على مدار الساعة

مفترق طرق أم طريق دائري؟

29 يوليو, 2018 - 13:30
الحسين ولد أحمد الهادي - نائب سابق

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدي ومولاي رسول الله؛

 

أستفتح بقول الله تعلى، بعد بسم الله الرحمن الرحيم {رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي} صدق الله العظيم.

 

تقسم السياسية الأمريكية إلينورروزفلت العقول إلى: عقول كبيرة تناقش الأفكار، عقول متوسطة تناقش الأحداث وعقول صغيرة تناقش الأشخاص. وحدهم أصحاب العقول الكبيرة أشياخي والمتوسطة أقراني، هم من أتوجه إليهم، أقاسمهم وأستأنس بهم.

 

أ) بانوراما معركة الفوضى الانتخابية:

1382  لائحة لـ219 بلدية، و156 لـ13 جهة، تتنافس على 700000 مصوت - في أحسن الظروف - و ليس ناخب، وتتصارع على بقايا بنية اجتماعية معقدة هشة ومحتقنة منذ عقود، والحبل على الْجَرَّارْ - على رأي إخوتنا السوريين - بالنسبة للنيابيات.

 

مشهد مقلق، وينبئ ليس فقط بانتخابات ساخنة وإنما بـ: مخاض عسير سيولد بعده - شئنا أم أبينا - واقع سياسي جديد وخارطة سياسية جديدة؛ اندحار شبه كامل للنخب السياسية المدنية والتقليدية، مقابل سيطرة تامة لِسياسيِّيُ نصْ كُمْ - على رأي إخوتنا المصريين - ولدعاة الفتنة وللغوغائيين على المشهدين السياسي والانتخابي؛ انقسام مجتمعي أفقي وعمودي؛ تحويل نيجاتيف الصورة السياسية والمجتمعية التي طالما حرصنا جميعا على تجاهلها وعدم التمعن فيها ومحاولة إخفائها، إلى صورة رقمية ثلاثية الأبعاد - بدون فوتوشوب - لموريتانيا ما بعد.

 

إن الوضعية السابقة بعناصرها المختلفة، ليست سوى حصيلة، أو بالأحرى خلاصة، لتضافر وتفاعل العوامل التالية:

1. مشهد سياسي أقل ما يقال فيه بأنه رديء، يتشكل أساسا من: أحزاب سياسية هشة يغيب عنها الطابع المؤسسي، وهو أمر أدركه رئيس الجمهورية فباشر بنفسه عملية إصلاح ومؤسسة الحزب الحاكم والرفع من مستوى التشاركية فيه وهي بادرة تحسب له؛ ومن أقطاب وكتل سياسية رخوة تولد ولادة قيصرية سرعان ما تتفتت أو تتلاشى بفعل عدم الانسجام وانعدام الثقة وتضارب المصالح؛ وأخيرا وليس آخرا نخب (أغلبية الفاعلين وكبار الناخبين ومجموعات الضغط) تستمد قوتها السياسية من مصادر غير حزبية (الجهة، العرق، القبيلة، شبكة العلاقات الاجتماعية والمهنية، الثروة... إلخ).

2. تمييع المشهد السياسي، من خلال الاستقالة الطوعية أو الجبرية أو الإقصاء الممنهج لأغلب الكفاءات والخبرات السياسية على ندرتها، مقابل هيمنة تامة لجحافل الهواة والغوغاء والرعاع والرعن على الحراك السياسي وعلى مفاصل الفعل فيه، وتصدرهم للمشهد خلسة بلا مؤهلات ومن غير رخص الاحتراف السياسي.

3. انفجار طموح - حتى لا أقول طمع - شغل المناصب الانتخابية بسمات متعددة تتراوح في أغلبها ما بين الغفلة والجهل والرعونة. طموح عصي على كل فهم، خالي من كل منطق، متمرد على كل معيار، مفكك لكل بنية سياسية كانت أم اجتماعية ومشتت لكل جهد.

4. ترشيحات فقيرة في معاييرها، قليلة الموضوعية في خياراتها، ضعيفة في فعاليتها، مرتبكة في توجهاتها و في دلالاتها، ومربكة لتوازنات اجتماعية طالما ضمنت - على علاتها - حدا أدنى من توازن المصالح المتنافسة أو المتعارضة للمجموعات، وقلصت من احتمالات الاحتكاك فيما بينها.

 

لم يطل الانتظار، فقد جاءت النتائج سريعة: مشهد فريد من نوعه،يختلط فيه حابل معارك كسر العظم بين لوبيات "النفوذ و المال" بنابل الفوضى الانتخابية المُقَوِّضَة؛ استقطاب جهوي – عرقي – قبلي - فئوي حاد بدل الاستقطاب السياسي (موالاة و معارضة)المعهود.

 

ب) راحت السكرة وجاءت الفكرة:

أسابيع معدودة، ويسدل الستار على المشهد السابق بخشبته وبأبطاله وبديكوره وبجمهوره، وقتها تذهب السكرة (نشوة إقصاء الخصوم) وتأتي الفكرة (تسيير التداعيات والتعقيدات) على رأي إخوتنا المشارقة، فتسقط الأقنعة وتُتَدافَعُ المسؤولية. في العرف الانتخابي، لا بد من الحِسابْ (الدَّفْعْ) على المشاريب - على رأي إخوتنا السوريين - وأيضا على الأواني المكسورة - على رأي أصدقائنا الفرنسيين -، عندها تختفي وجوه كانت تتصدر المشهد وتتهاوى رؤوس كان ينظر إليها كمراكز للقوى، فمن عليه الدور يا ترى؟

 

دعونا الآن ننتقل للأهم، يقول الكاتب الأمريكي جيمس فريمان كلارك "إن الفرق بين السياسي ورجل الدولة هو أن الأول يفكر في الانتخابات القادمة بينما يفكر الثاني في الجيل القادم".

 

مما لا شك فيه بأن خياراتنا اليوم وليس غدا، هي من يؤسس لوسم مستقبلنا المنظور والمخفي، وهي أيضا من يحدد مستوى أداء نظامنا السياسي ودرجة وثوقيته وقابلية استمراره. إن الحس السليم مَشُوبٌ بقليل من المنطق وبِدَانِقٍ من المسؤولية، يحتم علينا سرعة العمل على:

1. وضع ترتيبات سياسية محكمة، ملائمة و مناسبة للمرحلة، مصاغة ومرتبة من لدن رجالات دولة ورجالات مجتمع، بعيدا عن تطفل مدمني السياسة ومرضى المناصب ومُحيكي الدسائس والمكائد. ترتيبات بعيدة عن الارتجالية وعن العاطفية وعن العبثية، وخالية من الصراعات الصبيانية ومن تصفية الخصوم في الجبهة الواحدة.

2. تطيين "سمنتة" فسيفساء المشهد السياسي بشكل يسمح بـ: إنتاج خارطة سياسية واضحة المعالم متماسكة الأقطاب؛ استقرار سياسي ولو شكلي حيث لا بديل؛ تسيير محكم وآمن لارتدادات التحولات والتقلبات السياسية والاجتماعية المستقبلية التي لا مفر منها.

3. إعادة ترميم الوحدة الوطنية وتقوية النسيج الاجتماعي، وهي أمور لن تتأتى إلا من خلال: إعادة بناء الجسور بين مكونات المجتمع، وتذويب مناخ الشك والريبة - حتى لا أقول التنافر - الذي بات يطبع العلاقة بين تلك المكونات؛ إعادة النظر في الظروف التي يجب توفيرها، من أجل بناء تماسك اجتماعي وفق منطق الحوار التوافقي المجتمعي؛ إيجاد سبل لتناول تركة الماضي (القريب والبعيد) بطريقة بناءة وموضوعية.

 

وأختم بقول الله تعلى، بعد بسم الله الرحمن الرحيم {للهِ الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ} صدق الله العظيم.