على مدار الساعة

ملاحظات هادئة على مسودة مشروع قانون يتعلق بمحاربة العنف ضد المرأة والفتاة 

2 أكتوبر, 2023 - 00:23
 الدكتور سيداب سيد عبد الله

تتداول هذه الأيام مسودة مشروع قانون يتعلق بمحاربة العنف ضد المرأة والفتاة استعاضة أو تحسينا لمشروع قانون تمت مواجهته ورفضه في نسخته الأولى، والثانية من طرف القوى والفعاليات السياسية والمجتمعية، فسحبته الحكومة، باعتباره مخالفا لمرجعية المجتمع وثوابته وقيمه في العديد من المقتضيات والأحكام، بل باعتباره تكريسا لقيم وفلسفة النوع الاجتماعي المعروف "بالجندر" وما يحمل من مفاهيم ملغومة، ودلالات خادشة، بخصوص العلاقات الاجتماعية والقيم التربوية والدينية للمجتمعات المسلمة.

 

إن أي ملاحظة على المسودة المتداولة لابد أن يتسم مقدمها بقدر من الحذر والتوجس بسبب عدم المصادقة عليه من طرف جهة الاختصاص المكلفة بتقديمه للبرلمان، فليس طبعا من المناسب التعليق على مشروع مازال قيد النقاش والتمحيص والمراجعة.

 

ومع ذلك، فالتعليق على المشروع المفترض يبقى مهما في ظل انتشار تداوله واحتدام النقاش حوله.

 

في هذه العجالة سنحاول أن نقدم ملاحظات، نستهلها بدواعي وموجهات تقديم مشروع كهذا، ثم استعراض ما على المشروع المتداول من ملاحظات سلبية، مساهمة في إنارة الرأي العام.

 

أولا: دواعي وموجهات عامة 
من الملفت في السنوات الأخيرة انتشار ظاهرة الاغتصاب، وانتهاك حرمات الله، وخدش الأعراض، وأنواع أخرى من الجرائم المستجدة بسبب الولوج المفتوح لفضاءات التواصل الاجتماعي، ومن الملفت كذلك شيوع التسيب، واستسهال الدوس على القيم والأخلاق المجتمعية.
وتعتبر المرأة والفتاة من أكثر ضحايا هذه الوقائع بحكم استسهال الاعتداء عليها وخدش كرامتها والمس من خصوصيتها، وممارسة العنف ضدها، وهي مبررات موضوعية لسن قانون متكامل موضوعيا وإجرائيا لحمايتها، قانون ينطلق من مرجعية مجتمعنا المسلم، ومن القيم والمثل العليا الإسلامية، قانون لا يجسد مرجعيات مغايرة وقيم غريبة في فلسفتها، ومنطلقها.

 

إن أي قانون لحماية المرأة والفتاة في هذه البلاد، وغيرها من البلدان المسلمة يجب أن تراعى عند سنه جملة من المحددات التي تخرجه من دائرة الاستنساخ والتقليد لمجتمعات مغايرة دينيا وقيميا وعاداتيا، حتى لا يكون مجسدا لفلسفة ومفاهيم النوع الاجتماعي " الجندر" سيئ الصيت، مشبوه الأهداف و هذه المحددات هي:

 

•    الحاجة التشريعية سدا للثغرات والنواقص الملاحظة في القوانين ذات الصلة، ولا أحد ينكر وجود العديد من الأحكام والترتيبات التي تحمي المرأة والفتاة في الأمر القانوني رقم 162/83 المتضمن القانون الجنائي، والأمر القانوني رقم 2005/015 المتضمن الحماية الجنائية للطفل، والقانون رقم 2018/024 المتضمن المدونة العامة لحماية الطفل، ومدونة الأحوال الشخصية، وفوق هذا كله الشريعة الإسلامية، لكن يبقى لوجود قانون خاص لحماية المرأة والفتاة وجاهته ومبرراته.
•    الانسجام مع المرجعية الإسلامية للمجتمع المستهدف بأحكام القانون في نصوصها القطعية، ومع ما تتيحه الشريعة من مرونة في التعاطي مع ما يستجد من أقضية، وفق الضوابط والمحددات الشرعية.  
•    مراعاة الموروث القيمي والعاداتي المنسجم مع هذه المرجعية حقيقة لا ادعاء.
•    الوفاء بالتزامات موريتانيا الدولية، في حدود المرجعية الإسلامية والهوية المجتمعية.
•    الابتعاد عن الترف التشريعي ومسايرة جهات ومنظمات نختلف معها في المرجعية والهوية.

 

 وفي أي مجتمع من مجتمعاتنا المسلمة يواجه المشرع معضلة جدية في تقديم أي مشروع بهذا الخصوص، بسبب حساسية المجال، واستهداف المنظومة المجتمعية الأسرية من طرف جهات خارجية، وبسبب وجود طرفين في المجتمع يغالي كل منهما في نظرته السلبية تجاه أحكام وترتيبات مشروع كهذا:
- طرف يدعي الحداثة والتنوير، علماني المرجعية، يرى وجاهة وضرورة سن قانون للنوع يعكس قيم وفلسفة مجتمعات أخرى متفلت من أي مرجعية دينية أو مجتمعية؛ 
- طرف متوجس ورافض وحساس تجاه كل ما يتعلق بالمرأة وحمايتها ومنحها الحقوق السياسية والاقتصادية، يراوح مكانه بخصوص مفاهيم عتيقة واكلاسيكية أقرب للمواضعات الاجتماعية والموروث الاجتماعي المغلق، منها للأحكام الإسلامية فلسفة وروحا.
وبين الطرفين الموصوفين سلفا، يوجد في الأمة طرف ثالث وسطي معتدل، يحترم المرأة ويدعو لحمايتها ومنحها حقوقها وفق أحكام الشريعة الإسلامية، ويرفض الاستلاب، واجترار القيم الوافدة الزائفة، فلا احترام للمرأة المسلمة وفق مقاسات الآخر، ففي الشريعة الاسلامية فلسفة وأحكاما ما يحمي المرأة والفتاة.

 

في ظل هذا الطرح المتنافر في الساحة الوطنية، وعدم فاعلية الطرف الثالث في النقاش، وعلى خلفية الحاجة الملحة لسن قانون يحمي المرأة من العنف استجابة لضرورات مجتمعية ووطنية، يتنزل مشروع القانون المتعلق بمحاربة العنف ضد المرأة والفتاة الذي يحتدم حوله النقاش هذه الأيام.

 

ثانيا: الملاحظات السلبية
إن أي قراءة متأنية لمشروع القانون المتعلق بمحاربة العنف ضد المرأة والفتاة ستفضي بداهة إلى الخروج بالعديد من الملاحظات السلبية، سواء على مستوى الشكل، أو على مستوى المضمون.

 

1: من حيث الشكل
لم يخل المشروع من بعض الهنات والضعف من خلال:

 

•    التسمية: مشروع القانون المتعلق بمحاربة العنف ضد المرأة والفتاة
أعتقد أن احتواء التسمية على مفهومي "المرأة" و " الفتاة" هو مجرد ترف في العنوان وتكلف لا مبرر له، بل ربما إبراز الفتاة في التسمية يستبطن خلفية تنتمي لفلسفة مغايرة، وتستجدي استعطافا خارجيا، والأرجح أنه استرضاء للحركة النسوية القائمة على فلسفة "الجندر"، وهو ما يجعل اقتصار التسمية على "مشروع القانون المتعلق بالعنف ضد النساء" أكثر وجاهة وسلاسة وإقناعا، وأدفع للتهمة.

 

•    الصياغة: اتسمت في عمومها بعدم الجزالة، وعدم الوضوح أحيانا، والركاكة في بعض الأحيان، مما يوحي بأثر الترجمة الحرفية. 
وعلى المستوى الإجرائي، رغم أهمية الجوانب الإجرائية في القانون، لم يخل من بعض التداخل والارتباك في القواعد الإجرائية، لكننا سنعرض صفحا عن تبيان ذلك لأنه ليس من اهتمامات الرأي العام، وليس معنيا به بالدرجة الأولى.

 

2: من حيث الموضوع
يبدو جليا لأول وهلة أن المشروع خطا خطوات معتبرة في اتجاه التحسن والملاءمة مع الخصوصية الوطنية، والفلسفة المرجعية، وقد يكون ذلك بسبب التحفظ والرفض الذي عانى منه سلفه، وبسبب التمحيص والمراجعة الشرعية من طرف متخصصين في المجال، لكنه رغم التحسن الكبير في الشكل والمضمون لم يخل من بعض الملاحظات السلبية الجديرة بالاستدراك والتمحيص، باعتبارها مثالب تؤثر على جودته وتمس من نصاعة أحكامه وانسجامها مع الشريعة الإسلامية، وردعيتها أحيانا، ومنها:

 

•    الملاحظة الجوهرية الأبرز في هذا المشروع تتعلق بعدم الامتثال للأحكام الشرعية المتعلقة بالقوامة وبسلطات التأديب والحضانة والرقابة الممنوحة للأبوين، ويفتح المجال ربما لزعزعة كيان الأسرة، وهي أمور خطيرة في مجتمع مسلم، ولا يمكن السكوت على قانون يمس منها أو يهددها، أحرى أن ينتهكها ويقضي عليها.

 

لكن ملاحظة هذه المثالب الخطرة في مشروع مازال قيد النقاش والدراسة والتمحيص، تجعل الأمل قائما في تجاوزها ومعالجتها، وإن حصل هذا فالقانون يبقى مهما ويسد ثغرة تشريعية قائمة، وتبدو الملاحظات السلبية أكثر وضوحا في:

 

•    المادة 2: 
جاءت المصطلحات أو التعريفات:
 " العنف ضد النساء بأنواعه المختلفة" عامة وفضفاضة، وغير مانعة، لإمكانية شمولها لما تخوله سلطة القوامة للزوج، ولما تمنحه سلطة التأديب والرقابة على الأبناء، فيجب تقييد هذا التعريف حتى ينسجم مع مقتضيات القوامة، وما تتيحه أحكام الشريعة من سلطات للأبوين في التأديب والحضانة والرقابة.

 

•    المادة 25 
  الفقرة الثانية " اللمس الجنسي المتكرر للمحارم محاولة للاغتصاب" فيها مبالغة وتنطوي على مخاطر، ويمكن أن تسبب الكثير من المشاكل.

 

•    المادة 26 
   العقوبات المقررة في هذه المادة لا تتناسب مع التحرش الموصوف فيها، فينبغي رفع حدي عقوبة التحرش باعتباره اعتداء جنسيا، وخدشا للحياء العام.

 

•    المادة 27 
    ليست ذات أهمية، ولا ضرورة لها، وتحظر فعلا عاداتيا عند بعض المجتمعات، ويعتبرونه جزءا من مقتضيات المحافظة على كرامة المرأة، وينبغي أن يرتبط تجريمه بوجود أضرار محققة، وتغني عنها أحكام المادة 12 من الأمر القانوني رقم 2005/015/ بتاريخ 5/12/2005 المتضمن الحماية الجنائية للطفل.

 

•    المادة 28 
   يجب تقييدها بعدم المس من سلطة القوامة، وسلطات الأب التأديبية.
    وقعت في تناقض ذاتي، بين الفقرة الأولى والثانية، فقد عاقبت الفقرة الأولى مرتكب جريمة احتجاز واختطاف المرأة أو الفتاة من طرف من تربطه بها علاقة زواج أو نسب بشهرين إلى ستة أشهر وغرامة من 5000 إلى 10000 أوقية أو بإحدى العقوبتين، وجاءت الفقرة الثانية لتعاقب المختطف صاحب علاقة الزواج أو النسب بعقوبة أخرى أشد، وهذا تناقض.

 جاءت عقوبة الاختطاف والاحتجاز في مشروع القانون المتداول أخف مما هي عليه في المادة 323 من القانون الجنائي، والطبيعي أن يكون المشروع أشد في عقوباته.

 

•    المادة 34 
  تجريم منع الحق في الميراث، كان الأولى أن تدمج في المادة 35، إلا إذا كان المقصود بالحقوق في المادة 35 الحقوق المحددة في المادة 10 من الدستور، والحقوق في الاتفاقيات والقوانين الدولية.

 

•    المادة 35 
   "معاقبة كل من يحرم امرأة أو فتاة من ممارسة الحقوق التي يكفلها القانون".
هذه المادة مفخخة، وتنطوي على مخاطر، وتضرب سلطة القوامة في الصميم، وتمس من سلطة التأديب والحضانة والرقابة للأبوين، فالحقوق التي يكفلها القانون إذا لم تقيد في هذا المشروع ستكون تهديدا حقيقيا للأسرة وإضعافا لكيانها، كما قد تعرض الآباء لمشاكل مع بناتهم، وهذا خطير، فممارسة الحقوق التي يخول القانون بدون تقييد في المجال الاجتماعي أمر غاية في الخطورة، فلابد من تقييد هذه المادة بعدم المساس بسلطة القوامة، والسلطات المخولة للأبوين بخصوص التأديب والحضانة والرقابة.

 

•    المادة 36 
  عاقبت هذه المادة كل من يتزوج أو يزوج فتاة قاصرة " أقل من 18 سنة" إخلالا بأحكام المادتين 6-7 من مدونة الأحوال الشخصية، وجاءت العقوبة أخف من تلك المقررة في المادة 17 من القانون رقم 2018/024 بتاريخ 21/6/2018 المتضمن المدونة العامة لحماية الطفل.

 

•    المادة 54
اشتراط الإذن المكتوب من الضحية أو وكيلها لتعهد الجمعيات ورابطات حقوق الإنسان غاية في الأهمية، ويجنب الكثير من الإثارة واللغط.

 

•    المادة 55
تحتاج مراجعة وتحديدا.
أما بقية مواد المشروع فلا أعتقد أن فيها ما يمس من الشريعة أو القيم المجتمعية، فالإيواء والاحتضان لا يكونان إلا بأمر قضائي، ولن يكون الأمر القضائي بهما إلا في حالة ملاحظة القاضي ضرورة ذلك.

 

وختـاما فالمشروع مهم، الحاجة إليه قائمة، ووجوب انسجامه مع الشريعة واجب، ومراعاته وفاء موريتانيا بالتزاماتها الدولية متفهم.

 

هذه بعض الملاحظات على مشروع القانون، نعتقد أن معالجتها تضمن وجود قانون متكامل وجيد في أحكامه، وسيوفر قدرا كبير من الحماية للمرأة مع الانسجام مع مقتضيات المرجعية الإسلامية، وخصوصية المجتمع الموريتاني، وإن بقي على حاله في نسخته المتداولة، فالأولى رفضه.