على مدار الساعة

الرئيس جميل.. عَوْدٌ إلى التدبير

9 أغسطس, 2018 - 13:40
محمد عبد الله لحبيب

كل البوابات التي يمكن الدخول إلى شخصية الرئيس محمد جميل منصور مشرعة على مصاريعها، فقد تكاملت أبعاد شخصيته، حتى لكأنها قيست بمسطرة دقيقة.

 

رجل التحديات

ذات نقاش عبر أحد السياسيين عن امتعاضه قائلا إن بعض الشرائح الموريتانية تمارس تميزا حتى في تسمية أبنائها، فقرر أن يرفع هذا التحدي بإطلاق اسم صحابي أسود على أحد أبنائه؛ فجاء بلال.

 

تعطي هذه اللقطة العابرة أحد المفاتيح الكثيرة لشخصية الرئيس محمد جميل منصور؛ إنها الاستجابة للحظة برفع نهائي للتحدي!. تصاحب هذه الخصلة الفتى اليافع وهو يدرج بين أقرانه في مجتمع تيارت منتصف عقد السبعينيات، يتنقل بها بين مدارس العاصمة الفتية ومسارح العمل الشبابي والثقافي فيها.

 

وفي ريعان الشباب تحتد النقاشات فيستعرض بعض ناشئة الأيديولوجيا عضلاتهم، فيرفع جميل التحدي بتعلم فنون الدفاع عن النفس.. وتذهب النقاشات الفكرية بعيدا فيرفع جميل التحدي بأحمال من الكتب ينوء بها كاهله في سوح المدارس منافحا عن قناعاته.

 

وتكون الاستجابة لتحدي الميوعة والنزعات الفكرية الوافدة بانخراط واع في العمل الإسلامي الحركي، صعد بجميل ليكون إحدى الأيقونات في السياسة والثقافة والفكر، وليكون استثناء في النخبة الموريتانية.

 

تستحق قصة التحدي التي جاءت بجميل منصور إلى صفوف شباب الحركة الإسلامية وقفة خاصة؛ فهي نوع من التحدي امتزجت فيه الكبرياء، بالأصالة، بعنفوان العقل، بعاطفة الوفاء، بحس الموازنة، بحصافة الوعي، بعمق الإيمان.

 

كان منطق القرابة والجوار، والتأثر، يقتضي أن ينخرط جميل في شباب التيار الناصري، وكانت بدايات هذه "النتيجة الطبيعية" قد بدأت تتشكل إلى أن جرى بحضور جميل حوار استحيا أن ينصر فيه أخاه الشقيق على ضيفهما، فانحاز للضيف انحيازا استمر إلى اليوم... وظل برا بالأخ وإن اختلف درباهما في السياسة والثقافة، والحياة العامة.

 

قارع جميل أسوار السجن بالخروج منها تحديا، والعودة إليها تحديا؛ فعندما سجن مع رفاقه منتصف التسعينيات (1994) بعد إعادة تأسيس الحركة الإسلامية، غادر السجن ليلا على حين غرة من السجان، وظل مختفيا يحرك خلايا التنظيم في العاصمة والداخل، إلى أن انفرجت الأزمة بخروج رفاقه من المعتقل.

 

وبعد لجوئه إلى أوروبا إبان أزمة نظام ولد الطائع والإسلاميين 2003 وعندما شعر أنه يقدم خدمة للنظام بابتعاده عن الشارع؛ سلم نفسه إلى مخالب المنظومة العسكرية المتخبطة في أزمات سياسية وأمنية واجتماعية، وحط وضحَ النهار في مطار نواكشوط غارسا رجله في مستنقع الموت، وقال لها: "من تحت أخمصك الحشر".

 

عندما سقط نظام ولد الطايع "بتغيير كي لا يقع التغيير" على حد تعبير أحد الخبراء الدوليين، رفع ولد منصور، مع رفاقه التحدي، وخلقوا لأنفسهم شرعية الأمر الواقع، بعد أن ضنّ عسكر الثالث من أغسطس 2005 بالشرعية القانونية، فقاد سفينة الإصلاحيين الوسطيين، ربان ماهر، في زي مناضل لا تعيق أسوار المنع حركته.

 

وفي مرحلة الشرعية القانونية للتيار الإسلامي واجه تحديا من نوع آخر، واستطاع رفعه بجدارة، والأفواه فاغرة من وقع صدمة الاستثناء في التاريخ، والسياسة، وسلوك النخبة، محليا.

 

سلم ولد منصور قيادة المشروع الذي نما وترعرع على يديه، وقد انتشرت أشرعة الإنجاز، وبسقت فروع نخلة العطاء، والتميز، وتبوأ حزب التجمع الوطن للإصلاح والتنمية (تواصل) موقع الصدارة في القوى السياسية الوطنية.

 

اختار القائد أن يتأمل السفينة وهي تواصل سيرها، والموج يصافحها بسكينة، والأيدي تلوح بشارة نصر مسبحة بحمد ربها.. لاهجة بالدعاء لقائد حصّنها بشورى القيادة، وحررها من عقد دعاوى الزعامة الأبدية.

 

وها هو ولد منصور، وهو في مفتتح عقده السادس (ولد 1967) يضرب موعدا جديدا مع التاريخ لإنجاح تجربة المجالس الجهوية، ويضع في خدمة المؤسسة الوليدة خبرات استثنائية في التأسيس للتجارب الناجحة، ورفع تحديات صناعة النماذج.

 

جسر جميل

على بعد مآت الأمتار إلى الجنوب من مجمع "الله أكبر" بمنطقة كرفو، ببلدية عرفات يلاحظ العابر من الشارع الرملي قنطرة من الإسمنت المسلح ما زالت قائمة منذ أكثر من 15 عاما تقريبا. كانت النقطة التي توجد بها القنطرة مستنقع مياه يغلق الشارع في بعض فترات العام، وعندما تولى ولد منصور قيادة بلدية عرفات شاد هذا الجسر، ووضع به حلا نهائيا للأزمة التي كانت تعيق الحركة في تلك الرقعة المزدحمة من أكبر بلديات العاصمة.

 

وإن اتجهت غربا فستجد على بعد بضعة كيلومترات "سوق عثمان"؛ حيث يختار كثير من سكان العاصمة أفرشة منازلهم.

 

هذا الجسر على صغر حجمه، وتلك السوق، يقفان شاهدا على "مرور قائد من هناك". لم تعمر طويلا تجربة ولد منصور في بلدية عرفات، فخلعه النظام السياسي قبل منتصف 2003، بعد حوالي سنتين من انتخابه، لكن التجربة القصيرة خلَّدت التيار الإسلامي في بلدية عرفات، فانتخب سكان البلدية رفيق ولد منصور (الحسن ولد محمد) ولا زالت مستعصية على كل محاولات النظام انتزاعها.

 

أثناء إدارته لبلدية عرفات واجه ولد منصور تحديات تمويل البلدية، والتضييق على صلاحيات العمد التي انتهجها نظام ولد الطائع، بحنكة القائد، ومرونة المسير؛ فغداة انتخابه استحوذت الحكومة على أهم مصادر دخل البلدية بانتزاعها "حائط حجز السيارات" (فريير)، وضربت حصارا على البلدية المارقة. إلا أن مهارة ولد منصور في خلق الفرص أنتجت "سوق عثمان" وموارد أخرى ما زالت البلدية تعتاش على بعضها.

 

الحقوقي المفكر

مبكرا ولدت في عقل الطالب محمد جميل منصور أسئلة التعايش بين مكونات المجتمع الموريتاني؛ فخصص قسما من بحث تخرجه من المعهد العالي للحديث عن أحداث 1966 التي أسست لجزء كبير من الشرخ الاجتماعي في المجتمع الموريتاني وبين نخبته العربية والزنجية.

 

وقاده ولعه بالتدقيق في المصادر مبكرا إلى رفض الرق المنتشر في البلاد، فحمل هم إنهاء مأساة لحراطين، وتعرض في سبيل ذلك للكثير من الاتهامات بشأن الموقف مما يعتقده البعض من أحكام الشريعة الإسلامية، لكن جميل أصر على موقفه الذي تبناه الجميع بعد أكثر من عشرين سنة.

 

ولَّدت فكرة العدالة الاجتماعية، ومعالجة المظالم، في نفس جميل ولعا بالتوازن، وإنصاف الشرائح التي عانت الظلم، انعكس جليا في إسناد الوظائف وتوزيع ترشيحات حزب "تواصل" وبقيت السنة بعده فيما بقي من راسخ البناء.

 

وكان من نتائجها انشغال الحزب بالتأسيس النظري والمشاركة العملية في جهود إنهاء الرق، وإزالة مخلفاته، ورأب صدع المظالم التي ارتبطت بأحد 88 - 1889.

 

الكاتب الخطيب

بالغ الرئيس محمد جميل منصور مرة في ذكر علامة موريتانيا محمد سالم ولد عدود وسعة اطلاعه في اللغة العربية، فسأله أحد تلامذته بجامعة الإيمان باليمن: هل هو أعلم منك باللغة العربية؟

 

يعكس هذا السؤال حجم انشداد الطالب اليماني، المولود في موطن هو أصل العربية، إلى سحر البيان الذي يتحدر من خطاب ولد منصور؛ فحين يتحدث تتزاحم المفردات والصور على لسانه، حتى يبدو وكأنه يقرأ من كتاب!.

 

وحين يضع القلم بين أصابعه يسبك سحر البيان بخط باذخ الجمال.. دون أن يلتبس مقام الخطابة بمقام الكتابة، وتلك ميزة نادرة، ندرة أضراب ولدمنصور في النخب العربية.

 

صقلت الصحافة قلم ولد منصور؛ في "الأمل"، و"العلم"، و"الراية". وقومت منابر الدعوة والسياسة لسانه، في نادي مصعب، والجمعية الثقافية، وثانويات العاصمة، وأعانته على ذلك ملازمة طويلة للكتب، وثقافة مترامية الأطراف، تتأسس على استيعاب واسع للتراث الإسلامي، فقها، وأصولا، وتفسيرا، وتاريخا، وإحاطة واسعة بحديث المكتوب في السياسة، فكرا، وتقعيدا، وتجارب أمم، ومواقف رجال.

 

إذا تحدث ولد منصور في الفكر، اختار العربية الفصحى، ولكنه يختار اللهجة الحسانية لتبيان المعاني السياسية، ومخاطبة وجدان المواطن والمسؤول، ويجترج لذلك مصطلحات تسير بها الركبان؛ مثل وصفه صفقة مطار نواكشوط بأنها "دَفَنْتَه" بين رأس النظام وبعض رجال الأعمال.

 

غالبا ما يفتتح حديثه باللغة الفرنسية بعبارة: "سأحاول أن ألخص ما قلته..." لكنه يتحدث باللغة الأجنبية، وقد تعلمها بعد أن كبر نسبيا، حديثا أبلغ من بعض متحدثيها ممن تعلموها في سن مبكرة، وقد أصبحت منذ سنوات طويلة لغة تلقٍّ بالنسبة إليه، ويحمل موقفه منها نفسا من انحيازه لعوامل الجمع بين مكونات البلد وجمع شمل جماعته الوطنية، وقد اتخذ بعضها الفرنسية لغة قومية.

 

إذا أجاب ولد منصور أسئلة الصحفيين، يظن السامع أنه واجه الأسئلة، ورتب إجاباتها، وذلك حدس في محله؛ فمن كثرة ما يقلب الرجل المواقف والخيارات من كل جوانبها لا يمكن أن يفاجئه سؤال لم يطرحه على نفسه.

 

لم يكن ولد منصور مقتنعا بشعار الرحيل الذي رفعته المعارضة في وجه نظام ولد عبد العزيز إبان موجة الربيع العربي الأولى 2012، لأسباب تبينت وجاهتها لاحقا، ولا كان متحمسا لدخول حزبه حكومة ولد الشيخ عبد الله 2008، لكنه حين يتحدث عن الموقفين، يتحدث بحماس المندفع، وينافح بحجة المقتنع. وتلك خصلة أخرى هي احترام المؤسسة، والانضباط لتوجهاتها، وإلجام العواطف لتتسق مع الاختيارات.

 

روافد زاخرة

اجتمعت في شخصية ولد منصور روافد معرفية من مشرق العالم الإسلامي ومغربه؛ فاتضح تأثره بتجارب الحركات الإسلامية في المغرب العربي والسودان بارزا، وامتياحه من واقعية الغنوشي السياسية، وجراءة الترابي ومنطقيته الرصينة، ومرونة تجربة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية، دون أن يطغى ذلك على إعجابه العميق بفكر وشخصية الإمام حسن البناء رحمه الله، والتجربة التي تمزج بين السياسة والمقاومة في فلسطين.

 

ولم يغفل عن مطالعات مستفيضة في الفكر والسياسة والتاريخ لأعلام معاصرين، وجدوا لهم متسعا في عقل ولد منصور، ووجدت مؤلفاتهم مكانا حصينا في مكتبته العامرة، التي تنمو مع أسفاره.

 

امتزجت كل هذه المعارف والتجارب بأثارة من فقه منضبط بقواعد أصول المذهب المالكي، واختلطت بخلاصات الفكر المقاصدي لدى الشاطبي، وابن عاشور، وعركتها سوح العمل اليومي في قيادة العمل السياسي والثقافي الإسلامي، فأنتجت عجينة منفتحة في محافظة، مجددة في أصالة، مبتكرة في التخريج، وقافة عند حدود النص الشرعي، لخصها صاحبها حين علق أحدهم "بأن الوسواس في الصلاة مكروه ولا وجود له في السياسة"، فكان جواب ولد منصور "بأن الصلاة من القطعيات فالاحتياط فيها لازم، والسياسة من الظنيات فالتقدير فيها واسع".

 

وقد ميز هذا الاطلاع الواسع، وتصريف المعاني البليغ وجود الرئيس محمد جميل منصور تحت قبة البرلمان، فحفر اسمه هناك بمساءلاته الشهيرة لوزراء الصحة والتعليم، والداخلية والاقتصاد..

 

اختار ولد منصور، عند إكمال تعليمه الثانوي، أن يجالس العلماء في المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، وكان الشيخ محمد سالم ولد عدود، والشيخ محمد يحيى ولد الشيخ الحسين، ومحمدن ولد المحبوبي، والدكتور جمال ولد الحسن من أساتذته.

 

وبعد نيله شهادة الإجازة (المتريز) في أصول الفقه قرر استكمال المسيرة التعليمية فتخرج بشهادة الدروس العليا المعمقة من جامعة محمد بن عبد الله بفاس، وفيها سجل أطروحته للدكتوراه، التي صرفته إكراهات العمل العام عن إكمالها، وأعاده إليها الحنين بعد قرابة الـ20 عاما، عندما خرج من رئاسة الحزب.

 

ويبدو أن حظها في التأجيل قد ابتسم مجددا، ولن يخرج للناس كتاب "الشورى والديمقراطية" (عنوان الأطروحة) كما أجلت الظروف التي تستأثر بجميل للسياسة خروج كتب أخرى عن "الرق" و"الفن" و"الحركة الطلابية".

 

إذا اجتمعت موهبة القائد، مع عقل المفكر، مع تدبير المدير، واستيعاب الرئيس، مع فصاحة الخطيب، وتوازن الأصولي، وعمق المقاصدي، وطموح المقاتل، وإشفاق المصلح، حازت القيادة بغيتها، وقد وضعت الأقدار في الرئيس محمد جميل منصور كل هذا، وزيادة ورع، وطيب نفس، وأريحية مؤمن.

 

وفق المنتدى لاختياره مرشحا لرئاسة المجلس الجهوي بالعاصمة نواكشوط؛ فالتجربة الوليدة تحتاج قائدا فذا، وعبقرية تأسيس، لن تجدها في غير ولد منصور.