على مدار الساعة

وإذا أصيب القوم في أخلاقهم

19 يوليو, 2017 - 09:22
أ. د. أحمدو عبد الدائم انداه -  كلية الحقوق، محام لدي المحاكم

لا يمكن لأي حضارة أن تقوم دون سند أو رصيد من قيم وأخلاق.. ولا يمكن أن تنال أمة عزة أو شرفاً أو مكانة إلا إذا كان حظها ونصيبها من الأخلاق عظيماً... فالخلق الحسن أحد مراكب النجاة (جعفر الصادق).

 

وقد كان قدوتنا، النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، على الذروة في مكارم الأخلاق... ولا عجب فى ذلك فقد مدحه المولى بقوله جل من قائل: {وإنك لعلى خلق عظيم}... وقال عن نفسه: {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}...

 

ولذلك كان وفاؤه، صلى الله عليه وسلم، بالعهود والعقود، مصداقا لقوله تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} (النحل: 91)، وقوله: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} (الإسراء: 34)، وقوله: {يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود} (المائدة: 1)…

 

وقد تجلى ذلك فى حياته كلها، مع أهل بيته وأصحابه… حتى مع أعدائه... فقد عقد صلى الله عليه سلم صلحا تاريخيا، هو "صلح الحديبية"، مع قريش في العام السادس للهجرة، وكان من بنوده أن من جاء من قريش مسلما ليلحق بالرسول فى المدينة فإنه يرد إلى مكة ثانية، ومن أراد أن يرتد من المسلمين فى المدينة ويعود إلى مكة لا يمنعه المسلمون من ذلك.

 

وقد رأى الصحابة فى هذا إجحافا شديدا، حتى إن عمر رضي الله عنه قال: "أو لسنا على الحق يا رسول الله؟ قال: بلى، قال عمر: فلِمَ نُعطى الدنية في ديننا"؟!

 

والتزاما بما تم الاتفاق عليه قام النبي، صلى الله عليه وسلم، بتسليم شابين مسلمين إلى أهلهما المشركين، ولما يجف المداد الذي كتبت به وثيقة الصلح، بالرغم من أنهما سيعودان إلى القهر والتعذيب على يد زبانية قريش...

 

وقد ذكر البخاري في صحيحه قصتهما؛ قصة أبى بصير (عتبة بن أسيد الزهري)، وقصة أبى جندل بن سهيل بن عمرو، وهذا الأخير هو الذي أبرم وثيقة الصلح مع النبي، صلى الله عليه وسلم، نيابة عن قريش، وليس من العجيب أنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، حين احتك بالرسول صلي الله عليه وسلم، إعدادا وتحضيرا لتلك الوثيقة.

 

في قصة أبى بصير دروس وعظات وعبر... إذ بعد أن تسلمه حارسان من قريش ليعيداه ـ مقيداً ـ إلى مكة، احتال على أحدهما ليعطيه سيفه، فلما أخذه هوى به عليه فقتله، وانطلق يطارد الآخر الذي فر هاربا إلى المدينة... حين وصلها أبو بصير، دخل على النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو فى المسجد، وقص عليه ما حدث.. ثم قال: يا رسول الله، وفت ذمتك وأدى الله عنك... أسلمتني بيد القوم، وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه أو يعبث بي... فلم يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم، على العودة إلى مكة، لكنه لم يسمح له بالبقاء والإقامة فى المدينة، حيث يناقض ذلك اتفاقية "الحديبية"، وقال له: "اذهب حيث شئت"، [السيرة الحلبية ج: 2، ص: 151].. ولما طلب أبو بصير من النبي، صلى الله عليه وسلم، اعتبار سَلَب الحارس المشرك المقتول وبعيره غنيمة حرب، فيخمسها كما تخمس الغنائم، رفض النبى، صلى الله عليه وسلم، ذلك وقال: "شانك بسلب صاحبك".. ثم أردف قائلا: "ويل أمه، مسعر حرب لو كان معه رجال" [تاريخ الطبري ج: 2، ص: 639].

 

هذا أمثلة من السيرة المطهرة، تحتذى، نسوقها لكل من يتولى قيادة أمة أو حزب... في ظرف يتنكر فيه لمبادئ التوحيد... وتضيع سنته صلي الله عليه وسلم...

 

فالنبي صلى الله عليه وسلم، كان حريصا على أن يضرب المثل والقدوة فى الالتزام بالعهود، حتى فى أشد المواقف حرجا، إلا أن ينقض الطرف الآخر عهده... ثم هو ينأى بنفسه، وبمن معه من المسلمين، أن يكونوا موضع شبهة بالنسبة للاتفاقية المبرمة بينه وبين أعدائه... كما أنه، صلى الله عليه وسلم، لم يجامل أحدا من أتباعه على حسابها، رغم شروطها المجحفة... وهكذا يجب أن تكون القيادة...والتعاطي مع العهود والمواثيق...

 

إنه من الضروري والحتمي أن يسود خلق الالتزام بالعهود والمواثيق، لا باعتباره خيارًا من الخيارات... وإنما واجب لازم، وفريضة حتمية... إذ السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤه (ابن خلدون).

 

فحين يستهان بالعهود والموثيق، يضيع احترام القيادة والمؤسسة وتنعدم لثقة فيهما، وتتحلل الروابط بين الناس... فلا أحد يصدق أحدا، ولا استعداد للتفاهم أو التحاور أو التعاون مع الآخر... وبالتالي نجد أنفسنا أمام مجتمع مفكك، مشرذم، متصدع، بل متناحر أيضا... فيه يوزع الاستبداد الخوف والجوع واليأس...

 

مثل هذا المجتمع لا يمكن أن يستقيم له أمر، فضلا عن أن يشهد نهضة أو رقيا أو تقدما، وقد عبر شوقي عن ذلك في بيته المشهور:

 

وإذا أصيب القوم في أخلاقهم *** فأقم عليهم مأتما وعويلا