على مدار الساعة

أوراق الربيع (17) الدولة العلمانية المستحيلة (هـ)

4 مايو, 2017 - 17:52
محمد مختار الشنقيطي

صاحبتْ ترجمةَ كتاب (الدولة المستحيلة) لوائل حلاق إلى اللغة العربية دعايةٌ كثيفةٌ. وقد أتيح لي الاطلاع على عشرات المراجعات للكتاب بالعربية والإنكليزية، فوجدتُ العديد من المراجعات بالإنكليزية ناقدة للكتاب، كاشفة لضعف بنائه التوثيقي والمنطقي، بينما وجدتُ الغالب على مراجعات الكتاب بالعربية هو الدعاية الفجَّة للكتاب والكاتب. وكان من أسباب ذلك أن جلَّ كاتبيها لم يطَّلعوا على مجمل إنتاج وائل حلاق الفقهي والفكري، بما يُسعفهم في وضع كتاب (الدولة المستحيلة) في سياقه، وانشغل بعض الشباب عن رهَق الاطلاع بالحِجاج واللَّجاج.

 

وبفضل هذه الدعاية الكثيفة -المدفوعة بدوافع الصراع الفكري مع القوى السياسية الإسلامية بعيداً عن الاعتبارات المعرفية- حصل وائل حلاق على ما لم يحصل عليه باحث غير مسلم في تاريخ الفقه الإسلامي من قبلُ: فهو -كما يشهد مُجمل إنتاجه العلمي- مستشرقٌ يتبنى تحيزات المستشرقين الدينية والتاريخية، وهو - في رأي عدد من شباب المسلمين الأغرار- منافحٌ عن الإسلام ضد حجج الاستشراق، بل ومنظِّرٌ للأخلاق الإسلامية!

 

ويحرص حلاق على تقديم نفسه للجمهور العربي بالصفة الثانية لا الأولى، أي باعتباره منافحا عن الإسلام ضد الاستشراق لا باعتباره مستشرقا. ففي مقدمة خاصة بالترجمة العربية لكتابه (نشأة الفقه الإسلامي وتطوره) يعظ حلاق المسلمين بأنهم ليسوا بحاجة إلى "الاقتيات على مخلَّفات الآخرين" (ص 15). كما يدَّعي أن غاية الكتاب هي "زعزعة الخطاب الاستشراقي" (ص 10) و"محاولة لتقويم هذا الخطاب الاستشراقي وسلطته الخطابية العالمية." (ص 15). وقد لفت نظري أمران على قدر من الطرافة، يدل أولهما على نجاح حلاق في تسويق نفسه، والثاني على ما يشتمل عليه ذلك التسويق الذاتي من مفارقة غريبة.

 

أما الأمر الأول فهو أن محرِّري الكتاب السنوي عن (أهم خمسمائة شخصية إسلامية مؤثرة في العالم) -الصادر بالإنكليزية عن كل من (مركز الوليد بن طلال للتفاهم الإسلامي المسيحي) في واشنطن و(المركز الملكي للبحوث والدراسات الإسلامية) في الأردن- أدرجوا وائل حلاق ضمن هذه الخمسمائة شخصية إسلامية للعام 2009، إلى جانب عدد من قادة الدول المسلمة وعلماء الإسلام ودعاته ووُعاته! ولم يُرهق محرِّرو التقرير أنفسهم في التساؤل عن الدين الذي يَدين به حلاق قبل إدراجه في كتاب خاص بشخصياتٍ "يرجع تأثيرها إلى تطبيقها للإسلام أو إلى كونها مُسلمة" كما تقول مقدمة الكتاب.

 

والثاني أن حلاَّقاً يردُّ على إميل تيان (1901-1977) ويصفه بأنه "المستشرق اللبناني المشهور" (انظر: الدولة المستحيلة، 126) في الوقت الذي لا يعتبر نفسه مستشرقا! والمفارقة هنا هي: ما الذي يجعل لبنانيا مسيحيا متخصصا في الشريعة مستشرقا، ويُعفي مسيحيا فلسطينيا متخصصا في الشريعة من هذه الصفة، رغم أن كلا الرجلين وُلد ونشأ في بلاد الشام، ودرَس فيها دراسته الجامعية الأولى، ثم انتقل إلى الغرب لإكمال دراسته والاندراج في الحياة الأكاديمية الغربية؟! الحقيقة أن وائل حلاَّق مستشرق في الصميم، ليس فقط باعتباره أكاديميا غير مسلم تخصص في الإسلام -فلا ضير في ذلك- بل لأنه يتبنىَّ المسلَّمات الاستشراقية الصريحة والضمنية التي تطعن في أصالة الرسالة الإسلامية وفي أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، رغم كل صراعاته مع المستشرقين على احتلال الصدارة في مجال الدراسات الإسلامية في الغرب.

 

إن أهم مسلَّمة استشراقية يتبناها المستشرقون حول أصالة الرسالة الإسلامية هي ادعاؤهم أن الإسلام مجرد استعارة زائفة من اليهودية والمسيحية تحكَّمت فيها ردود الأفعال والسعيُ الدائب إلى إثبات الذات تجاه هاتين الديانتين. وقد تبنَّى حلاق هذا المنظور الاستشراقي ذي الخلفية اليهودية-المسيحية تبنِّيا كاملا، كما نجد في قوله مثلا: "لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم قبل وصوله إلى المدينة يفكِّر في تكوين أمة جديدة، ولا في تدشين شريعة، أو نظام تشريعي جديد... لكنَّ حقيقةً جديدة فرضتْ نفسها عليه عندما وجد نفسه في المدينة وجها لوجه مع اليهود... وعندما خاب أمل النبي فيهم بدأ ينأى بنفسه بعيدا عن تلك الشعائر التي كان الدين الجديد يشترك فيها مع اليهودية" (وائل حلاق، نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، 46).

 

وقد تردد هذا الطعن في أصالة الرسالة الإسلامية في عدد من كتب حلاق، ومن ذلك قوله أيضا: "ومن القرآن نعلم أنه في فترة معينة بعد وصوله إلى المدينة فكَّر محمدٌ صلى الله عليه وسلم في رسالته على أنها رسالة تحمل معها شريعة الله، تماما شأنها شأن التوراة والكتاب المقدس." (حلاق، تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام، 21). وكذلك زعمه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعْد هجرته إلى المدينة "بات يفكر في دينه كدينٍ عليه تزويد الأمة الإسلامية بمجموعِ شرائعَ منفصلةٍ عن شرائع الأديان الأخرى." (حلاق، تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام، 23).

 

أما تبنِّي وائل حلاق لمطاعن المستشرقين في شمائل النبي صلى الله عليه وسلم ونزاهته الأخلاقية فنكتفي منه بمثال واحد طالما تردَّد على ألسنة المستشرقين، وهو اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بأنه "استغلَّ" خلافات بسيطة مع يهود المدينة، واتَّخذها ذريعة لتشريدهم أو تقتيلهم، وما أقبحها من تهمة تلك التي تتضمن رمْيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغدر ونقض العهود، وهو أوفى الناس بالعهود، وأشدهم أداءً للأمانات. يقول حلاق ماضغاً ترَّهات المستشرقين في هذا المضمار: "والأهم من ذلك أن اليهود مثَّلوا بالنسبة لمحمد تهديداً معرفيا، لأن شكوكهم في رسالته يُعضِّدها أنهم كانوا يُعتبَرون الأوصياء والمفسرين للتوحيد وللنصوص التوحيدية المقدسة. وقد توفَّر حلُّ جزئي لهذا التهديد في وقت مبكر، حين استَغلَّ محمد صراعا نشب بين قبيلة بني قينقاع اليهودية وبعض أعراب المدينة، وتحرك ضد بني قينقاع، فحاصر القبيلة، وأرغمهم على مغادرة البلدة مع اصطحاب أموالهم معهم. وبذلك قلَّص الخطر، وقوَّى مركزه في المدينة." (حلاق، نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، ص 20 من الأصل الإنكليزي).

 

وقد آثرتُ نقل هذا النص مباشرة من الأصل الإنكليزي، لأن مترجم الكتاب رياض الميلادي نقل الفقرة نقلا غير أمين إلى العربية، (انظر الصفحة 46 من الترجمة العربية). فقد تصرف المترجم في مواضع ثلاثة من الفقرة:

1. جملة: "اليهود مثَّلوا بالنسبة لمحمد تهديدا معرفيا" عكس المترجم معناها تماما، فجعلها: "اليهود قد وجدوا في الرسول تهديدا معرفيا لهم"!!

2. تجنب المترجم لفظ "استغلَّ" exploiting الذي استخدمه حلاق في النص الإنكليزي الأصلي، فترجمه بكلمة ألطف وهي: "أفاد"!!

3. أضاف المترجم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلى الفقرة، وهذا شائع في ترجمات كتب وائل الحلاق إلى العربية.

 

وإذا أمكن أن نعتبر إضافة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مراعاة مستحبة لحساسية القارئ المسلم، فإن التصرف الأول والثاني في الفقرة تضليل متعمَّد من المترجم للقراء المسلمين، وتحريف لعبارة حلاق الأصلية التي يدرك المترجم أنها ستصدم الاعتقاد الإسلامي. وقد يكون حلاق نفسه متورطا في هذا التضليل، إذا كانت الترجمة تمت تحت إشرافه وبرعاية منه، أو كان راجعها قبل نشرها من أجل كتابة مقدمة خاصة للطبعة العربية. وفي كل الأحوال فإن تصرف المترجم هنا يدل على حاجة القارئ المسلم على قراءة ما كتبه حلاق في أصله الإنكليزي، وعدم الاعتماد على مترجمين يهمهم تسويق وائل حلاق أكثر مما تهمهم الأمانة العلمية.

 

ورغم تبنِّي حلاَّق مسلَّمات المستشرقين اليهود والمسيحيين الدينية والتاريخية التي تطعن في أصالة الرسالة الإسلامية، وفي نزاهة النبي صلى الله عليه وسلم الأخلاقية، فهو يردد الثناء على تاريخ المسلمين الفقهي والسياسي، في دغدغة للعواطف التراثية، وشحذٍ للاعتزاز الفولكلوري بالماضي، الذي حذَّر منه أدوارد سعيد بذهنه الوقاد ونزاهته العقلية. فيُثني حلاق -مثلا- على نماذج "الحكم السلالي الإسلامي" ويقول: "تمتلك السلطة التشريعية في الديمقراطية الليبرالية الحديثة سلطات أقلَّ بالمقارنة معها"!! (الدولة المستحيلة، 133). ولا يمكن تفسير هذا القول إلا بأنه سذاجة من حلاق بحسن نية، أو تخدير منه للمسلمين بسوء نية. ونحن نحسن الظن بحلاق، فنفترض فيه سوء النية هنا، حتى لا ننسبه إلى السذاجة، لأنه بعيد منها وعنها!

 

ورداًّ على مقولة "الاستبداد الشرقي" الاستشراقية، كتب حلاق: "في ضوء طبيعة التنظيم الدستوري الإسلامي، يكرِّم التصور الإسلامي المجتمع، باعتباره مهدَ الحياة ومحلَّ العيش ذي المغزى، ويعتبر الاستبداد ومصدره السياسي السلطاني أقل إيذاءً بكثير، مقارنة بنظيره الأوروبي." (الدولة المستحيلة، 135). وهذا الرد على تهمة الاستبداد الشرقي أقرب إلى التأكيد لها مع نسبتها للتصور الإسلامي! بينما ينسبها كثير من الغربيين إلى التراث الصيني والهندي والفارسي. وهذا النوع من الردود التي تشبه تأكيد التهمة شائع في كتابات حلاق ذات المنطق الملتوي في كل ما يتعلق بالإسلام والسياسة. فالغالب أن حلاَّقاً يستعمل كل خصلة جميلة في تاريخ الشريعة فيحوِّلها سلاحا ضد بناء أي دولة معاصرة على أساس من الشريعة!

 

ومن المدائح غير النزيهة قول حلاق عن التاريخ السياسي الإسلامي: "ظل الحاكم كبقية رعايا الشريعة العاديين عُرضة لأي دعوى مدنية.. وبالمثل كان يمكن عقابه على أي انتهاك لقانون العقوبات الشرعي والحدود القرآنية." (الدولة المستحيلة، 140). وهذه صورة زاهية خيالية بعيدة عن الواقع التاريخي، وإلا فكم حاكما في تاريخ المسلمين جُلد في شرب الخمر -مثلا- وهو أكثر انتهاكات الحدود شيوعا في قصور الأمراء قديما؟ وكم حاكما قُتل قصاصا لقتْله أحد رعاياه ظلماً، وما أكثر من فعل ذلك من الأمراء في تاريخ المسلمين؟! وكأن حلاق -وهو يتحدث عن مساواة الحاكم والمحكوم أمام القانون في التاريخ الإسلامي- لم يسمع بـسلطة "الغرض والشهوة" التي شرَّحها ابن خلدون في مقدمته! وليس هذا هو الدليل الوحيد على جهل وائل حلاق بالتراث السياسي الإسلامي.

 

ليس مما يخدم مستقبل المسلمين أن يشيدوه على رؤية خيالية للماضي، والتمدح بما لم يكن. وربما تكون لعبة التمدح بالماضي لقتل المستقبل جزء من ستراتيجية حلاق في "الفاعلية الإقناعية". وقد أوردنا في الحلقة (14) من هذه السلسلة قوله: "من الشروط الأساسية للفاعلية الإقناعية لأيِّ خطاب ألا تكون مهدوفات [=دوافع] الخطاب واضحة لدى القارئ أو المستمع." (حلاق، نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، 13).

 

قبل صدور كتاب (الدولة المستحيلة) بنصف قرن تقريبا، قدَّم فيلسوف الحضارة الإسلامية مالك بن نبي محاضرة بعنوان: (إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث) نُشرت فيما بعدُ في شكل رسالة بالعنوان ذاته. وفي هذه الرسالة نجد خواطر عميقة ربما تُعين على فهم ظاهرة وائل حلاق ضمن تاريخ الاستشراق وسياقه. يميز مالك بن نبي في رسالته بين صنفين من المستشرقين: صنف المتحاملين على التاريخ الإسلامي بكل أنواع الذم والتنقيص، وصنف المادحين لماضي الإسلام مع "إحاطة مستقبله بالريبة والابهام" (إنتاج المستشرقين، 24).

 

واللافت للنظر أن مالكاً وجد -بنظرته الثاقبة- أن الصنف الثاني قد لا يقل خطرا على الضمير المسلم من الصنف الأول، بل قد يكون أخطر في بعض الظروف. فالمستشرقون المتحاملون على التراث الإسلامي لم يتركوا أثرا يُذكر في الثقافة الإسلامية المعاصرة، لأن الدفاعات اليقِظة للضمير المسلم سرعان ما دفعت أقوالهم بعيدا، وبيَّنت عَوارها وتحيُّزَها الذي غالبا ما يكون سافرا على أية حال. فهؤلاء المتحاملون "إنتاجهم -على فرض أنه مسَّ ثقافتنا إلى حدٍّ ما- إلا أنه لم يحرك ولم يوجه بصورة شاملة مجموعة أفكارنا، لما كان في نفوسنا من استعدادٍ لمواجهة أثره تلقائيا، مواجهة تدخلت فيها عوامل الدفاع الفطرية عن الكيان الثقافي." (إنتاج المستشرقين، 6).

 

أما المستشرقون المادحون للتراث الإسلامي، فمن السهل عليهم جداًّ أن يمرِّروا -في خضمِّ مدائحهم- كل تحيزاتهم الاعتقادية ضد الإسلام، دون أن يجدوا من العقل المسلم دفاعا، لأنه اليوم عقل مأزوم، يعاني من مركَّب النقص، و"يبحث عن حقنة اعتزاز للتغلب على المهانة التي أصابته من الثقافة الغربية المنتصرة، كما يبحث المدمن عن حقنة المخدِّر التي يستطيع بها مؤقتاً إشباع حاجته المرَضية" (إنتاج المستشرقين، 11-12). وقد وفَّر المستشرقون المادحون لتاريخ المسلمين وحضارتهم ذلك المخدِّر في شكل إطراء يعلِّل به العقل المسلم المأزوم ذاته المتضعضعة الفاقدة للثقة في ذاتها، وينسى السعي في أمر الحاضر والمستقبل. وفي ذلك يقول بن نبي: "نجد للمستشرقين المادحين الأثر الملموس الذي يمكننا تصوره، بقدر ما ندرك أنه لم يجد في نفوسنا أيَّ استعداد لرد الفعل، حيث لم يكن هناك في بادىء الأمر مبرر للدفاع الذي فقَد جدواه، وكأنما أصبح جهازه معطَّلاً لهذا السبب في نفوسنا." (إنتاج المستشرقين، 7).

 

ويشبِّه مالك بن نبي إطراء بعض المستشرقين لتراث المسلمين -وهم يطعنون في أصالة الرسالة الإسلامية، ويسعون إلى هدم مستقبل الإسلام، وتجريد المسلم المعاصر من العزة الإيمانية- بمن يعلل فقيرا جائعا بأحاديث سمر عن ثروة أجداده، فيملأ نفسه العليلة زهواً، وهو يبيت على الطوى ويَظلُّه، قاعداً راضياً بالدُّون: "إننا عندما نتحدث إلى فقير -لا يجد ما يسدُّ به الرمق اليوم- عن الثروة الطائلة التي كانت لآبائه وأجداده إنما نأتيه بنصيب من التسلية عن متاعبه بوسيلةِ مخدِّر ٍ، يعزل فكره مؤقتاً وضميره عن الشعور بها. إننا قطعاً لا نشفيها. فكذلك لا نشفي أمراض مجتمع بذكر أمجاد ماضيه." (إنتاج المستشرقين، 13).

 

ولم يفت مالكا التنبيه على وعي المستشرقين بعُقدة الاعتزاز بالماضي في ثقافة المسلمين اليوم، واحتماء بعضهم بذاكرة الماضي الغابر من مواجهة الحاضر الماثل والمستقبل الآتي. فقد أشار مالك إلى "حساسية الجماهير المسلمة لأمجاد ماضيها" ونبَّه -بعين البصير- إلى "إمكان استغلال هذه الحساسية لإلفات تلك الجماهير عن حاضرها. وهذا الجانب هو الذي يهمنا، لأنه يلتقي في الزمن مع أوْج الموجة العارمة التي تكتسح اليوم العالم من أمواج الصراع الفكري." (إنتاج المستشرقين، 17).

 

وينتهي مالك بن نبي في خواطره الثمينة إلى أن "الانتاج الاستشراقي، بكلا نوعيه، كان شراً على المجتمع الاسلامي... سواء في صورة المديح والاطراء التي حولت تأملاتِنا عن واقعنا في الحاضر، وأغْمستْنا في النعيم الوهمي الذي نجده في ماضينا، أو في صورة التفنيد والإقلال من شأننا بحيث صيَّرتْنا حماةَ الضيم عن مجتمع منهار... بينما كان من واجبنا أن نقف منه عن بصيرة طبعاً ولكن دون هوادة، لا نراعي في كل ذلك سوى مراعاة الحقيقة الاسلامية غير المستسلمة لأي ظرف في التاريخ، دون أن نسلِّم لغيرنا حق الإصداع بها والدفاع عنها لحاجة في نفس يعقوب." (إنتاج المستشرقين، 25).

 

فعمل المستشرقين في كلا وجهيه المادح والقادح هو وسيلة من "وسائل افتضاض الضمائر والعقول" (إنتاج المستشرقين، 24)، وملء الفراغ في ثقافةٍ فقدت المباردة التاريخية، ورضيتْ بأن تُحشر في الزاوية: و"كل فراغ أيديولوجي لا تشغله أفكارنا، ينتظر أفكاراً منافية، معادية لنا. فهذه هي القاعدة العامة، والمتخصصون في الصراع الفكري يعرفونها كما يعرفون أبناءهم." (إنتاج المستشرقين، 45).

 

وقد يأتي ملء الفراغ تارة في شكل هجوم سافر يستنزف العقل المسلم في الدفاع، وأخرى في شكل إطراء مخدِّر للعقل المسلم يغرقه في عالم الماضي الزاهي عن الواقع المرير والمستقبل المعتم. وهذا الشكل الأخير هو الأخطر، لما فيه من التواء: "فالصراع الفكري يجري فيه منطقُه الخاص، تبعاً لخطٍّ ملتوٍ على العموم، بحيث يقتضي الانتقال من مرحلة معيَّنة إلى أخرى، إلى مراحل وسيطة تفرض منعرجات ومنعطفات الطريق." (45-46).

 

ينتمي وائل حلاق إلى صنف المستشرقين المادحين لتاريخ الإسلام، مع "إحاطة مستقبله بالريبة والابهام" حسب تعبير مالك بن نبي، ومع الطعن في أصالة الرسالة الإسلامية ذاتها. فهل يفهم ذلك الأغرارُ من شباب الإسلام، أم يستسلمون للكسل العقلي والتعلق بالأوهام؟!

(يتواصل)