديثة ،بل وتم تجريمها في اتفاقيات دولية وإقليمية ، ولم يكن التشريع الموريتاني استثناء، فقبل وجود الدولة كانت الشريعة الإسلامية هي السائدة في المنطقة منذ الفتح الإسلامي، وكانت الرشوة كغيرها من الجرائم خاضعة لمقتضيات الشريعة الإسلامية.

 

 

وبعد دخول المستعمر أصبح القانون الفرنسي هو السائد،ولم تكن لموريتانيا على خلاف العديد من المستعمرات الفرنسية بإفريقيا الغربية أي تنظيم قضائي خاص بها وإنما كانت تخضع لمحكمة درجة أولى في مدينة saint-luis السنغالية، ومحكمة للاستئناف في داكار.

 

وبحصول البلاد على استقلالها الداخلي أنشئت محكمة للدرجة الأولى ومحكمة للاستئناف، إضافة إلى ستة أقسام لمحكمة الدرجة الأولى موجودة في: أطار، كيهيدي،روصو، كيفة، لعيون،بورتيين ، وكانت الأحوال الشخصية والقضايا المدنية والتجارية تخضع للتشريع الإسلامي ومسندة إلى قضاة شرعيين.

 

 

وبما أن القضايا المدنية والأحوال الشخصية والقضايا التجارية هي التي كانت تخضع وحدها للشريعة الإسلامية،فإن ذلك يعني أن الرشوة كانت خاضعة حينها لمقتضيات القانون الجنائي الفرنسي، وبعد الاستقلال الكامل تم إصدار قانون بتاريخ 17/11/1961، الذي مكن من إنشاء محكمة عليا محققا بذلك الاستقلال القضائي للبلاد.

 

أما التشريع الموريتاني الحاليأي الأمر القانوني رقم: 162/83 بتاريخ 09/07/1983 المتضمن القانون الجنائي، والذي يلغي ويحل محل القانون رقم:158/72 بتاريخ 31/07/1972،فقد تناول الرشوة في المواد من:171 إلي:176.

 

 

ومع أن هذا القانون كان ينص على تجريم الرشوة ومعاقبتها، إلا أنه لم يكن يتناولها بالدقة المطلوبة الأمر الذي جعل الدولة الموريتانية تصدر قانونا خاصا بالفساد، وفي سنة 2006 صادقت موريتانيا على الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد التي دخلت حيز التنفيذ سنة 2005، كما صادقت على اتفاقية الاتحاد الإفريقي لمكافحة الفساد، وفي:09/12/2010.

 

 

اعتمدت موريتانيا استراتيجية وطنية لمحاربة الرشوة، وصادق البرلمان الموريتاني على قانون توجيهي لتلك الاستراتيجية سنة 2016، وتزامنا مع ذلك صدر مرسوم من رئاسة الجمهورية  يقضي بإنشاء لجنة متابعة تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الرشوة. 

 

تتويجا لتلك الجهود وتوخيا لإحاطة جرائم الفساد بقدر من الأهمية، واستجابة لتطلعات القوى الحية ومنظمات المجتمع المدني العاملة في مجال الشفافية والحكم الرشيد ومحاربة الفساد، وحرصا على حماية المال العام والاقتصاد والمجتمع ككل، - لأن الفساد لا يضر أجهزة الدولة فقط بل يضر المجتمع بأكمله - جاء القانون الخاص رقم : 14-2016 المتعلق بمكافحة الفساد وتناول الرشوة في المواد من :03- إلي 08، كما حدد الهيئات القضائية المختصة للبت في جريمة الرشوة، ووسع اختصاص تلك الهيئات ليشمل عموم التراب الوطني المواد من 31 إلي 34.

 

ورغم من أن كل التشريعات المعاصرة أجمعت علي تجريم الرشوة إلا أن هناك خلاف حول ما إذا كانت الرشوةتتألف من جريمة واحدة تتعلق بالموظف المرتشي، أم أنها عبارة عن جريمتين تختص إحداهما بالراشي والأخرى بالمرتشي، وتستقل كل منهما عن الأخرى ، ويكون كذلك لكل واحدة  منهما مسؤولية وعقاب وصورة شروع خاصة بها.

 

وهذا التقسيم الأخير أخذ به القانون الفرنسي ونظم أحكام جريمة المرتشي "الرشوة السلبيةCorruption Passive " في: المواد 177 - 178 و181-183، بينما تطرق لأحكام جريمة الراشي "الرشوة الإيجابية Corruption active" في المواد 179-180 .

 

وقد اعتمدا التشريعالموريتاني هذا النظام القائم على إمكانية تحقق إحدى الجريمتين دون الأخرى.

 

أما التنظيم الثاني فيعتبر جريمة الرشوة جريمة واحد ة يعتبر فيها الموظف فاعل أصلي والراشي شريكا له تنطبق عليه أحكام المشارك في الجريمة،وقد اتبع هذا الاتجاه المشرع المصريالمادة 109 والايطالي المادة:322،والسوري 245.

 

 

وتظهر نتيجة اختلاف النظامين في حالة ما إذا امتنع الموظف عن أخذ الرشوة المعروضة عليه، حيث يكون في النظام الأول الراشي مستحقا للعقاب بينما في النظام الثاني لا يستحقه بسبب استعارته للعقاب دوما من الفاعل الأصلي، وعلي كل فبالرغم من وجود الخلاف بين النظامين نظريا إلا أنه عمليا اضمحل لأن التشريعات التي تأخذ بالنظام الثاني تنص على معاقب الراشي في الحالة السابقة بنص خاص.

 

نشير في نهاية هذه المقدمة إلى أن مواجهة ظاهرة بحجم ظاهرة الرشوةمسألة غاية في الصعوبة، خصوصا في ظل إدارة استفحلت فيها تلك الظاهرة وتجذرت في عمقها، فهي ظاهرة عميقة التأثير مستشرية في نفوس كثيرين، الأمر الذي جعل مواجهتها مواجهة متعددة الأبعاد:

 

-البعد الاقتصادي:عادة ما يتم التلاعب بمشاريع الدولة عن طريق الرشوة، حيث تقدم المقاولات لأشخاص لا يستحقونها ولا تتوفر فيهم الشروط، مقابل مبلغ مالي يقدمونه للقائمين على المشروع، ما يثقل كاهل الدولة، ويؤخر مشاريعها.

 

 

ولذا فإن من أهم إيجابيات أبعاد مواجهة الرشوة وقف نزيف أموال الدولة التي ينهبها الراشون، واسترجاع تلك التي نهبت من قبل، واستثمارها في مشاريع تعود بالنفع على المجتمع، وإتاحة فرص عمل للعاطلين، وإغاثة مؤسسات كان الفساد سيعرضها للضياع.

 

- البعد الاجتماعي: نتيجة لتجذر الرشوة في بعض المؤسسات والدول، فعادة ما يتعود بعض المتجمعات على الرشوة، وتصبح لديهم ثقافة الاستسلام لها، وعليه فمن أهم أبعاد مواجهة ظاهرة الرشوة تغيير ثقافة تلك المجتمعات، وبعث فيهم من جديد روح مواجهة هذه الظاهرة ومحاربتها والتبليغ عنها، لأن المجتمع أحيانا يقف عقبة في وجه اتخاذ تدابير ملموسة لمكافحة الرشوة.

 

 

 لذلك فإن مواجهتها لا يمكن أن تقوم بها الدولة وحدها، ولا يكفي سن القوانين فقط لمحاربتها، بل لابد في مواجهتها من تكاتف عدة جهود ووضع عدة استراتيجيات يسهم الكل من مؤسسات تعليم ووسائل إعلام ومجتمع مدني.. في تنفيذها.

 

-البعد القانوني: لاتقف أبعاد مواجهة جريمة الرشوة عند البعد الاقتصادي ولا حتى الاجتماعي، بل تتجاوزهما إلى بعد قانوني حقوقي محض، فانتشار ظاهرة الرشوة في الدول والمؤسسات يقضي على مبدأ المساواة في الحقوق وأمام المؤسسات، ومواجهة تلك الظاهرة تعيد الأمور إلى طبيعتها حيث يصبح المواطنون سواسية أمام القانون والمؤسسات، وهذا البعد لا يقل شأنا عن البعدين السابقين، لأنه يبعث في الشخص الثقة من جديد في المؤسسات، ويقضي على تلك النظرة السلبية الأخرى الناشئة عن عدم الثقة بالمؤسسة وعدم المساواة في الخدمات التي تقدمها.

 

على العموم سأحاول من خلال هذا المقال الإجابة على الفرضيةوالتساؤلات التالية:

 

إذا كانت موريتانيا قد قدمت على مراجعة قانونية ومؤسساتية للقضاء على ظاهرة الفساد من خلال إعداد استراتيجيات وطنية والمصادقة على اتفاقيات دولية وإقليمية لمكافحتها، فهل جاء قانون مكافحة الفساد لسنة 2016بقواعد قانونية قادرة على الحد من انتشار جريمة الرشوة كفرع من أخطر فروع الفساد، وردع مرتكبيها؟ 
ما الجديد الذي جاء به هذا القانون فيما يتعلق بالرشوة؟
ماهي مزايا هذا القانون وماهي عيوبه؟
هل يواكب التطور الحاصل في ميدان الرشوة كجريمة عابرة للحدود؟
للتطرق لهذه الإشكالات سأقسم المقال إلى محورين:

 

المحور الأول:السياسة التجريمية
لتبيان سياسة التجريم التي انتهجها القانون الموريتاني سأتناول في هذه المحور نقطتين هما تحديد نطاق جريمة الرشوة وتبيان عناصرها المختلفة.

 

أولا: تحديد نطاق جريمة الرشوة
عرفت جريمة الرشوة في الأصل في دائرة الوظيفة العمومية دون سواها، لكن ذلك لا يعني عدم وجودها في دوائر أخرى، بل كانت موجودة و قائمة، لكن معظم التشريعات الجنائية كانت تتجاهلها ،وأمام استغلال البعض لهذه الثغرة التشريعية كان على التشريعات المعاصرة التصدي لهذه الظاهرة والوقوف في وجهها،وعدم تركها تتفشى في مفاصل تلك القطاعات. 

 

ونظرا لكون مطلب تخليق الحياة العامة أصبح مطلبا محليا وإقليميا ودوليا لاحتواء ومواجهة ظاهرة الرشوة لم يتـوان القائمـون علـى رسـم السياسـة الجنائيـة فـي موريتانيـا في توسيع نطاق جريمة الرشوة حتى شملت تجريم الرشوة بالإضافة إلى القطاع العام و القطاع الخاص، وكذا الرشوة في العملية الانتخابية، وذلك استجابة للتحولات الكبرى التي تواجه العالم اليوم، وتزايد جوانب الحياة المختلفة تعقدا وخطورة، الأمر الذي يهدد الإنسان و المجتمع .

 

أ‌.    الرشوة في القطاع العام :
الرشوة في القطاع العام التابع للدولة هي تلك الجريمة التي يتطلب القانون في أحد أطرافها توافر صفة الموظف العمومي، فهي إذا متاجرة الموظف العمومي بالوظيفة العمومية عن طريق أخذه أو قبوله أو طلبه مقابلا عن ما يقوم به من أعمال وظيفته أو امتناعه عنه ، وقد منعها المشرع حماية لسير الوظيفة العامة من أطماع الموظفين العموميين في الحصول على مغانم.

 

 

والرشوة بهذا المفهوم جرمتها كل التشريعات، مع اختلاف في مفهوم الموظف العمومي، حيث يقتصر البعض منها على الموظفين العموميين الوطنيين وهو ما يتنافى مع مقتضيات المادة 16 من اتفاقية مكافحة الفساد التي  تنص على ضرورة اعتماد ما قد يلزم  من تدابير تشريعية  وتدابير أخرى  لتجريم القيام بوعد موظف عمومي أجنبي بمزية غير مستحقة أو عرضها عليه أو منحه إياها بشكل مباشر أو غير مباشر.

 

 

 و نفس الأمر ينطبق على قيام موظف عمومي بشكل مباشر أو غير مباشر بالتماس أو قبول مزية غير مستحقة، سواء لصالح نفسه أو لصالح شخص آخر، و في كلتا الحالتين يشترط أن يكون الهدف من ذلك هو قيام الموظف بفعل ما أو امتناعه عن القيام بفعل ما لدى أداء واجباته الرسمية.

 

والتشريع الموريتاني كان يحذوا حذو تلك القوانين  قبل صدور قانون رقم:014/2016 الذي جرم ارتشاء الموظفين العموميين الوطنيين و الأجانب بمقتضى المادتين الثالثة و الرابعة منه.

 

ب‌.    الرشوة في القطاع الخاص:
في ظل وجود اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحةالفساد، و ما جاءت به من أحكام في سبيل مواجهة الرشوة،لم يعد تحريم هذه الأخيرة مرتبطا بالوظيفة العمومية وحدها بل طال القطاع الخاص، وذلك انطلاقا من مبررات منطقية منها.

 

 

أن التحول الجذري الذي شهده الاقتصاد العالمي دفع بالعديد من الدول إلى وضع برامج تصميمية لتجاوز أزمة القطاع العام المثقل بالبيروقراطية و الفساد نتيجة الاعتماد على القطاع الخاص، والسير على منوال توجيهات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي و مكتب الأمم المتحدة للتنمية الداعي إلى تبني نظام الخوصصة والتخلي عن بعض الأنشطة لصالح القطاع الخاص للرفع من الكفاءة الاقتصادية و تجاوز عراقيل التنمية.

 

وتبني نظـام الخوصصـة يفتـح المجـال أمـام رجـال الأعمـال و الشركات فيما بينها للتنافس على الحصول علـى المقـاولات و العـروض و الصفقـات، و لن تخلو تلك المنافسة من تقديـم رشـاوى ما لم يكن هناك رادع أو نظام قانوني .
و تأسيسا على ما سبق فقد جرم المشرع الموريتاني الرشوة في القطاع الخاص ، باعتبار موريتانيا عضوا في الاتفاقية.

 

ج- الرشوة في المؤسسات الدولية العمومي
لقد نصت المادة 16 من: إ أ م  ف، على أنه على الدول الأطراف اتخاذ ما قد يلزم من تدابير تشريعية و تدابير أخرى لتجريم القيام عمدا برشوة أو ارتشاء موظف مؤسسة دولية عمومية بشكل مباشر أو غير مباشر لكي يقوم بفعل ما أو الامتناع عن فعل ما لدى أداء واجباته الرسمية، وبهذا تكون الرشوة في المؤسسات الدولية  العمومية قد تم التنصيص على تجريمها في إ أ م ف.

 

 

 وقد جرم قانون مكافحة الفساد الموريتاني الرشوة في المؤسسات الدولية العمومية في المادة 04 منه، حيث نصت على أنه: "يعاقب بالسجن من خمس سنوات إلى عشر سنوات و بغرامة من خمس مائة ألف إلى مليون أوقية:

 

1.    موظف عمومي أجنبي أو موظف في مؤسسة عمومية يقوم بشكل مباشر أو غير مباشر بالتماس أو قبول منفعة غير مستحقة سواء لصالحه أو لصالح شخص أو كيان آخر لكي يقوم ذلـك الموظـف بعمـل أو يمتنـع عـن القيـام بعمـل مـن أعمـال وظيفته .

 

2.    كل شخص يعد موظفا عموميا أجنبيا أو موظفا بمؤسسة دولية عمومية بمنفعة غير مستحقة أو بعرضها عليه أو يمنحه إياها بشكل مباشر أو غير مباشر سواء لصالح الموظف نفسه أو لصالح شخص أو كيان أخر لكي يقوم ذلك الموظف بعمل أو يمتنع عن عمل من أعمال وظيفته  من أجل الحصول على منفعة تجارية أو أي منفعة غير مستحقة أخرى أو الاحتفاظ بها فيما يتعلق بتصريف الأعمال التجارية الدولية.

 

من خلال هذه المادة يتضح أن الرشوة في المؤسسات الدولية العمومية تدخل في نطاق التجريم، و فلسفة المشرع الموريتاني في ذلك قائمة على حماية هذه المؤسسات من تفشي تلك الظاهرة الخطيرة فيها، و ذلك بهدف إبقاء التعامل في المؤسسات العمومية عموما و الدولية منها على وجه الخصوص بعيدا عن الرشوة و الشبهات و الأفعال المشينة.

 

د- الرشوة في الانتخابات:
لا أحد يشك اليوم في أن الديمقراطية أصبحت العامـل الرئيسي في قياس تقدم البلدان و تحضرها و لا شك كذلك في أن اختيار الشعب لمن يمثلونه بواسطة النظم الانتخابية المختلفة يمثل العامل الرئيسي في سلامة و مصداقية  العملية الديمقراطية، وهذا الاختيار يتم التعبير عنه طريق الانتخاب سواء المباشر أو غير المباشر، و عليه فإن أي مساس بالعملية الانتخابية يشكل مساسا بسلامة و مشروعية المسار الديمقراطي، و يؤدي إلى إهدار الإرادة الحقيقية للناخبين.

 

 

يلاحظ بأن  أكثر صورة متداولة لجريمة الرشوة الانتخابية هي تلك الضغوط التي تمارس على الناخبين سواء المادية منها أو المعنوية، و المتمثل في غالب الأحوال في تقديم المرشحين لعطايا و منافع نقدية و عينية لموظفي الإدارة الانتخابية  أو الناخبين أنفسهم لحملهم على التصويت لصالح مرشح معين أو الامتناع عن التصويت، أو لحمل الموظف على الإخلال بواجباته.

 

 

ويمثل حمل الناخبين على التصويت لصالح مرشح معين مساس بمبدأ حرية التصويت ، الأمر الذي  لم تسلم منه أغلب الدول عبر التاريخ إلا أن البعض منها استطاع التغلب عليه و أصبح في مصاف الدول الديمقراطية التي تحظى باحترام المجتمع الدولي.

 

إن مواجهـة جريمـة الـرشـوة الانتخـابيـة تقتـضـي معالجتـهـا مـن الجانـب التشريعـي والسياسي و الاجتماعي، فللمشرع دوره الهام في مواجهة هذه الظاهرة و سد الثغرات التي قد يستغلها البعض للمساس بسلامة العملية الانتخابية، وعلى المرشح الذي ينتمي إلى الأغلبية الحاكمة أو المعارضة، أن يفهم أن عليه أن يقوم بحملته وتقديم مشروعه الانتخابي في إطار المشروعية و احترام حقوق الآخرين.

 

 

 و على المواطن العادي أن يعلم أن له دور كبير في بناء المجتمع و تكريس الدولة المدنية و مبادئ الديمقراطية في بلاده، وحين تتوافر هذه الأمور الثلاثة حينها يمكننا الحديث عن مواجهة فعالة لظاهرة جريمة الرشوة الانتخابية التي تعد من أكثر الجرائم الانتخابية انتشارا لسهولة اللجوء إليها و صعوبة إثباتها من الناحية القانونية، و حاجة الناخبين إلى المال خصوصا في ظل  الظروف الاقتصادية الصعبة.

 

 تختلف سياسة التجريم في الرشوة الانتخابية عن الرشوة في القطاع العام و القطاع الخاص و كذا الرشوة في المؤسسات الدولية العمومية، ففلسفة الرشوة الانتخابية تقوم على المحافظة على مبدإ حرية  التصويت من جهة، وحماية الناخبين من جهة أخرى، خوفا عليه من وقوعه فريسة للإغراءات المادية أو الضغوط المعنوية.

 

 

 أما فلسفة التجريم في القطاع العام و الخاص و المؤسسات العامة فقائمة على حماية النزاهة وصدق الوظيفة و ضمان الاحترام الواجب لها و المساواة فـي الخدمات المقدمة، وحماية تلك القطاعات من تفشي ظاهرة الرشوة فيها خصوصا بعد أن أصبح القطاع الخاص يمثل إحدى الركائز المهمة لاقتصاد الدول.

 

 

كما أن فلسفة التجريم فيها أيضا قائمة على حماية الأمن و الاستقرار و أموال الدولة، و إن كانت الرشوة لا تمس المال العام بشكل مباشر، فإن  مخلفاتها تؤدي إلى تأخر مشاريع الدولة، و تحرم ميزانيتها من أموال هامة قد تكـون فـي أمـس الحاجـة لهـا، الأمـر الـذي قـد يكبد الدولـة خسائـر ماليـة كبيـرة و يضعف الخدمات العمومية.

 

 

وعلى كل هناك شبه إجماع تشريعـي علـى الرشـوة الانتخابيـة بالرغم من انتشارها والتشجيع عليها، خصوصا في الانتخابات الرئاسية إذ يعين الرئيس عادة معاونيه في الحملة الانتخابية بعد نجاحه مباشرة.

 

 يعتبر أقدم تشريع جرم الرشوة الانتخابية هو التشريع الانجليزي 1845، و يرجع ذلك إلى انتشار هذه الظاهرة في الانتخابات التي أجريت في القرن الرابع عشر ، و من أجل كفالة حرية التصويت للناخبين و حمايتهم من الإغراءات و الضغوط، فقد حرم المشرع الموريتاني جريمة الرشوة في الانتخابات، وجاء في المادة: 08  من ق م ف م، على أنه: " يعاقب بالحرمان مدة 10 سنوات من:

 

    ممارسة أي وظيفة انتخابية
    ممارسة أي وظيفة عمومية 
كل من قدم أو حاول تقديم أو عرض منافع مادية أو معنوية غير منسجمة مهما كانت طبيعتها بصفة غير شرعية من أجل التأثير على اختيارات الناخبين"
 مـن خـلال هـذه المـادة نـدرك أن المشـرع المـوريتانـي لـم يتنـاول تجـريم الوسيط و المرتشي بل اكتفى فقط بتجريم الراشي و هو ما يشكل تقصيرا من وجهة نظري في مواجهة الرشوة الانتخابية.

 

 

كما يتضح مما سبق أيضا أن فلسفة التجريم التي باتت تقوم عليها التشريعات المعاصرة لمواجهة الرشوة لم تعد مرتبطة بالموظف العام بل تجاوزته إلى كل موكل أو أجير بأجر أو بدونه حتى أنها شملت الجرائم الانتخابية متجاوزة بذلك ركن الصفة الذي كان يرتبط في الماضي بالموظف.

 

 

أما اليوم فقد أصبح ركن الصفة يرتبط فقط بمن في حكم الموظف حتى ولو كان مواطنا عاديا يحق له الانتخاب فقط، و هذه القفزة النوعية التي انتهجتها التشريعات في سبيل مواجهة ظاهرة الرشوة تشكـل تطـورا كبيـرا علـى مستـوى التجـريم و تجاوز المفاهيم التقليدية التي تقوم عليها عناصر جريمة الرشوة.

 

ثانيا: عناصر جريمة الرشوة
لقد أشرنا في المقدمة إلى أن التشريع الموريتاني أخـذ بنظرية ثنائية الرشوة و أفرد لكل طرف من الأطراف أحكاما سواء على مستوى العقاب أو التجريم لذلك سنتناول الأركان الخاصة لجريمة الراشي.

 

أ‌.    عناصر جريمة المرتشي
بالرجوع إلى مضامين التشريع الموريتاني نلاحظ أنه اشترط لقيام جريمة الرشوة باعتبارها جريمة من جرائم الصفة، توفر عنصري الصفة والاختصاص بالإضافة إلى الركن المادي و المعنوي.

 

I.    الصفة و الاختصاص:
تعتبر جريمة الرشوة من جرائم الصفة التي لا يمكن ارتكابها إلا من قبل مجموعة من الأشخاص حددهم القانون واشترط فيهم الاختصاص للقيام بالعمل أو الامتناع عنه، وأن تكون تلك الوظيفة قد ساعدت في القيام بالعمل أو كان ذلك ممكنا.

 

1.    الصفـــة:
حسب مقتضيات المواد 03-10 من قانون مكافحة الفساد الموريتاني فإن الرشوة لا تشمل فقط الموظف العمومي بل تتجاوزه إلى أشخاص غير منتمين للوظيفة العمومية، وإنما لمجالات أخرى نص عليها المشرع في تناوله لهذه الظاهرة، ولذلك سأتناول الصفة التي يجب توفرها في المرتشي انطلاقا من نصوص تلك المواد.

 

    الموظف العمومي:
لفكرة الموظف العام في القانون الجنائي مدلول أوسع مما هي عليه في القانون الإداري، ويرجع ذلك إلى أن المشرع الجنائي يهدف إلى حماية الثقة العامة التي يوليها الأفراد للخدمة العامة ونزاهتها ، ويتضح ذلك عندما نقارن التعريف الوارد في قانون الوظيفة العمومية للموظف العمومي مع القانون الجنائي، فمثلا نجد قانون الوظيفة العمومية يعرف الموظف العام بأنه:" كل شخص يعين في وظيفة قارة ويرسم في إحدى رتب السلم الخاص بأسلاك الإدارة العام.

 

انطلاقا من هذا النص فإنه من اللازم توافر ثلاثة أركان لاعتبار الشخص موظفا:
­    تقلد الوظيفة العمومية شريطة تعيين من قبل السلطة التي لها حق التعيين قانونا.

­    الطبيعة الدائمة للوظيفة، وهو مايخرج العمال المؤقتين.

 

­    الترسيم في سلك من أسلاك الوظيفة العمومية.
أما الموظف في القانونالجنائي، فهو : "كل شخص كيفما كانت صفته يعهد إليه في حدود معينة بمباشرة وظيفة أو مهمة ولو مؤقتة بأجر أو بدون أجر، ويساهم بذلك في خدمة الدولة أو المصالح العمومية أو الهيئات البلدية أو المؤسسات العمومية أو مصلحة ذات نفع عام.".

 

وعليه فإن القانونالجنائي،ينسف التعريف الإداري للموظف العام، ويعرفه بتعريف أكثر شمولا واتساعا ،وتسير أغلبية التشريعات الجنائية المعاصرة في هذا الاتجاه.

 

    العمال والمستخدمون والموكلون بأجر
تطرقت المادة: 02 من ق م ف م،  لهذه الطائفة التي لا ينطبق عليها تعريـف الموظـف العمومـي الإداري و لا الجنائي،وهؤلاء هم العاملون في القطاع الخاص والخاضعيـن لتعليمات رب العمل، وقد جرمت التشريعات المدنية الرشوة في القطاع الخاص وأضفت على هؤلاء صفة الموظف حماية للقطاع الخاص من الضياع.

 

نشير إلى أن بعض القوانين اشترطت لقيام هذه الجريمة أن يكون العامل قد طلب أو أخذ أو قبل وعدا أو عطية، دون علم رئيسه للقيام أو الامتناع عن عمل، وبذلك تكون قد تعاملت مع ظاهرة الرشوة بذكاء، حيث سهلت إثبات أن ما تقدم به الراشي للمرتشي رشوة وذلك عن طريق استفسار رب العمل، إلا أن هناك جانب سلبي في هذه المعاملة ألا وهو ربط هذه الجريمة برب العمل بمعنى أن تنتفي الجريمة عندما يكون  رب العمل على علم بها.

 

 

أما قانون مكافحة الفساد الموريتاني، فلم يربط الرشوة بعلم رب العمل من غيره، بل اكتفى فقط بالتنصيص عليها في المادة 07 منه، وعبر عن ذلك حين قال: "... كل من يدير أو يعمل بأي صفة لدى مؤسسة تابعة للقطاع الخاص يلتمس أو يقبل بشكل مباشر أو غير مباشر منفعة غير مستحقة لنفسه أو لشخص أو كيان آخر ليقوم بأداء عمل أو الامتناع عن عمل خرقا لواجباته".

 

    القضاة المحلفون وأعضاء هيئة المحكمة:
لقد نص قانون مكافحةالفسادالموريتاني الجديد 2016 على مجموعة خاصة من الموظفين معتبرا قيامهم بجريمة الرشوة ظرف تشديد، ومن بينهم القضاة و المحلفون .

 

    المحكمون و الخبراء:
لقد أباحت التشريعات الحديثة في حالات استثنائية لأطراف النزاع اللجوء إلى التحكيم لفض نزاعاتهم خلافا للقاعدة الأصلية التي تقضي بأن البت في النزاعات من اختصاص القضاء، وقد نص القانون الموريتاني على الخبير واعتبر رشوته ظرف تشديد، وأما المحكمون فلم ينص عليهم بصريح العبارة فالمادة المتعلقة بهذا الموضوع تنص على ما يلي:

 

 

 إذا كانت الأفعال المنصوص عليها في الفقرة الأولى مرتكبة من طرف منتخبين أو قضاة أو محلفين أو خبراء أو وكلاء الضرائب أو الجمارك أو الخزينة العامة أو منسقي البرامج أو الوكلاء القضائيين أو الموظفين السامين أو أي شخص يعين بمرسوم أو مقرر وزاري مهما كانت صفته...».

 

    الأشخاص أو الهيئات المنتخبة:
لقد تناولت نصوص قانون مكافحة الفسادالموريتاني،المتعلقة بالرشوة هذه الفئة وإمكانية ارتكابها للرشوة، ومن المسلم به أن هذه الفئة تشمل ممثلو الشعب في غرفتي البرلمان، والمجالس البلدية وكافة ممثلي الشعوب المنتخبون.

 

 

يرى بعض الفقهاء أنه يدخل في هذه الفئة أيضا الهيئات المهنية كنقابات المحامين والمهندسين والأطباء... ويعللون ذلك بأن هؤلاء انتخبتهم مجموعة من الناس ووضعت ثقتها فيهم، ولذلك وجب إدراجهم في الفئات التي يمكنها أن ترتكب جريمة الرشوة ، وهو رأي وجيه بالنسبة لي، لأن أعضاء تلك الفئات ليسوا إلا منتخبين من قبل من يمثلهم، والمشرع لم يخص المنتخبون الذين نص عليهم في من انتخبهم عامة الناس، بل نص على أي منتخب انتخب لأداء مهمة.

 

نشير هنا إلى أن ق م ف م، نص على القضاة والمحلفون وأعضاء المحكمة و الخبراء والمنتخبون في إطار تشديد العقوبة عليهم، وإلا فهو يعتبر كافة الموظفين العموميين -بالمفهوم الوارد في المادة 02 منه - تتوفر فيهم الصفة المطلوبة كركن في الرشوة باعتبارها من جرائم الصفة.

 

    أحد أعضاء هيئة الناخبين
يكفي لتوافر الصفة في جريمة الرشوة الانتخابية أن يكون للمرشحين صفة الناخب، أي أن يكون أحد أعضاء هيئة الناخبين وقت ارتكابه للفعل، دون الوقوف على استمرار تمتعه بهذه الصفة كما لا تشترط صحة قيده على السجل .
وقد نصت المادة 08 من ق م ف م، على أنه: "يعاقب ... كل من قدم أو حاول تقديم أو عرض منافع مادية أو معنوية غير مستحقة مهما كانت طبيعتها بصفة غير شرعية من أجل التأثير على اختيار الناخبين".

 

    الموظفون العموميون الأجانب وموظفو المؤسسات الدولية:
لقد جاء في المادة: 04 من ق م ف م، أن الموظفين العموميين الأجانب و موظفي المؤسسات الدولية العمومية الذين يقومون بشكل مباشر أو غير مباشر بالتماس أو قبول منفعة غير مستحقة سواء لصالحهم أو لصالح الأشخاص أو الكيانات الأخرى لكي يقوموا بعمل أو يمتنعون بعمل أو يمتنعون عن القيام بعمل من أعمال وظائفهم يعدون مرتكبين لجريمة الرشوة.

 

 

 وعليه تتوفر فيهم الصفة المطلوبة كركن من أركان جريمة الرشوة، وقد جرم ق م ف م، أفعال هؤلاء وأضفى عليهم ركنالصفة حماية لتلك المؤسسات من جشع بعض الأشخاص الذين قد تغريهم المغريات.

 

2.    الاختصاص بالعمل أو الامتناع
يقصد باختصاص الموظف ومن في حكمه للقيام بالعمل أو الامتناع عنه، صلاحيته القانونية للقيام بما طلب منه -عملا أو امتناعا-، وهذه الصلاحية إما أن تكون منصوص عليها قانونا بشكل لا يشوبه غموض، كما في الحالة التي يوجب فيها القانون على الموظف القيام بالعمل بناء على نصوص قانونية عامة، كاختصاص القاضي في فصل النزاعات، وضابط الشرطة القضائية في جمع الأدلة والبحث على مرتكبي الجرائم... أو الامتناع عن القيام بالعمل كامتناع مدير المدرسة عن تسجيل الطفل الذي بلغ سن التمدرس.

 

 

وفي كلتا الحالتين يهدف الموظف ومن في حكمه للحصول إلى مبلغ مالي أو مزية غير مستحقة.
أما الحالات التي يشوبها غموض فتكون دائما مرافقة للسلطة التقديرية التي يمنحها القانون للموظف للقيام بعمل أو الامتناع عنه، كممثل النيابة العامة الذي خوله القانون تقدير المتابعة من عدمها، فيعتبر مرتشيا إن هو تلقى مبلغا ماليا للقيام بالمتابعة من عدمها.

 

ونشير إلى أن الموظف الذي تلقى مبلغا ماليا من أجل القيام بعمل ليس من اختصاصه لا يعد مرتشيا وإنما يتابع بجريمة استغلال النفوذ ، وإذا كان الاختصاص بالقيام بالعمل أو الامتناع، يتم عادة تحديده عن طريق النص عليه قانونا، فإن هناك جانب من الفقه ، يرى إمكانية تحديده بناء على العرف، كما في حالة الموظف الذي يزاول عملا محددا لمدة زمنية طويلة، وكان رئيسهالمباشر يقر بمشروعيته، كالحالة التي يجري العرف فيها على قيام رئيس مصلحة كتابة الضبط بإحدى المحاكم بإعداد جدول الجلسات، فهنا يعتبر هذا الاختصاص قد أُقر عرفا، مع أن القاعدة العامة هي أن الاختصاص بالعمل أو الامتناع عنه مرده إلى القانون، وقد يحدده، بصفة واضحة أو بكيفية غير مباشرة كما سبق ذكره.

 

 

ومن الملاحظ أن: ق م ف م، في تناوله للاختصاص بالعمل أو الامتناع، لم يتوسع في مفهوم الاختصاص، بل اكتفى فقط بما يدخل في وظيفة الموظف.

 

II.    الركن المادي في جريمة المرتشي
لما كان الهدف الأساسي من تجريم جريمة الرشوة هو حماية الوظيفة العامة من تلويث سمعتها وشرفها وما تعطيه الناس لها من ثقة، كان من الطبيعي أن لا يتطلب لقيام الركن المادي توافر العناصر المطلوبة لقيامه في جرائم النتيجة، وإنما يكفي إقدام الفاعل على أي نشاط من شأنه أن يمس بشرف ونزاهة الوظيفة العمومية .

 

بالرجوع إلى مقتضيات المواد: 3-04-07-08،من: ق م ف م، يتبين لنا أن الركن المادي في جريمة الرشوة يتمثل في نشاط سلبي أو إيجابي صادر عن المرتشي يعبر من خلاله عن رغبته في الإنجاز بما أسند إليه من وظائف، بمقابل قد يتخذ صورة وعد أو فائدة.

 

1-الطلب:
تحدث هذه الصورة من صور جريمة الرشوة عندما يطلب الموظف أو من في حكمه تعويضا عن القيام بعمل يدخل في اختصاصه، أو سهلته له وظيفتهوفقا لأحكام ق ج غ، وهذا الطلب قد يكون بصورة غير مباشرة كإيحاء الموظف أو من في حكمه للزائر أن حاجته جاهزة بمجرد أن يكون مستعدا لأخذها.

 

 

وقد يكون الطلب بشكل مباشر كأن يقول له إن أعطيتني كذا... فسأقدم لك ما تطلبه في أسرع وقت، وسواء حصل المرتشي على ما طلب أم لم يحصل عليه فالرشوة قائمة، وبغض النظر عن الصفة التي طلب بها، إلا أن الطلب ينبغي أن يكون جادا وحقيقيا بخلاف الموظف الذي يمزح مع زميله، ويستشف ذلك من خلال الوقائع وملابسات القضية.

 

 

وقد جرم كل من  ق م ف م،مجرد القيام بالطلب أسوة بالمشرع الفرنسي الذي انتهج نفس النهج على غرار بعض التشريعات المعاصرة ، وهو ما يتلاءم مع ضرورة الحفاظ على سمعة ونزاهة الوظيفة العامة وما في حكمها.

 

نشير هنا إلى أن الطلب يكفي لقيامه، أي صورة من صور الطلب، أي أنه سواء كان طلباأو عرضا أو وعدا أو هدية أو أي فائدة أخرى مادية أو معنوية.

 

2 ـ القبول:يقتصر دور الموظف في هذه الصورة على قبول الوعد أو العرض الذي تقدم به الراشي بتعبير صادر عنه، سواء كان ضمنيا صراحة، كتابيا أو شفهيا، وتعرف بالنشاط السلبي في جريمة المرتشي، إذ أن الجانب الآخر يقدمه الراشي، وكما هو الحال في صورة الطلب ينبغي أيضا أن يكون القبول جادا وليس هزلا.

 

3 ـ التسليم :تتحقق هذه الصورة من صور الركن المادي في جريمة المرتشي بقيام الموظف أو من في حكمه بأخذ هبة أو هدية أو أي فائدة أخرى، مقابل قيامه بعمل أو امتناعه عن آخر يدخل في إطار اختصاصه الوظيفي بمفهومه الواسع، وتعتبر هذه الصورة من أبسط صور الركن المادي في جريمة المرتشي إثباتا، إذ تتطابق فيها الجريمة في صورتها الواقعية مع صورتها القانونية.

 

 

فالتسليم عبارة عن فعل مادي يحصل به الموظف على أي فائدة عينية أو نقدية  معنوية أو مادية، أو منفعة شخصية كمواقعةامرأة لقضاء حاجتها ، ولم يشترط  القانون كيفية معينة يتم بها التسليم، ولذلك فقد يكون بصورة صريحة لتسليم الراشي للمرتشي رشوته، وقد يكون التسليم ضمنيا كوضع النقود في مكتب الموظف أو إرسال الرشوة له عن طريق البريد أو أي وسيلة نقل شريطة أن يكون هناك نية لذلك.

 

 

 

فوضع مبلغ مالي في أوراق مسلمة للموظف لا يعتبر رشوة مادام الموظف لم تتوفر لديه النية الإجرامية، و نفس الشيء ينطبق على وضع مبلغ مالي في جيب موظف بعد رفضه له حتى و لو ضبط الموظف و في جيبه المبلغ .

 

 

III ـ الركن المعنوي في جريمة المرتشي 
لم تعرف التشريعات الركن المعنوي كعادتها مع المصطلحات، وتركت تعريفه للفقه الذي عرفه بأنه: "القوة النفسية التي تقف وراء النشاط الإجرامي الذي استهدف به الفاعل إراديا الاعتداء على مصلحة من المصالح المحمية من طرف المشرع الجنائي ".

 

 

وقد اعتبر ق م ف م، على غرار باقي التشريعات جريمة الرشوة من الجرائم العمدية التي لا بد من توفر عنصر القصد الجنائي فيها، و عليه لا يتصور قيام جريمة الرشوة بسبب إهمال أو خطإ أو تقصير أو رعونة، حيث لا تتحقق جريمة الرشوة إلا بعد اتجاه إرادة المرتشي إلى الطلب أو القبول أو التسليم، مع العلم بحقيقة نشاطه الإجرامي.

 

 

أي أن ما  يقوم به هو اتجار بوظيفته سواء قبل الطرف الأول أم لم يقبل، فالرشوة تتحقق مع تحقيق النية الإجرامية لحظة القيام بالركن المادي، وتنتفي النية متى كانت لاحقة على الركن المادي ، أي القيام بعمل أو الامتناع عنه.

 

 

و قد اختلف الفقهاء حول قيام الركن المعنوي في جريمة الرشوة بين قائل بضرورة توافر قصد خاص متمثل في اتجاه إرادة الجاني إلى إحداث نتيجة معينة هي الاتجار بالوظيفة، و قائل بالاكتفاء بالقصد الجنائي  العام الذي هو اتجاه إرادة الجاني إلى ارتكاب الجريمة، والرأي الغالب يرى بأن القصد الجنائي في الرشوة قائم متى توافر عنصري العلم والإرادة إلى جانب أركان الجريمة الأخرى.

 

 

ومن ثم فالقصد المطلوب هنا القصد العام ، وانطلاقا من أن المشرع لم يتطلب قصد تنفيذ العمل أو الامتناع عنه، بل فقط اكتفى بالإتجار بالوظيفة، و لم يتطلب كذلك حصول الموظف ومن في حكمه على فائدة، فإننا نؤيد الرأي القائل بالاكتفاء بالقصد الجنائي العام، خاصة وأن الرأي الآخر قد يتسبب في تلاعب كثيرين بالقانون عبر وجود القصد الخاص من عدمه، و هو أمر بطبيعة الحال يصعب الاطلاع عليه لارتباطه بنوايا الآخرين.

 

ب‌.    عناصر جريمة الراشي  
لقد اشترط: ق م ف م، لقيام جريمة الراشي توافر ركن مادي ، قوامه بشكل عام استعمال العنف أو التهديد أو تقديم وعد أو عرض أو هبة أو أي فائدة أخرى، وكذلك الاستجابة لطلب الرشوة مع العلم بذلك و توافر القصد الجنائي.

 

I.    صور الركن المادي لجريمة الراشي
لقداقتصر ق م ف م، في صور الركن المادي على تقديم و عد أو عرض أو هبة أو أي فائدة أخرى، حيث جاء في الفقرة الثانية من المادة: 03 ما نصه: "...كل شخص يعد موظفا عموميا بمنفعة غير مستحقة أو يعرضها عليه أو يمنحه إياها بشكل مباشر أو غير مباشر سواء لصالح نفسه أو لصالح شخص أو كيان آخر لكي يقوم  ذلك الموظف بعمل أو يمتنع عن عمل من أعمال وظيفته"، ونشير إلى أن الركن المادي لجريمة الراشي هو نفسه الركن المادي في جريمة المرتشي فالطلب يقابله العرض و التسليم يقابله التقديم.

 

و إذا كان المشرع الموريتاني قد حدد صور الركن المادي لجريمة الرشوة في الصور المذكورة سلفا، فإن هناك إشكال منبثق من تلك الصور يتمثل في المكافأة اللاحقة على إنجاز العمل أو الامتناع عنه، تطرح إشكالا حول اعتبارها رشوة أم لا؟.

 

 فبالنسبة للنصوص التشريعية المتعلقة بالرشوة لم تتطرق للموضوع، أما الفقهفقد انقسم بين منيرى عدم العقاب عليها ، ومن يرى العقاب عليها بمقتضيات النصوص. 

 

 ومادام: ق م ف م، لم يتطرق لهذه الإشكالية، و تركها غامضة على غرار بعض التشريعات المعاصرة، فأرى و الحالة هذه أن العقاب عليها يعتبر خروجا على مبدأ شرعية الجرائم و العقوبات، وأقصد هنا المكافأة التي لا علم للموظف بها وقت القيام بالفعل أو الامتناع، أما الذي له علم بها فتدخل في إطار الوعد بشكل غير مباشر.

 

II.    الركن المعنوي
لا يختلف هذا الركن في جريمة الراشي عن مثله في جريمة المرتشي، فكلتا الجريمتين عمديتين و لا تقومان إلا بتوافر القصد الجنائي ، ونفس الإشكال الذي تطرقنا له سابقا و المتعلق باختلاف الفقهاء حول ضرورة توافر قصد خاص لدى المرتشي أو الاكتفاء بالقصد الجنائي العام ينطبق هذا على الركن المعنوي في جريمة الراشي، ويقصدون ضرورة اتجاه نية الراشي إلى حمل الموظف أو من في حكمه على تنفيذ الأمر الذي من أجله قدمت الرشوة، وهو القيام بعمل من أعمال وظيفته أو الامتناع  عنه.

 

المحور الثاني: المقاربة الجزائية
يتضح من خلال استقراء النصوص القانونية الموريتانية ، أنها اعتمدا مقاربة جزائية لزجر مرتكبي جريمة الرشوة، تزاوج بين العقوبات الأصلية و العقوبات الإضافية.

 

أولا: العقوبات الأصلية
تنقسم العقوبات الاصلية إلى عقوبات يمكن تطبيقها على الأشخاص العاديين، وأخرى تنطبق على الأشخاص المعنويين، وذلك نظرا لاختلاف طبيعتي تلك الشخصيات. 

 

1.    العقوبات الأصلية للأشخاص الطبيعيين
لقد نصت  المواد: 03-08 من ق م ف م، على مجموعة من العقوبات الأصلية تختلف باختلاف أنماط جريمة الرشوة.

 

أ‌.    الرشوة في القطاع العام.
تعاقب المادة: 03 من ق م ف م على الرشوة في القطاع العام بالسجن من خمس سنوات إلى عشر سنوات، و بغرامة من خمس مائة ألف " 500.000" إلى مليون  100.000" أوقية، و يستوي في ذلك الراشي و المرتشي، و يعتبر الشخص أو الكيان الذي يعمل الموظف العمومي لصالحه في الجريمة فاعلا أصليا إلى جانب الموظف العمومي أو مشاركا له، و سنتحدث عن عقوبة الشخص المعنوي في جريمة الرشوة عند تطرقنا لعقوبات الشخصيات المعنوية.

 

غير أن هذا العقوبة تكون من 10 سنوات إلى 20 سنة و بغرامة تعادل ثلاثة أضعاف القيمة المطلوبة أو المقبولة على أن لا تقل عن خمسة ملايين "5000000" أوقية إذا كانت الرشوة مرتكبة من طرف منتخبين أو قضاة أو محلفين أو خبراء أو وكلاء الضرائب أو الجمارك أو الخزينة العامة أو منسقي البرامج أو الوكلاء القضائيين أو الموظفين  الساميين أو أي شخص معين بمرسوم أو مقرر وزاري مهما كانت صفته.

 

 

كما تتضاعف الغرامات المالية في الرشوة المتعلقة بالصفقات العمومية، إذ نصت المادة: 05 على أن الغرامة في مجال الصفقات العمومية تعادل ضعف القيمة المأخوذة على أن لا تقل عن مليوني أوقية، وهي خطوة أحسن فيها ق م ف م، نظرا لانتشار الرشوة والمحسوبية في مجال الصفقات العمومية، وهشاشة الشفافية في دول العالم الثالث.

 

هكذا يتضح أن القانون الموريتاني جعل نوع الوظيفة التي يتولاها الموظف العمومي معيار لتشديد العقوبة، في حين نجد بعض التشريعات الأخرى المقارنة تعتمد على مبلغ الرشوة، فالمشرع المغربي مثلا يجعلها جنحة إذا قلت قيمة المبلغ عن مائة ألف درهم، و يشدد العقاب عليها و يجعلها جناية في حالة تجاوزها لذلك المبلغ أو كانت داخلة في الحالات المذكورة في المادة 252 منه.

 

ب‌.    الرشوة في المؤسسات الدولية العمومية:
لقد نصت المادة 04 من ق م ف م على أنه يعاقب الموظفون العموميون الأجانب و كذا موظفي المؤسسات الدولية العمومية ، وكل من قدم لهما رشوة بالسجن من خمس سنوات إلى عشر سنوات و بغرامة مالية من خمس مائة ألف إلى: مليونين " 2000000" أوقية، ويعتبر الشخص أو الكيان الذي يعمل الموظف العمومي لصالحه في الجريمة فاعلا أصليا إلى جانب الموظف العمومي أو مشاركا له، و تضاعف هذه العقوبة إذا كان الغرض منها إبرام أو تنفيذ أو رقابة أو تسليم صفقة معينة.

 

ج. الرشوة الانتخابية:
لقد فطنت بعض التشريعات المعاصرة لخطورة التأثير و الضغوطات التي يتعرض لها الناخبون من طرف المهتمين بالشأن السياسي و عمدت إلى تجريمها ، ومن بين تلك التشريعات القانون الموريتاني، الذي نص على أنه تطبق العقوبات المنصوص عليها بشكل عام على هذه الحالة، ووضع عقوبات إضافية سنتطرق لها في حينها.

 

د.  الرشوة في القطاع الخاص:
لقد عاقب المشريع الموريتاني على الرشوة في القطاع الخاص بمقتضى المادة : 07 من ق م ف م، و خصص لها عقوبة تتراوح مابين سنة إلى خمس سنوات، و غرامة من مليون إلى خمس ملايين أوقية، و يلاحظ أن المادة 07 المتعلقة بالرشوة في القطاع الخاص هي الوحيدة التي أعطت الخيار للقاضي في الحكم بإحدى العقوبتين.

 

  تجدر الإشارة إلى القانون الموريتاني على خلاف بعض التشريعات المعاصرة ، لم يتطرق للمستفيد من جريمة الرشوة، لا قديما في:ق ج م، ولا حديثا في:ق م ف م، لسنة 2016، وهو عيب كان على قانون مكافحة الفساد الجديد تلافيه.

 

2.    العقوبات الأصلية للأشخاص المعنوية
على غراربعض التشريعات الجنائية المعاصرة كالتشريع الفرنسي والمصري ،و المادة 26 من إ أ م ف،التي تطرقت لمسؤولية الأشخاص الاعتبارية و حثت الدول الأطراف على اتخاذ ما قد يلزم من تدابير تتلاءم مع قوانينها الداخلية لتقرير مسؤولية الشخصيات المعنوية عن المشاركة في الأفعال المجرمة وفقا للاتفاقية، والتيمنها بطبيعة الحال جريمة الرشوة.

 

 

نص المشرع الموريتاني في المادة 22 من ق م ف ، على إمكانية التصريح بالمسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية عن جريمة الرشوة إذا ثبت أن تلك الجريمة ارتكبت لصالحها من طرف ممثليها الشرعيين أو أحد أجهزتها، والعقوبات المقررة لها في حالة الإدانة هي:

 

    غرامة تتراوح بين خمسة أضعاف و عشرة أضعاف الغرامة المقررة للأشخاص الطبيعيين في حالة ارتكابهم نفس الجريمة.

 

    حظر ممارسة الأنشطة المرتبطة بالجريمة كليا أو جزئيا بصفة مؤقتة من ستة أشهر إلى سنة، أوبصفة دائمة.

 

    الحل في حالة المعاودة.
ولا تمنعهذه المسائلة من مسائلة الأشخاص العاديين القائمين على تلك الشخصيات حتى ولو ثبت أنهم تصرفوا لمصلحة تلك الشخصيات المعنوية، ويستثنى من الشخصيات المعنوية الدولة والأشخاص الاعتباريين العموميين، حيث لا تمكن مساءلتهم.

 

ثانيا: العقوبات الإضافية
وتتمثل في عقوبات إضافية لا توقع بمفردها، وإنما مع العقوبة الأصلية، وهي وجوبية لا بد للقاضي من الحكم بهاوإلا كان حكمه غير صحيح ، ويمكن إجمال العقوبات الإضافية المنصوص عليها في القانون الموريتاني فيما يلي:

 

أ-المصادرة:
نصت المادة 30 من ق م ف م، على أنه في الحالات التي يحكم بها بإدانة شخص طبيعي أو اعتباري بجريمة الرشوة، فإنه على المحاكم المختصة عليها أن تقضي بمصادرة كافة أملاك المحكوم عليهم المتحصل عليها من خلال تلك الجريمة، مهما كانت طبيعة تلك الممتلكات، لصالح الخزينة العامة.

 

من خلال مضمون هذه النص يتضح أن المصادرة لا تقع فقط على النقود وإنما تشمل كل ما يقدمه الراشي من عقارات وذهب وفضة.

 

ولا يمكن أن تقع المصادرة على أشياء وعد بها الراشي المرتشي إلا بعد القيام بالإجراءات القانونية لنقل ملكيتها، ووجودها، فلا يعقل إصدار حكم بمصادرة ما تمت سرقته من قبل.

 

نشير إلى أن مصادرة العقارات المسلمة كمقابل لجريمة الرشوة، أثارت نقاشا داخل الفقه الفرنسي فيما يتعلق بوجوبها من عدمه، غير أن محكمة النقض الفرنسية رأت بأن المصادرة قد تقع على المنقولات كما قد تقع على العقارات، وأقر الفقه بعد ذلك أن الصيغة الواردة في المادة 108 من القانون الفرنسي والتي استخدمت عبارة "الأشياء" لا يمكن حصر مدلولها على مفهوم الشيء المنصوص عليها في القانون المدني.

 

ب‌-    الحرمان من بعض الحقوق:
من ضمن العقوبات الإضافية المنصوص عليها كعقوبة للرشوة الحرمان من بعض الحقوق، ولم يتطرق:ق م ف م، للعقوبات الإضافية إلا فيما يخص جريمة الرشوة الانتخابية، حيث نص في المادة 08 منه على أن مرتكبي جريمة الرشوة الانتخابية يعاقبون بالحرمان مدة 10 سنوات من ممارسة أي وظيفة انتخابية أو وظيفة عمومية.

 

 

وبالرجوع إلى النصوص العامة نجد: ق ج م، ينص في المادة 23 منه على أن الحكم بعقوبة جنائية يترتب عليه الحرمان من الحقوق الوطنية، كما تعطي المادة 36 من نفس القانون للمحاكم التي تقضي في الجنح أن تمنع في بعض الحالات من ممارسة كل الحقوقالمدنية والعائلية، المنصوص عليها في المادتين: 26و36.

 

من هنا يتضح أن القانون الموريتانيفي تناوله لعقاب جريمة الرشوة لم يتطرق للإشكالات المطروحة كتجريم الوسيط الذي لا تمكن متابعته إلا انطلاقا من القواعد العامة للقانون الجنائي بصفته مشاركا، ولم يتطرق كذلك للمكافأة اللاحقة التي اختلف الفقه بشأن المعاقبة عليها وخصوصا الفقه المغربي.

 

ويعاب عليهعدم تطرقه لاستعمال العنف أو التهديد كصورة من صور الركن المادي لجريمة الرشوة. 

 

لكن يحسب للقانون الجديد أنه كان أكثر توسعا في مواجهته للرشوة حيث جرم رشوة الموظفين العموميين الأجانب وموظفي المؤسسات الدولية العمومية،كما ضاعف عقوبة الرشوة في مجال الصفقات العمومية، وجعل الغرامة فيها تعادل ضعف القيمة المأخوذة على أن لا تقل عن مليوني أوقية، كما أن من محاسن هذا القانون، جعل العقوبات الإضافية في جريمة الرشوة الانتخابية ضرورية وليست اختيارية كما في بعض التشريعات كالتشريع المغربي، وكذا عقابه للشخصيات الاعتبارية.

 

نشير إلى أن ق م ف م، لم يوفق حين جعل عقوبة الرشوة في القطاع الخاص تتراوح بين الحبس من سنة إلى 5 سنوات، لأن ذلك يوحي بعدم إعطاء أهمية كبرى لحماية القطاع الخاص من ظاهرة الرشوة، وهو القطاع الذي أصبح له دور كبير في اقتصاد الدول، والخطأ الفادح الذي وقع فيه ق م ف م، هو أنه جعل الحكم بإحدى العقوبات المقررة لعقاب الرشوة في القطاع الخاص تغني عن الأخرى على خلاف الرشوة في القطاع العام وفي الانتخابات، وحتى في المؤسسات الدولية العمومية.