على مدار الساعة

عندما يُدار قطاع الزراعة بعقلية بائع خام الحديد

22 يونيو, 2017 - 02:31
المهندس: الهيبة سيد الخير

يشمل قطاع الزراعة بمفهومه الواسع وقطاعاته الرديفة أربع وزرات هي: الزراعة والبيطرة والصيد البحري والبيئة والتنمية المستدامة، ويتميز هذا القطب بكونه يضم قطاعات حيوية مستدامة وحساسة وهشة، فهي تضم كائنات حية وتتأثر بعوامل طبيعية يصعب التحكم فيها، مما يتطلب موديلات تدبير معقدة، كما أنها ذات بنية اقتصادية متشابهة من حيث درجة تثمين منتجاتها، ومستوى حرفية العاملين فيها، وأثرها وإسهامها في الاقتصاد الوطني.

 

يكتسي هذا القطب أهمية قصوى بالنسبة لكل بلدان العالم، فهو أحد ركائز التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، كما أنه صمام أمان ضد التقلبات الاقتصادية والاجتماعية والأزمات السياسية، بالإضافة إلى أنه أحد الركائز الهامة للتنمية الصناعية.

 

يساهم هذا القطب بحوالي ربع الناتج الوطني الداخلي، ويلعب دورا هاما في محاربة الفقر، وتمكين الشرائح الهشة، مما يجعله نظريا على الأقل الرافعة الرئيسية في الجهد الحكومي ويمكن لهذا القطب أن يحقق تنمية مستدامة ومتوازنة وعادلة ومنصفة، كما يُعد قطاعا ضامنا لاستمرارية النمو الاقتصادي، باعتبار أنه يتميز باستقرار نسبي إذا ما قورن مثلا بقطاع الصناعات الاستخراجية، لأن منتجاته لا تعرف الكساد.

 

يعد الاستثمار في هذا القطب أحد الضمانات الرئيسية للتوزيع العادل والمنصف للثروة، حيث يمكن وصفه بمظلة الفقراء والمهمشين في المجتمع، فظلاله الوافرة تقي من الحرارة المهيجة للمطالبات الاجتماعية العنيفة، وهو أفضل وأنجع ساعي بريد قادر علي الوصول الي الفقراء بما يضمن حقهم وكرامتهم.

 

سعت كل دول العالم لإعطائه العناية الخاصة فتم استثناؤه من الكثير من القوانين التجارية، كما تم منحه العديد من الامتيازات والتفضيلات، ويمكن لمس تلك العناية في فرنسا وأسبانيا والأرجنتين والسنغال والإمارات والمغرب ومالي... الخ.

 

ماذا عن موريتانيا؟

لم تعرف السياسات العمومية في هذا المجال انسجاما ورؤية واضحة للاستفادة من المزايا والفرص الكبيرة التي يمكن أن يوفرها هذا القطب لبلادنا، وإن كانت هنالك استثناءات في عقد الثمانينات من القرن الماضي في قطاعي الزراعة المروية والصيد البحري.

 

تعيش قطاعات هذا القطب اليوم شللا وضعفا وتخبطا، انعكس على ادائها، فأصبحت في طي النسيان بالرغم من أن السياسة الحكومية العامة تنطلق من قاعدة محاربة الفقر، فيما يُعد تناقضا بينا، فمن يريد محاربة الفقر فلا يمكن أن يهمل هذا القطب.

 

عند النظر في السياسات المتبعة كتعطيل القرض الزراعي، وإنهاء عمليات شراء الأرز، وفوضي النسيج التعاوني، والاستثمارات الفاشلة التي هدرت الأموال العمومية الموجهة لهذا القطب كمصنع البان النعمة، ومشروع زراعة السُكر، ومصانع انتاج الأعلاف، والاستصلاحات الزراعية الفاشلة كبوكمون وايرمبار وقناة لمصيدي، يمكن استنتاج أن المشكلة تكمن في ضعف التخطيط المركزي وعدم حرفية القائمين عليه.

 

أسباب ضعف التخطيط

أعتقد أن القائمين على التخطيط المركزي في جلهم قادمون من قطاع الصناعات الاستخراجية، ومن شركة اسنيم تحديدا وبالرغم من كفاءتهم العالية، إلا أنهم لا يملكون المهارات الضرورية لبناء مشاريع مندمجة تتداخل فيها الأبعاد الاجتماعية والبيئية والعوامل الطبيعية.

 

إن ضعف وسلبية إدارات التخطيط في الوزارات المعنية، وعدم اختصاص وحرفية جهات التخطيط العليا، شكل كارثة أدت لأخطاء جسيمة يصعب تفسيرها في الوزارات الأربع، وسنذكر أمثلة تبين ذلك:

 

وزارة الزراعة: فضيحة زراعة القمح والبطاطا

تبنت الوزارة برنامجا وطنيا لزراعة القمح دون ان تملك أصنافا تتلاءم مع بلادنا، ودون أن تكون هنالك سابقة لزراعته في شبه المنطقة، ودون أن تكون هنالك أراض لزراعته فهو سيزرع على أراض مخصصة لزراعة الأرز!، ودون أن تكون لدى الفلاحين المهارات الضرورية والأهم من ذلك عدم التدرج في عملية الادخال، والنتيجة كانت كارثية وينطبق ذات الشيء على البطاطا في مزرعة كنكوصة، إن تنفيذ هذا البرنامج لا يمكن أن يتم في بلد له إدارة تخطيط مركزي أو إدارت فنية، اللهم إن كانوا تحت تأثير تخدير ما.

 

وزارة البيطرة: فضيحة مصنع ألبان النعمة

قام الهنود بطلب من بلادنا بتمويل وبناء مصنع بطاقة 30 طنا يوميا، وعندما سلموه، بدأت الوزارة في التفكير في كيفية توفير الحليب له، ولا زالت تفكر إلى اليوم، هل يُعقل أن يحدث هذا الأمر في بلد يحوي إدارة تخطيط واحدة!؟.

 

وزارة البيئة والتنمية المستدامة: فضيحة عدم احترام بنود الاتفاقيات الناظمة لحوض آركين

حوض آركين محمية بيئية عالمية حسب معاهدة رامسار واتفاقية اليونسكو التي تصنفها إرثا طبيعيا عالميا، بالإضافة إلى أنها هدية لقمة الأرض، وبالرغم من أن بلادنا وقعت طواعية على تلك المعاهدات، إلا أنها بدأت في عدم احترام بنودها، مما دفع اليونسكو إلى إرسال 18 ملاحظة، الأمر الذي اضطر الحكومة إلى إنشاء لجنة من عدة وزارات وبرئاسة معالي الوزير الأول لتدارك تلك الأخطاء، وحشد العرب والأصدقاء لدعم بلادنا في الجمعية العمومية لليونسكو، ولازالت المشكلة مطروحة وسيبت فيها عام 2018، يصعب فهم عدم احترام السلطات العمومية لبنود اتفاقية وقعتها طواعية، لكن ضعف التخطيط المركزي وسلبية الإدارات الفنية سبب لنا هذا الحرج الكبير الذي كنا في غني عنه.

 

وزارة الصيد والاقتصاد البحري: فضيحة طرد الصيادين الأجانب

عكس القرار السيادي القاضي بطرد الصيادين الأجانب ما يلي:

- عدم دقة الأرقام والبيانات التي بحوزة القطاع.

- فشل منظومة التكوين على مدى عقدين من الزمن.

- قلة كفاءة وحرفية المسؤول عن اتخاذ القرار.

- ضعف النسيج التعاوني وعدم تمثيله الحقيقي للعاملين في القطاع.

 

لم يكن هذا القرار ليتخذ بشكله الحالي، لو أن إدارة التخطيط المركزي كانت بالكفاءة المطلوبة، مما سبب إرباكا شديدا للقطاع، وإفلاس العديد من الفاعلين الصغار، ناهيك عن تداعياته السلبية العديدة الأخرى.

 

وحدة تخطيط مركزية هي الحل

إن تشابه القطاعات المذكورة آنفا من حيث ارتباطها الكبير بالعوامل الطبيعية والاجتماعية ودرجة نضج العاملين فيها، وتماثل أدوارها الاقتصادية والاجتماعية، ومحاربتها للفقر والتهميش، وقدرتها على التوزيع العادل للثروة، بالإضافة إلي وجود معارف تقليدية لدى السكان بها، يجعل منها قطبا خاصا يحتاج إلى وحدة تخطيط مركزية مشتركة، قادرة على الاستجابة لخصوصيتها، مما سيركز الجهود الوطنية ويرفع من كفاءة إدارة المشاريع الاستثمارية المنجزة ويضمن نجاحها.

 

إن النكسات الماضية يجب أن تكون المحفز لا جراء جرد حساب، وتحديد الخلل، واتخاذ اللازم، وسيكون كل ذلك طبعا بعد التوقف عن إدارة هذا القطب بعقلية بائع خام الحديد.