على مدار الساعة

ماهي دوافع هجرة الموريتانيين إلى الدول الغربية والتأثيرات المحتملة على آفاق التنمية الاقتصادية؟ (3/3)

7 ديسمبر, 2023 - 00:23
الدكتور احمد ولد سيدي محمد خبير في علم الأوبئة، وعضو هيئة تدريس جامعي، مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية

مررنا مرور الكرام فيما سبق بالعوامل التي ‏تدفع الوطن الموريتاني ‏بالهجرة إلى الخارج ‏ ‏كمحطة ‏في الطريق الذي يقودنا إلى وجهتنا ‏النهائية التي تتمثل في فهمي الأسباب التي ‏ ‏تقلل من رغبة ‏المغترب في العودة إلى بلده أو تقف حائلا دونها.

 

 ‏ووقوفنا في هذه المحطة كان ضروريا ‏ ‏لكي يتسنى لنا فهم ‏الصورة الكبرى للموضوع ‏بشكل يسمح لنا ‏بتقييم ‏‏أهمية هذه العوامل ‏ ‏كجزء ‏لا يتجزأ من الموضوع. و‏المحطة الثانية تتعلق بفهم الواقع الذي ‏يعيشه ‏هؤلاء ‏ ‏المهاجرون في بلادهم المضيفة. ‏وفي هذه المحطة، ‏سوف نرسم لوحة ‏لمستويات المداخيل المالية ‏باعتبارها الحافز الأول، ‏إضافة إلى ظروف العمل ‏والمحيط الاجتماعي ‏ ‏باعتبارهما ‏متغيرين ‏في معادلة الحياة اليومية يلعبان دورا ‏كبيرا في مستوى ‏الارتياح والسعادة. ‏فكلما كان ‏مستوى ارتياح المرء وسعادته عال ‏كلما صعب عليه ‏بذل أي جهد في سبيل تغييرها، ‏طالما يعتقد أن الحصيلة ‏الإجمالية لهذا التغير ‏سوف تكون سلبية. ‏فما هي ظروف الموريتانيين الذين يعيشون في الدول الغربية (مثل الولايات المتحدة)؟.

 

الغالبية العظمى من هذه الجالية ‏ ‏يزالون لأعمال الحرة ‏التي ‏تتيح لهم ‏مرونة كبيرة ‏في اختيار ساعات ومكان العمل، ‏السبب الآخر الذي يجعل هذه الأعمال مناسبة للمهاجرين ‏‏هي أنها تمكنهم ‏من اختيار عدد ‏ساعات ‏عملهم في اليوم أو الأسبوع حيث إن معظمها لا ‏يخضع ‏لقوانين حماية حقوق العمال. ‏

 

 ‏من ناحية أخرى، يفضل ‏الموريتانيون ‏هذه الأعمال ‏لأنها تريحهم ‏‏من تلقي ‏ وطاعته ‏أوامر المشرفين والمديرين ‏وتمنحهم استقلالية تقلل ‏من حلات ‏الخلافات والتوتر ‏التي قد تحدث نتيجة لأسباب شخصية أو ‏أخرى قد تنجم عن اختلاف العادات والتقاليد. ‏فنظام العامل في المطاعم والمؤسسات الصناعية ‏هو نظام مكثف ومرهق ‏يتطلب ‏كثيرا من الانضباط ‏والجدية خلال فترة العمل مما لا يسمح بدقيقة واحدة من التراخي أو ‏التكاسل، ‏إضافة إلى أنه لا يوفر عطلات سنوية طويلة. ‏إحدى الميزات الأخرى ‏لهذا النوع من الأشغال ‏هي أنها ‏لا تتطلب ‏مؤهلات تعليمية ‏مما يجعلها أكثر جاذبية للمهاجرين الذين لا يرغبون ‏ ‏في ‏الالتحاق بالجامعات ‏لمدة سنوات متعددة من التكوين والتدريب.

 

‏والغريب في الأمر أن بعض هذه الأعمال الحرة توفر ‏موارد مالية ‏مماثلة ‏لما ‏يتقاضاه بعض خريجي الجامعات ‏أو أكثر بعض الأحيان، ‏زيادة على ذلك فإن الأعمال الحرة ‏توفر ‏فرصة لتخفيض ‏مبالغ الضرائب ‏التي ‏يجب دفعها للسلطات المحلية والاتحادية ‏نتيجة للسياسات التي تشجع ‏الاستثمار في القطاع الخاص. 

 

‏ومن ناحية أخرى فإن هذه الأعمال لها جوانب سلبية ‏حيث ‏‏إن ‏مزاوليها ‏مسؤولون ‏عن شراء ‏التأمين الصحي ‏لهم ولأفراد عائلتهم ‏وحسابات ‏التقاعد وغيرها من الفوائد الأخرى التي توفر ‏الموظفين وعمال الشركات. ‏وأخيرا، أصحاب الأعمال الحرة ‏لا يتقاضون أجورا ‏أثناء عطلهم السنوية. ‏ 

 

‏وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الذين يزاولون هذه الأعمال ‏حاصلين على شهادات جامعية ‏في ‏مجالات مختلفة ‏تضم الصيدلة والطب البيطري ‏والاقتصاد والقانون والتعليم، ‏على سبيل المثال لا الحصر.  

 

‏و ‏على الرغم ‏من اختلاف طبيعة الأعمال ومستويات الدخل بين أفراد المجموعتين، ‏إلا أنهم يتقاسمون المعاناة من العيش في‏ ‏بيئة اجتماعية غير ملائمة‏ لعاداتنا وتقاليدنا، فمن الصحيح ‏أن الأفراد هنا يتمتعون بحرية كبيرة ‏في اختيار ‏نمط الحياة ‏المفضل لديهم ‏لكن الأجواء العامة تسيطر عليها التقاليد والأعراف الغربية، ‏فيمكن للفرد ‏أو ‏الأسرة تحويل ‏المنزل ‏الذي يسكنونه إلى منزل موريتاني ‏لكن ذلك‏ لن يتعدى عتبة الباب بشبر واحد. ‏هذا الواقع قد لا يهتم به البعض لكن ‏له أبعادا عميقة خصوصا فيما يتعلق بتربيت ‏لأطفال ‏في هذا المناخ. 

 

‏فمما لا جدال فيه ‏أن الأطفال ‏ ‏يعتمدون بالدرجة الأولى ‏في تكوين ‏انطباعاتهم ومعرفتهم ومعتقداتهم وحتى عواطفهم على محيطيهم ‏الواسع الذي لا تمثل عائلاتهم منه إلا جزء صغير، فلهذه الأسباب ‏قد يجد الأطفال صعوبة في اكتساب لغة ‏أبويهم ‏وعادات وتقاليد مجتمعهم الأصلي، ‏بل أكثر من ذلك، ‏قد يمتد تأثير المحيط الاجتماعي ليشمل ‏الكبار خصوصا بعد فترة إقامة طويلة ‏في مناطق منعزلة ‏عن باقي أفراد الجالية.

 

 ‏الملاحظة الأخرى التي تؤثر على المجموعتين هي غلاء ‏تكلفة المعيشة في هذه الدول والتي قد تغيب عن الذين يفكرون في الهجرة عندما يقومون بحساباتهم النظرية، ‏يجب ألا ننسى أيضا ‏أن تكاليف السكن ومقومات المعيشة الأخرى في الغرب أيضا تكلف ‏أضعافا مضاعفة بالمقارنة.

 

الحقيقة الأخرى التي لا ‏جدال فيها، ‏هي أن الغريب يظل غريبا ‏مهما طال به المقام، ‏فجميعنا ‏لا زلنا نتذكر ‏تعهدات الرئيس الأمريكي السابق بمنع جميع المسلمين من دخول الولايات المتحدة. ‏تعهدات قد نهملها متذرعين‏ ‏بأنها رأي رجل واحد فقط، ‏لكن الحقيقة أن شريحة كبيرة من المجتمع ‏كانت (ولا زالت) تؤيد هذا الرأي. وربما تم عزل الرئيس السابق ‏ ‏وترحيله ‏من البيت الأبيض لكن نفس المشاعر لم تتغير ‏بل بقت ‏في قلوب ‏و‏أذهان عشرات الملايين. 

 

‏فقد يكون المقيم في ‏ولايات المتحدة يتمتع بدرجة كبيرة ‏من الأمان ‏لأن النظام السائد ‏يضمن حماية الفرد وممتلكاته، ‏لكنه من الواضح ‏ أن العرب والمسلمين غير ‏مرغوب فيهم ‏بنفس الدرجة ‏التي ‏يحظى بها‏ ذوو الأصول الأوروبية ‏والديانتين المسيحية واليهودية. ففي نفس الوقت الذي كانت إدارة الرئيس الأمريكي السابق تحاول بشتى الطرق ‏منع جميع المسلمين من دخول الولايات المتحدة، ‏فتحت ‏الإدارة الحالية ‏الباب على مصراعيه لجميع الأوكرانيين ‏ومنحتهم حقوقا أفضل مما يتمتع به بعض المواطنين الأمريكيين أنفسهم. ‏ ‏

 

وهنا أريد أن ‏أسجل للأمانة، ‏أن هذه المواقف والمشاعر لا يمكن أن تعمم على جميع الأمريكيين. ‏هذه سياسات ‏تبنتها الحكومة أو حاولت سنها من أجل أن تنال تأييد بعض شرائح المجتمع ‏بينما عارضها الكثيرون ‏ووفقوا ضدها جهرا وعلانية. ‏كل هذا يقودنا إلى السؤال الثاني السؤال ‏الذي أشرنا إليه في الجزء السابق: ‏لماذا لا يعود الموريتانيون ‏المقيمون في الدول الغربية إلى وطنهم الأم؟ ‏هل ينطبق علينا المثل الذي يقول إن "الكلب ما يروم ما هو خناقو"؟

 

جواب هذا السؤال ‏سهل لدرجة مدهشة، ‏ويمكن اختصاره بأنه مقارنة بين التكلفة والفوائد المتوقعة ‏في الحالة الافتراضية‫ ‏لتطبيق هذا القرار أو القرار الآخر.

 

 ‏لكن ‏الأمر يبدأ يزداد تعقيدا إذا تفحصها ‏‏التقديرات التي تعتبر في إجراء هذه الحسابات ‏بطريقة مفصلة، ‏‏فالأب ‏أو الأم ‏قد ‏تثمن ‏تربية أطفالها الصغار في المجتمع الموريتاني رغم ما قد يكلفها ذلك من خسارة ‏دخل ‏كانت ‏ستكسبه ‏لو بقت في الولايات المتحدة. ‏لكن ‏الأمر ‏قد يكون مختلفا من وجهة نظر فرد ليس لديه أطفال مما يجعله ‏يثمن فرصة البقاء ‏وكسب المزيد من المال بدلا من العودة. ‏ 

 

‏هذه الحسابات ‏أيضا قد تأخذ بعين الاعتبار مدى حاجة عائلة الفرد في موريتانيا يما فيها الأبوان والأشقاء وغيرهم. ‏وكل ما زادت حاجة ‏الفرد ‏ومحيطه العائلي ‏كلما كان أكثر استعدادا ‏للتضحية برغبته الشخصية في سبيل سد حاجات ذويه. 

 

‏هذه ‏دوافع ‏قد تختلف من فرد إلى آخر ولا يمكن تعميمها، ‏لكن دعنا نفترض أن رغبة الشخص ‏في العودة كانت أكبر من رغبته في البقاء. ‏في هذه الحالة، هناك سؤال واحد ستكون ‏لإجابته دور حاسم في اتخاذ قرار العودة أو البقاء، هذا السؤال هو ما هي ‏فرص العمل المتاحة لي هناك ‏والتي تمكنني من مزاولة المهنة أو الحرفة أو الخبرة التي ‏اكتسبتها أثناء غيابي؟.

 

هذا السؤال ‏ليس له جواب واحدة وإنما له جوابان ‏اثنان -مثل المعادلة الرياضية من الدرجة الثانية- ‏ليس لأي منهما علاقة بمدى الخبرة أو الكفاءة. ‏الجواب الأول هو أن جميع فرص العمل متوفرة، ‏على شرط أن تكون لديك واسطة قوية أو تكون مستعدا لدفع رشوة كبيرة، ‏أما ‏ ‏الجواب الثاني ‏فهو أن‏ ‏فرص العمل تكاد تكون معدومة ‏إذا كانت وسيلتك الوحيدة هي الكفاءة والخبرة. 

 

أنا على يقين أن البعض‏ ‏سوف يتهمني بالمبالغة مضيفين ‏أن البلاد قد ‏شهدت تحسنا ملحوظا ‏في تبني واتباع المعايير الإدارية السليمة ‏بكل شفافية ونزاهة ‏خلال السنوات العشرين التي قضيتها في ‏المهجر. ‏والحقيقة هي أن العلم عند الله ‏وقد تكون البلاد تحسنت بشكل ‏فعلي ‏وقد يكون اختيار الموظفين الآن يتم على حسب القدرات والكفاءة. 

 

‏لكن ماذا لو قلت لك إنني خبير في علم الأوبئة حاصل على شهادة الماجستير من جامعة لندن في المملكة المتحدة وشهادة الدكتوراه من جامعة برديو (Purdue) ‏ في الولايات المتحدة، ‏أعمل في مركز أبحاث وعضو هيئة تدريس جامعي منذ أكثر من عشر سنوات؛ ‏اتصلت بأحد المسؤولين في التعليم العالي والبحث العلمي في موريتانيا مؤخرا ‏لأستفهم ‏عن إمكانية ‏‏المشاركة ‏ ‏في نشاطات ‏التدريس والبحث العلمي ‏وكل ما لقيته كان الإهمال ‏التام، ‏ليس ذلك فقط، ‏بل كانت هذه المرة الثانية التي حاولت فيها الاتصال بمسؤولي التعليم العالي والبحث العلمي ‏دون أي جدوى. وللأمانة، ‏فلقد كانت المرة الأولى مختلفة حيث استقبلني مدير المؤسسة ‏بترحيب ‏حين زرته في مكتبية، ‏ثم تلقيت ‏رسالة ‏عبر البريد الإلكتروني من نفس المدير بعد عام من لقائنا ‏اعتذر فيها ‏عن ‏عدم ‏المواصلة ‏نتيجة للانشغال. ‏القاسم المشترك بين هاتين الحالتين ‏هو أن ‏اتصالي كان اتصالا مباشرا ‏دون استخدام أي ‏وسيط أو ‏مصدر ‏نفوذ ‏ وكان ذلك عن قصد ووعي تام. 

 

‏لقد‏ ‏ترسخت في ذهني خلال 20 سنة من الإقامة في الولايات المتحدة‏ ‏مبادئ اتباع النظام والشفافية والمساواة ‏التي هي في الحقيقة مبادئ حث عليها ديننا الحنيف ونحن أولى باتباعها.  ‏مبادئ صممت على اقتناعها ‏مهما كلف الثمن ‏ولحسن حظي ليس هناك ما يجبرني على التخلي عنها ‏حيث إنني ‏جد مرتاح في وظيفتي الحالية وأتمتع ‏بثقة واحترام زملائي. ‏ورغم ذلك أرغب بصدق ‏في خدمة ‏بلدي وأهلي قدر المستطاع ‏ولكن في نفس الوقت أرفض رفضا باتا المشاركة في مظاهر الفساد الإداري والمحسوبية. 

 

‏السبب الثاني والأهم لامتناعي عن ممارسة الوساطة والرشوة ‏هو أنه كما يقول المثل "كما تدين تدان" ولا أريد أن أجد نفسي في وضع لا أحسد فيه. ‏ليس فقط لأنها أفعال مشينة ‏ولكن أيضا لأن ‏هؤلاء الخبراء يهمني كونها استقلاليتهم ‏وحريتهم الفكرية ‏أكثر من أي شيء. ‏فمصداقية ‏هؤلاء الخبراء وثقة العالم ‏في ما ينشرونه ‏من نتائج بحوثهم العلمية ووجهات نظرهم المهنية ‏كلها تعتمد على مبدأ استقلاليتهم وعدم ‏ الضغط عليهم أو توجيههم ‏من أصحاب السلطة وذوي النفوذ. ففي اللحظة ‏التي يفقد فيها خبير ‏استقلاليته الفكرية ‏لأنه مدين لشخص بجميل ‏أو استسلم ‏لمغريات ‏كسب المال أو غير ذلك فإنه يصبح اقل ‏من الحمار الذي يحمل أسفارا.

 

‏السبب الذي جعلني أروى هذه الواقعة ‏ليس من أجل إثارة الجدل أو حتى ‏ ‏جذب الانتباه ‏إلى نفسي ‏ ‏فقد بقيت بعيدا عن الأضواء ‏ومجهولا تماما في موريتانيا ‏‏طيلة حياتي و مازلت جد سعيد أن أبقى كذلك.‏ ‏لكن هدفي هنا هو أن أوضح أن أكبر العوائق التي تقف ‏عثرة ‏في طريق عودة ‏الموريتانيين إلى وطنهم هي تفشي الفساد الإداري بمظاهره المتنوعة، ‏الفساد الإداري الذي أعنيه هنا لا يتوقف فقط على التشغيل والتوظيف ‏بل يمتد إلى العدالة في حل ‏المنازعات ‏وتوفير الأمن وحماية الممتلكات ورفع الظلم. ‏فهذه بالتحديد هي الميزات التي ‏ترجح كفة الميزان في صالح ‏ التغرب ‏وتحمل ما ينتج عن ذلك من معاناة وإهانة. ‏

 

هذه ‏ميزات ‏تخدم مصالح جميع المغتربين ‏على اختلاف مستوياتهم التعليمية‏ وأرصدة حساباتهم المصرفية، ‏كما تخدم مصالح المواطنين المحليين، ‏مميزات كانت كافية‏ ‏لتجعلنا نفضل أن نعيش غرباء وهي أكبر محفز يشجعنا علي العودة لو توفرت في وطننا ‏ ‏الذي نحن جزء لا يتجزأ منه ‏ونشتاق إلى كل من فيه وكل ما فيه.