على مدار الساعة

كنز علمي عظيم... في خطر (صور)

14 مارس, 2017 - 11:30
بقلم/ م. محفوظ ولد أحمد

الشيخ العلامة محمد يحيى ولد سيداحمد ـ حفظه الله ـ لا يعرفه كثير من الناس؛ وكثير من الناس يعرفونه ولا يعرفونه!

 

الرجل قضى فترة نَيَّفت على ثلاثة عقود في خدمة التراث العلمي الموريتاني، باحثا ومشرفا وجامعا حافظا مرشدا... في مجال المخطوطات والمؤلفات الشنقيطية/الموريتانية بالمعهد الموريتاني للبحث العلمي (غير اسمه مؤخرا)؛ حيث ورده كثير من الباحثين واستفادوا من خدماته دون داع لمعرفته الشخصية التي تقود إلى ذلك "الكنز" الذي سأتحدث عنه في هذه العجالة أو الصرخة.

 

هذا الرجل الموظف، بل "العامل"! الذي ظل مثالا لدقة الالتزام بتوقيت عمله والاستغراق فيه عن العالم من حوله، المرتدي على علمه ثوب التواضع، المتخفي وراء البساطة والقناعة... هو في الواقع عالم متبحر وأديب كبير وشاعر قدير(حقا لا وصفا).

 

درس علوم السيرة والعربية على والده وجدته، ثم التحق بمحظرة العلامة محمد عالي ابن نعمه (أحد كبار تلامذة يحظيه بن عبد الودود المقربين) ولازمه حتى تخرج منها مجازا. ثم التحق بالعلامة بداه بن البصيري في نواكشوط وأخذ عنه، وكان من خواص تلامذته. ثم انتسب للمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية في مرحلته الذهبية لينال منه شهادة الدراسة العلمية.

 

وكان العلامة هارون بن الشيخ سيديا قد اطلع على بعض بحوثه، فاستقدمه إلى أبي تلميت للتعليم والبحث فترة من الزمن، قبل أن يستحوذ عليه العلامة المختار بن حامد لمساعدته في أبحاث موسوعته التاريخية، ومن ثم أصر على توظيفه رسميا إلى جانبه، مساعدا له، في دار الثقافة.

*

مسيرة محمد يحيى وحياته الحقيقية كانت قبل كل هذا وأثناءه وبعده، تتلخص في شيء واحد: الكتاب، ولا شيء سوى الكتاب!

 

كان منذ طفولته وفي المحظرة خطاطا للكتب، منكبا على نسخها دون انقطاع. ثم رأى ما يجلبه بعض الرجال من كتب مطبوعة من عملهم في السنغال، فكان يتوجه إلى هناك للعمل في التجارة فترة؛ ينفق كل ما حصل من ذلك، أولا بأول، في شراء الكتب؛ فيأتي الرجال بالميرة والهدايا، ويأتي هو موقرا ركابه بالكتب أو حاملا لها على كاهله، وهكذا...!

 

لم تكن في حياته ساعة خارج كتبه؛ إما يقرؤها وإما ينسخ إليها ما استطاع عاريته من المخطوطات.

 

وفي زمن الوظيفة، ظل "راتبه" ـ المتواضع طبعا ـ موزعا بين المكتبات التجارية وباعة الكتب في الشارع (النشارين)، وكلما رأى عنوانا جديدا قذفته المطابع إلى المكتبات أو ألقته الحاجة إلى "النشارين" وليس معه ثمنه يظل متعلقا به، يسهده الهم والحزن ألا يجد ما ينفقه من أجله... حتى يناله في النهاية!

 

ومع تمركزه في نواكشوط ـ بسبب الوظيفة ـ جلب صناديق الكتب والمخطوطات، وبنى كوخا من الخشب نظم فيه مكتبته؛ التي ما لبثت أن أصبحت قبلة الدارسين والباحثين ممن اهتدوا إليها... فضلا عن طلاب العلم وطالباته الذين يقرئهم فيها فنون العلم المحظرية.

 

وكانت حالة الأكواخ في "الكبة" والخوف على سلامة المكتبة هاجس قلق لمحمد يحيى وتلامذته... فانتهى به الجهد إلى شراء بيت في "بوحديدة" الشمالي. كانت غرفة واحدة بسيطة مغطاة بالزنك. ولم يكن يهمه ضيق موقعها ولا أنها مؤقتة (ﮔـژرة)؛ كان فقط يريد تأمين كتبه والجلوس بينها، لا يخشى شرارة نار تشعل بناء الخشب.

 

مكتبة الشيخ محمد يحيى هذه ما تزال إلى اليوم في هذه الغرفة البسيطة، يكافح عنها عواصف الرمل وقطر الأمطار، ويقاتل القوارض والحشرات التي تهددها.

 

ورغم عدم سعة المكان لأسرته فقد اضطر إلى استخدام جزء من غرفة السكن المجاورة لوضع ما ضاقت عنه غرفة المكتبة من الكتب. وفي النهاية لم يجد بدا من تأجير بيت لإسكان أسرته في نفس المنطقة. بينما بقيت المكتبة في ذلك المكان، الذي "تفضلت" لجان الإحصاء ومنح القطع الأرضية، بـ"التصليب" على مبانيه القليلة باعتبار المكتبة العظيمة والأسرة الكبيرة لا تستحقان سوى قطعة واحدة صغيرة... لم تمنح لهما حتى يومنا هذا!!

 

ويقول: إنه رغم ضيق ومضايقة هذا المكان ومخاطره على الكتب، فإن التفكير في أنه (كسائر من لا "سند" لهم) قد "يرحل" في النهاية، يؤرقه، لأنه لا يستطيع بناء بيت جديد، ولا يستطيع نقل الكتب إلى مكان مشيد، فضلا عن مكان مجهول!

 

والواقع أن التفكير في نقل هذه المكتبة، أو تحريك أي طرف منها، هو مغامرة خطيرة لأنها مرصوصة على "رفوف" من الخشب الردئ الذي جمع ورتب بطرق ومراحل متفاوتة وغير متماسكة.

 

والأهم أن حجم الكتب وأنواعها يجعل نقلها مغامرة خطيرة. فهناك ما بين 12000 و1800 مجلد وكتاب و"كناش"... في حوالي 3000 آلاف عنوان على الأقل، فيها كثير من نفائس الكتب القديمة والمخطوطات!!

*

استطيع القول بأن هذه المكتبة المهددة في بيت زنك متهالك محاصرة "بالـﮔـژرات" من كل مكان رغم قدمها(وهذا طبيعي من شخص مسالم لا يتعرض للناس)، هي أكبر مكتبة في موريتانيا حسب ما رأيت وسمعت، لا من حيث عدد الكتب المطبوعة والبحوث المرقونة والمخطوطات فحسبُ، وإنما من حيث نوعية الكتب وقيمتها التاريخية وطبعاتها القديمة المنقرضة...

 

إنها بحق كنز علمي عزيز وثروة وطنية نادرة تحتاج الصيانة والحفظ، فضلا عن كونها ـ لا قدر الله ـ عرضة للخطر كل حين (الأمطار، الحرائق).

 

وإني لأتحدى معالي وزير الثقافة ـ مع كامل الاحترام ـ أن يزور بنفسه هذه المكتبة ويتحدث فيها مع صاحبها، الذي هو موظف متقاعد من قطاعه! ثم يقارنها معاليه بعد ذلك مع أي مكتبة، بما فيها المكتبة الوطنية!

 

لو كان الشيخ محمد يحيى كعالم يقرئ طلبة العلم ويخدمهم دون منٍّ ولا منع (لا يحصى ما أضاعت العارية من كتبه)، من أولئك "العلماء" والشعراء المتصيدين الأضواء الناقرين على الأبواب، أو الذين يغشَون المكاتب ويقرؤون الإعلانات ويكتبون الطلبات... الخ، لكان له شأن غير هذا، ودار غير "براگ" في الكبة أو بيت "سنگ" في الـﮔـژرة، دفع فيه من دم "كتبه" ـ وهي أعز عليه من رقبته ـ ما يفوق ثمن "الذخيرة"!

 

أما هذه المكتبة فلو كانت في بلد غير هذا البلد لكان القائمون على السلطة فيه، قد بحثوا عنها وعثروا عليها ووضعوها مع صاحبها، معززين مكرمين، في مكان لائق يحفظهما ويتيح للدارسين والباحثين والمطالعين الاستفادة من علومهما.

 

ولكن في هذا البلد أيضا لا يعرف اتحاد الكتاب والأدباء شيئا عن الشاعر المفلق والأديب المتبحر محمد يحيى ولد سيداحمد، الذي كاد أن يكون له ديوان ضخم في كل بحر من بحور الشعر الخليلية على الأقل!

 

لكن هذا النوع من العلماء الصائنين علمهم، والشعراء العفيفة ألسنتهم... ليس له إلا أن يكون نسيا منسيا في ظل دولة يتهدم فيها المجتمع التقليدي، ولا يتاح قيام المجتمع الحديث المدني!!

*

للشيخ محمد يحيى بن سيداحمد تحقيقات علمية لصالح المعهد الموريتاني للبحث العلمي، ومؤلفات مستقلة عديدة طبع بعضها، منها:

- شرح نظم الشهداء للعلامة لمرابط ولد متالي،

- "سموط الذهب شرح نظم عمود النسب" للعلامة أحمد البدوي (4 مجلدات)،

- تذييل وشرح خاتمة عمود النسب لأحمد البدوي أيضا،

- شرح نظم أمهات النبي صلى الله عليه وسلم للعلامة الجكاني،

- "الأزهار الندية في أخبار وتراجم أعلام المجلسية" (4 مجلدات)،

- تحقيق وشرح نظم هزليات بني ديمان للعلامة الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديا,

- تحقيق وشرح نظم العلامة مَمُّ بن عبد الحميد لحياة العلامة يحظيه بن عبد الودود (اباه)...

- أنظام علمية كثيرة، وديوان شعر ضخم لو جمع لكان عدة مجلدات...

حفظه الله وأثابه على مجهود عمره العظيم هذا، ويسر إنقاذه وصونه وتكريمه وانتفاع طلبة العلم والدارسين والباحثين... بثمراته اليانعة الواسعة.