على مدار الساعة

نظارة صديقي الحارس..

19 أغسطس, 2017 - 21:41
أحمد ولد إسلم Ahmed3112@hotmail.com

كانت الساعة العاشرة وسبع عشرة دقيقة، درجة الحرارة حسب تطبيق الطقس في الهاتف تشير إلى 42 درجة مئوية، والرطوبة تبلغ 74%، وكان يستظل بما تبقى من ظل حائط يتقلص بسرعة فائقة، ملابسه الرسمية ذات القميص الأبيض والسروال الأسود نظيفة وعلى مقاسه تماما.

 

 خلال الدقيقة التي استغرقها وجوده في مجال رؤيتي قبل الوصول إليه نزع نظاراته الطبية وأعادها مرتين، لم يكن ذلك ارتباكا بل محاولة منه لمقاومة حالة الضباب الكثيف الذي يغيم زجاج نظارة لا تبدو من النوع الجيد، - ولكنها على أي حال تناسب وجهه ذا الملامح الموريتانية التقليدية.

 

حين اقتربت منه نزع السماعة من أذنه ووقف مبادرا بالسلام علي، وقفة أسقطت الهاتف الذي كان في حجره فانفصل عن سماعته، وانبثق صوت المرحومة ديمي منت آب وهي تصدح بأغنيتها الخالدة "يا موريتان عليك أمبارك "الاستغلال"، أعاد الهاتف سريعا إلى جيبه موقفا الأغنية.

 

كان ذلك اللقاء الأول، لم أكن بحاجة إلى استفساره ولا هو احتاج ذلك، كلانا عرف الآخر من سحنته ومن النظرة الأولى، تحدثنا قليلا، وتواعدنا لقاء في المقهى بعد انتهاء دوامه.

 

التقينا مرات كثيرة بعد ذلك فعمله ضمن مجموعة الحراسة التابعة لشركة خاصة، يلزمه – لحسن الحظ- بتغيير موقعه كل ساعتين، وخلال ساعات العمل الثماني يمضي ست ساعات موزعة بين المداخل الرئيسية المجهزة بمكاتب مكيفة والساعتان الأخريان يكون فيهما مكلفا بحراسة جانب أحد الأستوديوهات الخارجية.

 

لاحظ انقطاعي فترة وحين التقينا حدثته أني كنت في البلد وأن بشائر الخريف لاحت في الأفق، تنهد بصوت مكتوم وقال بعفوية" يا سعدك أنت اللي خظت على (...) "، لا أريد ذكر اسم المكان تجنبا لإحراجه.

 

في لقاءاتنا المتعددة حدثني عن فقدان الأمل في الوطن، فشاب مثله تخرج من جامعة نواكشوط بشهادة الإجازة "الليسانس" في الاقتصاد، لا فرصة أمامه في العمل هناك، طرق كثيرا من الأبواب وسمع كثيرا من الوعود وحاول المشاركة في عدد من المسابقات الرسمية وغير الرسمية، ولكنه بلا سند.

 

في الشتاء الماضي سمع عن اكتتاب مجموعة من الحراس للعمل في قطر، تدبر مبلغا كبيرا من المال استدانة من معارفه لتأمين الحصول على الفرصة (تضمن من غير حصر مبلغ600 ألف أوقية يدفع نقدا للسماسرة لقبول الملف) ، جاء إلى الدوحة في رحلة طويلة كانت الأولى له بالطائرة.

 

اكتشف أن السماسرة الموريتانيين لم يكونوا صادقين أو على الأقل دقيقين في وصف الامتيازات والحالة العامة لتكاليف الحياة في قطر، اكتشف أن الراتب لا يتجاوز 1200 ريال قطري، وأن زجاجة الحليب بخمسة ريالات قطرية ووجبة في مطعم شعبي بخمسين ريالا، وأن الحلاقة في صالون رخيص تكلف ثلاثين ريالا، وأن الحد الأدنى لسيارة الأجرة عشرة ريالا ولا مشوار يكلف أقل من عشرين ريالا، وأن الخبز الفرنسي الذي يألف مظهره بريالين، وكيلوغرام الشاي الأخضر بأكثر من أربعين ريالا إن وجد.

 

علم أيضا أن عليه إجراء فحص طبي على حسابه بمائة ريال، وأن الاتصال بذويه لطمأنتهم يكلف ريالا ونصفا تقريبا للدقيقة ورداءة الشبكات الموريتانية تجعل أي اتصال لا ينجح في الغالب إلا في محاولة بعد الخامسة وكل محاولة تكلف دقيقة اتصال.

 

يحرص على ابتسامة دائمة ويذكرني – وربما يذكر نفسه بصوت عال- أن "الحر في ما مشى" وأنه صامد على هذه الحال، يتشارك غرفة لا توصف بالسعة مع أربعة من زملائه من جنسيات مختلفة، ويتعلم كل يوم كلمات من لهجات عربية أخرى، ويمني نفسه بيوم يتقدم فيه في وظيفته أو يحصل على وظيفة أخرى لا يكون وسيطها سمسارا موريتانيا.

 

في أحد الأيام العاصفة سقطت نظارته الطبية فانكسرت، يكلف إصلاحها خمسمائة ريال بالمتوسط،.. وكان ذلك في منتصف الشهر. 

 

 

* المقال يعتمد قصصا حقيقة تتضمن تشكيلا لحالات متعددة وليست حالة شخص واحد.