على مدار الساعة

أنقذوا القضاء!

7 يوليو, 2018 - 16:00
القاضي عمر السالك بن الشيخ سيدي محمد

بلغنا أن اليوم الأول من مسابقة اكتتاب القضاة شهِد الغشّ والاختلاس على نطاق واسع، باستخدام التقنيات الحديثة!

 

فإنّا لله وإنا إليه راجعون!

 

وبهذه المناسبة، فإننا نطالب بإلغاء امتحانات مادة التخصص، التي جرت اليوم في مسابقة اكتتاب 20 قاضيا؛ لأن قطاع العدل ليس بحاجة إلى "لصوص" يسرقون النجاح للولوج إلى مهنة تُناط بأصحابها مهمّةُ التوقيع عن الله، والحُكم في دماء الناس وأموالهم وأعراضهم.

 

إذا كانت مسابقة امتحان الشهادة الابتدائية قد اقتضت قطع الإنترنت عن عموم التراب الوطني، خوفا من الغش؛ فإن مسابقة اكتتاب القضاة يجب أن تحظى بشفافية أكثر وباهتمام أكبر لدى الجهات المشرفة ولدى السلطات العلي في بلادنا حرسها الله.

 

كما يجب تغيير النمط التقليدي لطرح الأسئلة في هذا النوع من المسابقات، لأن الأسئلة المباشرة قد ينجح فيها شخص يحفظ النصوص لكنه غير مؤهَّل لتَقلُّد المنصب، فالقضاء صناعةٌ تتطلب القدرة على البحث والاستيعاب والتحرير، لأن القضايا متجددة والنصوص القانونية كذلك، ولو بدرجة أقلّ.

 

فيجب، في مسابقة كهذه، أن تكون أسئلة الامتحان عامة؛ تهدف إلى معرفة مدى ذكاء المترشح واستيعابه للمفاهيم، وامتلاكِه مهاراتِ التحليل والتحرير... انطلاقا من أن المشاركين جميعا يحملون شهادات جامعية، ويُفترض أنهم تلقّوا تكوينا معرفيا بدرجةٍ مّا، علاوة على أنهم سوف يمكثون سنتين على الأقل من التكوين في المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء.

 

صحيح أن القاضي لا بد له من مستوًى معرفـيٍّ معيّن، لكنّ حفظ النصوص وحده ليس كافيا، والأسئلة لا ينبغي أن تكون مباشرة بحيث ينجح من يحفظ النصوص ولو كان بليدا، ويرسب النابغة لمجرد أنه لم يحفظ "شرط تضمين الصانع" (انظر الصورة المرفقة) وغيرها من المسائل التي لا تتوقف على الفهم بدرجة كبيرة، بل يمكن للغشاش أن يسرقها من كتاب أو مذكرة، أو عبر هاتفه الذكي!

 

ما هكذا تورد العرب إبلها!

 

إذا كانت أسئلة القانون مقبولة؛ فإن أسئلة الفقه ليست كذلك، ويجب الارتقاء بها إلى المستوى اللائق.

 

بقي أن أشير إلى أن بعض الدول المتقدمة، تجعل نصوص القوانين متاحة للمشاركين في هذا النوع من المسابقات، ويمكنهم الاطلاع على أي نص قانوني أثناء الامتحان، لأن المقصود ليس معرفة مدى حفظ النصوص، بل العبرة في مقدرة المتسابق على فهْم القضايا المطروحة وتحقيق مناط المسائل، والدقة في تكييف الوقائع، وحينئذ يكون من السهل تطبيق النصوص عليها.

 

وهذا الأمر المُتّبع في بعض الدول الحديثة شبيه بما كان سائدا في العصور الذهبية من صدر الإسلام، حين كان القاضي يُعَيَّن على أساس الفهم، لا الحفظ فقط، كما وقع لإياس بن معاوية حين اختير قاضيا للبصرة، في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، الذي كتب إلى واليه بالبصرة عديّ ابن أرطاة، وأمره بأن يجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة، ويجري لهما اختباراً، والفائز منهما يتولى منصب القضاء في البصرة.

 

امتثل الوالي أمر الخليفة، وجمع بين الرجلين، ودار الحوار التالي:

قال القاسم: والله إن إياسَ بنَ معاوية أفقهُ مني وأعلم بالقضاء:

* فإن كنتُ كاذباً فلا يجوز أن أتولى منصب القضاء وأنا كاذب؛

* وإن كنت صادقاً، فينبغي لك أن تقبل قولي.

 

فقال إياس للوالي: إنك جئت برجل أوقَفْتَهُ على شفير جهنّم، فنَجَّى نفسه منها بيمينٍ كاذبةٍ، يستغفر الله منها، وينجو مما يخاف.

 

فقال الوالي لإياس بن معاوية: أما إذْ "فَهِمْتَها" فأنت لها. ثم ولاّهُ قاضيا، بسبب فهمه، لا لمجرّد عِلْمِه، وإلا فإن القاسم أعلمُ من إياس.

 

في الماضي، كان الناس يتدافعون ولا يقبلون منصب القضاء، ونحن اليوم نتنافس ونتسابق للحصول عليه..

 

لكنْ، أن يصل الأمر إلى استعمال الغش والاختلاس للحصول على منصب يتطلب النزاهة الكاملة؛ فهذا من أشنع المنكرات!

 

وإننا لنهيب بالسلطات المعْنـيّة أن تلغي امتحان اليوم، وتأمر بإعادته، وبتشديد الرقابة وطرد أي شخص يشتبه في محاولته الغش، لأن هذا النوع من الأشخاص لو أتيح له الولوج إلى القضاء فسوف يفسد القطاع من الداخل.

 

وسلطاتنا تكرر دائما أنها تسعى لإصلاح القضاء، لا لإفساده.

 

اللهم هل بلّغت، اللهم فاشهد.

 

حفظ الله موريتانيا، ووفق الموريتانيين لما فيه الخير والتقدم والرقي والازدهار.

 

ونسأل الله أن لا ينجح من المشاركين في مسابقة القضاة إلا من كان في نجاحه خيرٌ لقطاع العدل، وكان القضاء خيراً له.

 

ونرجو للباقين التوفيق والنجاح في مجالات أخرى كثيرة.