على مدار الساعة

أي فتي مضاع

26 أبريل, 2017 - 00:38
دلاهي ولد أهل اعل

شاءت الأقدار أن يكون أول لقاء لي بالفقيد الأديب والفقيه الفهامة الشاعر السالم بن إبراهيم قبل عقد ونصف من الزمن يوم التقينا في مساء من مساءات المحروسة على هامش محاضرة لأحد المشائخ وقد كنت أسمع عنه قبلها من خلال محادثة الخلان سماعا كان العيان أبلغ منه بكثير حين التقينا عرفته يوم عرفته شابا متوقدا ذكاء يعب من زلال معين المحاظر والمعاهد والعيبة تتسع لذلك عرفته منذ عرفته صديقا ليس كالأصدقاء أخا ليس كالإخوان

 

ولكن حبا خامر القلب في الصبا *** يزيد على مر الزمان ويشتد

 

امتزجت بيني وإياه علاقة خاصة ذكرياتها كثيرة متشعبة لست أدري بأيها أبدأ وإذا بدأت لا أدري كيف أنتهي كنت أعلم أنه من أغراض الموت التي يبحث عنها وأعلل النفس وأهرب للأمل.. لقيته مرات ومرات وفي كل مرة لا يكرر نفسه رحمه الله تعالى كان آخر لقاء لنا مباشرة في منفي الكرامة "أنكولا" وفي قرية ابرتمبي تحديدا قبل سنوات حيث مكثنا فترة نخلص نجيا حين يلقي الليل جيرانه يسمعني من جميل شعره ويبوح لي بمكنونات الصدف تارة بخطه الجميل وتارة يملي على فأكتب سمعت منه الشكوى والنجوى أحيانا مضمنا وأحيانا ناسجا على غير منوال سابق أسمعني تصوير حاله وهو الفتي القادم من معاهد العلم ومحاظره وقد ألقته يد النوى بعيدا عن مضغ الشيح والقيصوم بين أقوام لهم لغاتهم ورطانتهم الغريبة على مسمع تعود "هينمة التلام".

 

أنساك صوغ نفائس الأشعار *** لغة السواد وشقة الأسفار

وتعاقب الأيام وهي طويلة *** خلوا من الأوتار والأسفار

لا تسمع الأذنان منك مرددا *** بيتا يليق ولا تصـيخ لقار

إلا ضجيج الساريات حواملا *** هم المشوق ولوعة التذكار

تمسي وتصبح بائعا أو شاريا ** ما كان نولك بائعا أو شار

ما كنت أحسب أن مثلك ساعة ** سيبدل الأشعار بالأسعار

 

ثم يتأمل وجوه الناس من حوله ليجد نفسه وكأنه في شعب بوان "غريب الوجه واليد واللسان" فينشد ملء سمع الدهر متبرما لحالته التي تشبه حالة شاعر آخر من سلف الشعراء المهاجرين مضمنا أبياته الجميلة:

 

لعمرك ما مقامي يوم أغدوا *** نزيل الكنكو والبلد الحرام

غريبا لا أرى إلا غريبـــــا *** سوى أبيات والبلد الحرام

"أما واليعملات من المطايا *** ومكنون المحـاسن من حذام

لمن ريب الزمان ومعـــتداه *** مقامـــي في دكان بلا مقام

كأني في المحافل واو عمرو *** وهمز الوصل في درج الكلام"

 

ومستشعرا ذلك الضياع حين يقف بين أواني دكان "سقط المتاع" مترحما على سلف آخر متلقفا أبياته وكأنه يقول نحن أولى بها منكم رحمكم الله:

 

على المختار من رحمات ربى *** سوار ما تني أبدا سواع

فما أنفك أسمع عنه قولا *** تنــــــاقله الرواة بكل قاع

إلى أن عشته بالعين رأيا *** وما العــيان يوزن بالسماع

فصرت الآن أذكره وأحكي *** بصوت النازح الحزن المضاع

(فإن ترني لدى الحانوت أشري *** به وأبيع من سقط المتاع

فإني سوف أنشد عند بيعي *** أضاعوني وأي فتى مضاع)

 

ومستشرفا هذا المصير المحتوم ناظرا بعين البصيرة من سجوف الغيب متسائلا بنبرة الفقيه المأصل لأفعاله:

أمن جملة الإجمال في الطلب الذي *** به أمر المختار أفضل من طلب

تهاوي الفتى بين الزنوج ملاعبا ***مهاوي إلا ما يقى الله من" عطب "

 

لقد كان رحمه الله تعالى حلو المعشر قوي العارضة حين تجلس إليه كأنك تطالع "سير أعلام النبلاء" أو كتاب "الأذكياء "فالسالم يجسد ما بين الرفوف عيانا في شخصه مع تواضع ونكران للذات وبعد عن الأضواء وتوار قلما يتأتى لأمثاله سألني أحد الإخوة الإعلاميين صورة له فقلت له من الصعب أن توجد له صورة وإن وجدت فلن تكون بعلمه فهو رحمه الله تعالى من الأتقياء الأخفياء كما نحسبه ولئن أوثر عن أهل البصرة قولهم "لم ير مثل نفسه المبرد" فإن أهل المحروسة يقولون بأن السالم بن إبراهيم لم ير مثل نفسه أذكر بأننا ذات مرة أردنا أن نكتب قصائد في غرض شعري معين ونحن أربعة فجاءت قصيدته الأحسن وبدون منازع وكذلك كل شعره والذي هو أدني مراتبه لقد كانت وفاته مصيبة مكتملة العناصر وحتى هذه اللحظة لم أفق بعد من هول الصدمة بل فقدت حتى صرت أبحث عن نفسي الضائعة في ليل موحش العتمات كليل النابغة الذبياني وكلما هممت بأن أكتب بيتا في رثائه تتملكني الرهبة وأتصوره جالسا أمامي يقلب الشعر وهو الخبير بجيده ورديئه فأكع فما كل شعر يصلح أن يكون رثاء للسالم:
 

وقافية بذلت الوسع فيها *** لتصلح أن تزف إلى الكمال

 

وأرجوا أن تسمح القريحة بما أرضى عنه لرثائه وإن لصاحب القول فيه مقالا من جميل قوله رحمه الله تعالى وكأنه يستشعر هذا الرحيل المفاجئ ليتركنا بدون وداع متسائلا سؤال الحائر الموقن بالرحيل:

 

ألا هل للتــــــواصل من سبيل *** إذا نزح الخليل عن الخليل

وهل عذبات بان الجزع هنا *** تلاعبها الشمائل بالأصيـــــل

وهل دور الحذار كما عهدنا *** ليالي لا سبيل إلى الرحــــيل

ليالي وصل ذات الدل دان ***ونرعى الود في أمل طويـــل

 

كنت مرة وإياه في دكان "سقط متاع" له فدخل عليها أحد الثمالي فسألته لأي هدف يشرب هؤلاء الخمر فقال لي بطرافته هو الآن يظن نفسه ملكا وأنا وأنت من حاشيته وأنشد قول الأخطل:

 

إذا ما نديمي علني ثم علني *** ثلاث زجــــــــاجات لهـــــن هدير

خرجت أجر الذيل تيها كأنني ***عليك أمير المؤمنين أميــــــــــر

 

رحم الله الفتي السالم بن إبراهيم وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون.