على مدار الساعة

ميوعة الحقل السياسي.. الواقع القاسي!

29 مايو, 2017 - 12:47
الولي ولد سيدي هيبة ـ كاتب صحفي

إذا كان الإعلام يعاني من الميوعة الشديدة في ظل غياب آلية التنقية و التقنين ـ حتى بات يُنعت بمهنة "من لا مهنة له" ـ فإن ميدان السياسية لا يقل عنه ميوعة بما يعاني هو الآخر من الامتهان و شدة الاستسهال إلى أن أصبح كل من تسول له نفُسه خوضَ غماره،

 

إلى مزاياها المادية السهلة، قادرا في لمح البصر على الحصول على الترخيص الحزبي دون عناء أو خضوع لأبسط الشروط حتى ناهز المائة عدد الأحزاب لتنتشر كالوباء في الجسم السياسي العفن و الهزيل لتميعه أكثر و تقوض بتناقضاتها و سوء أدائها و ضعف عطائها، الخيارَ الديمقراطي السامي.

 

و إذا كان من حق المواطنين كذلك أن يتعاطوا السياسية مناضلين منظرين و قادة بخلق أو داخل أطر مناسبة للإسهام في ترسيخ الديمقراطية و نشر مفاهيمها و قيمها، و المشاركة في تصور و تقديم الحلول المنطقية و المبتكرة لقضايا الوطن الكبرى و هموم المواطن كلها و مشاكل تنمية البلد و قضايا و نشر العدالة في توزيع خيراته و إحلال المساواة و تقوية أواصر اللحمة و الحفاظ على الوحدة، فإنه من حق الدولة كذلك إدراك مخاطر تمييع الحقل السياسي الذي تقع على فاعليه مسؤولية النجاح و الفشل،  وتحديد و وضع الآليات المناسبة المستقلة عموديا، للحفاظ عليه من الميوعة و الاستسهال المدمر، و أفقيا إقرار و تفعيل القواعد الثابتة لتنظيمه حتى يتم ترسيخ و احترام قواعد العمل في المجال السياسي و الالتزام و التقيد باشتراطات التي في أولها القدرة على صنع الخطاب المبني بنيانا مكينا و الحامل مقومات الحفاظ على كيان الوطن و ثوابته و توجيه مساره إلى الرقي و التوازن.

 

و لا ريب في أن التعاطي السياسي في موريتانيا ما زال مشوبا بعلة العجز عن صنع الخطاب المتماسك و المقنع و القادر على حمل سمات التغيير و عوامل البناء على خلفية غياب المؤهلين المسلحين بالمعارف و المميزين بالخطابة و الحصافة و الحس الوطني المرهف و القدرة على صياغة البرامج الواعدة و الكاريزما اللازمة لاتخاذ القرارات و فرض نهج العمل البناء.

 

فالجسم السياسي يكاد يكون شبه خالي من خريجي المدارس العليا في العلوم السياسية و الاجتماعية و الحقوقية و الاقتصادية، و من المنظرين الثاقبي الرؤية التحليلية و التخطيطية و كأن الانخراط في ميدان السياسة و خوض غمارها يحط من شأنهم و يهز مكانتهم العلمية الرفيعة. و الحقيقة أن العكس هو الصحيح و أن تركهم حقل السياسة لغيرهم من الادعائيين و الغوغائيين جريمة لا تغتفر في حق الوطن و نذير شؤم لمستقبله الذي ليس سوى حاضر لم يأت بعد. و إنهم لقليلون هم الأشخاص من أصحاب الرؤى الاقتصادية و الحقوقية الذين يهتمون بالشأن السياسي في البلد حتى كان لغيابهم وقع سلبي على مجمل تصور مسار الدولة إلى حيز الرسوخ و الاعتدال و الديمومة.

 

و إذا كان المحامون من بين كل الطبقة المتفقهة قد لعبوا في السابق و يفعلون في الحاضر أدواراً سياسية عديدة ومتنوعة على درجة كبيرة من الأهمية في تقاسم على جميع أحزاب ومؤسسات النظم السياسية العالمية الحديثة، أدوار بارزة لا تخطئها العين في الميدان السياسي.  و أما مرد ذلك فعائد بالأساس إلى أن طبيعة مهنة المحاماة وما تتطلبه من خبرات ومهارات قانونية وقدرات على الخطابة والنقاش تعتبر ضرورية للحياة البرلمانية، و كذلك ما يترجمه من بين عوامل أخرى على أرض الواقع طموحُ بعض المحامين السياسي والمهني و اهتمامهم البالغ بالشأن العمومي.

 

وقد ثبت هذا الأمر في التجربة الموريتانية منذ بداية التعاطي السياسي و النضال داخل الأطر الحزبية بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى غاية الإعلان عن الاستقلال في 28 نوفمبر من العام 1960 مع شخصية الأستاذ المختار ولد داداه الذي درس الحقوق واشتغل بالمحاماة من أجل العمل السياسي والمطالبة بالاستقلال حتى توج بتوليه زمام رئاسة الدولة الموريتانية الناشئة.

 

و إن المتتبع لمجريات الشأن السياسي العالمي لا بد أ ن يقف على حقيقة أن مهنة المحاماة من أكثر المهن اختلاطاً بالشأن السياسي، الأمر الذي يمثّل بدوره المكوّن الرئيسي في التطوّر التاريخي داخل أي مجتمع. و عليه فإن تاريخ هذه المهنة لا يمكن أن ينعزل أو يفصل عن مسار الأحداث السياسية حتى بات زاوية نظر ذات خصوصية قصوى لفهم أية مرحلة. و يلعب المحامون السياسيون دورا لا يستهان به في الحفاظ على سلامة النصوص الدستورية و حماية قوتها من التمييع و التحريف و التجاوز بفضل تمكنهم من القانون و نظمه التطبيقيه. و هو الأمر الذي تحسب له كل النظم حسابات كبيرة و يساعدها على اتباع نهج الديمقراطية السليم و القويم.

 

و لكن الأمر لا ينطبق على موريتانيا حيث اهتمام المحامين ـ المنصب بالأساس على جمع الأموال من وراء القضايا الكبرى في عالم المال و العقار و الاتجار في بالممنوعات و صفقات نهب المال العام ـ ضعيف باتجاه السياسة شيئا ما، و أما ما سُجل منه منذ الاستقلال إلى اليوم مبرر جله لا يتجاوز التعبير عن التذمر و ردة فعل على اهتزاز المصالح الفردية تحت ظل نظام ما. يضاف إلى كل هذا أن المستوى السياسي الذي يبين عنه أغلب أفراد هذا الجسم إنما تعكسه مرآة ضعف الوعي بهم الوطن و هبوط المستوى المهني الذي يتجلى في تدني الخطابة و هزال المرافعات و شح القضايا السمينة و سطوة الماضوية بكل أوجهها السلبية على العقل الباطني بمقتضى تخلف العقليات البين عن ركب التمدن و العولمة على الرغم من المعارف النظرية الجمة و الادعائية المفرطة.