على مدار الساعة

ذِكْرُ الَشَرودِ من أدِلَةِ الاحتِفالِ بالمولودِ

1 ديسمبر, 2017 - 15:21
زين العابدين الحضرامي - z.hadrami@gmail.com

تشرئب أعناق المحبين لرسول الله صلي الله عليه وسلم إلى شهر الربيع الأول من كل عام، في زمان تشهد فيه الأمة أحلك أوقاتها من فتن وغلوٍ وعدو خارجي يغذي هذه ويتربص بها، وحين أشهدنا الله على زمان رسم فيه النبي وتم التطاول فيه عليه، وهو في حقيقته تطاول علينا نحن ومسبة لنا، أما النبي حاش لله فسماؤه ما طاولتها سماء، نسمع من بني جلدتنا من ما زال يتساءل من الموقف الشرعي من إحياء مولده صلى الله عليه وسلم.

 

والعجيب كل العجب هو أنه لا يسأل عن شيء من فتن الزمان ما عدى بدعة إحياء مولد النبي صلى الله عليه وسلم.

 

ولعل ما نشر مؤخرا عن شيخنا الجليل أبَّاه ولد عبد الله في استحسانه للاحتفال في هذا اليوم في غير إسراف أو محرم، وفي مدرسة أخرى تسجيل لشيخ آخرة صدَّاع بالحق هو الشيخ سيدي يحي يؤكد موقفه الشرعي بجواز الاحتفال بهذا وبل قد يصل إلى درجة الوجوب في هذا الزمان.

 

مع ذلك نجمل هنا أبرز من خاض في الموضوع من علماء المسلمين في الفريقين بين من يحلل ويجوز وبين من يراه بدعة، ويدخله في عموم لفظ الحديث الشريف إن كل بدعة ضلالة

 

فريق من لا يجوز عنده حتى من غير محرمات:

منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن الحاج المالكي [هو محمد بن عبد الله بن محمد المبدري المعروف بابن الحاج المتوفى سنة (641 هـ) انظر ترجمته في الأعلام للزركلى (7/110).] والفاكهاني [هو عمر بن أبي اليمن بن سالم اللخمي المالكي الشهير بتاج الدين الفاكهاني المتوفى سنة (734 هـ). انظر ترجمته في الديباج المذهب لابن فرحون (2/8082)].

 

رأي ابن تيمية:

ما يحدثه بعض الناس من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا بدعة لأنّ هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له، وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيرًا محضًا، أو راجحًا، لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منّا فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم منا وهم على الخير أحرص وإنما كمال متابعته وطاعته، واتباع أمره، وإحياء سنته باطنًا وظاهرًا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك، بالقلب واليد واللسان، فإن هذه طريق السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان) [اقتضاء الصراط المستقيم: ص: 254 - 295].

 

رأي ابن الحاج:

يقول ابن الحاج بعد أن تكلم عن المفاسد المصاحبة للاحتفال بالمولد كالطرب وغيرها: (وهذه المفاسد مركبة على فعل المولد إذا عمل بالسماع فإن خلا منه وعمل طعامًا فقط ونوى به المولد ودعا إليه الإخوان وسلم من كل ما تقدم ذكره فهو بدعة بنفس نيته فقط، إذ أنّ ذلك زيادة في الدين وليس من عمل السلف الماضيين، واتباع السلف أولى بل أوجب من أن يزيد من مخالفة ما كانوا عليه، لأنهم أشد الناس اتباعًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا له ولسنته صلى الله عليه وسلم ولهم قدم السبق في المبادرة إلى ذلك ولم ينقل عن أحد منهم أنّه نوى المولد، ونحن لهم تبع فيسعنا ما وسعهم) المدخل (2/10).

 

أما الفريق الثاني فديدنهم أنَّ المدار في ثبوت الحكم على وجود الدليل، فحيث وُجد ثبت الحكم سواء عمل به كل الصحابة أو بعضهم، وسواء عمل به الأئمة المجتهدون أم لم يفعلوا ولم يذكر أن أحدا من العلماء اشترط في الدليل أن يعمل به الصحابة والذين اتبعوهم بإحسان والأئمة المجتهدون، بل وضعوا قاعدة أن "الدليل متى استوفى الشروط المقررة لِقَبوله وجب الأخذ به".

 

إن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف تعبير عن الفرح والسرور بالمصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففي صحيح البخاري أنه قد رؤي أبو لهب بعد موته قد جوزي بتخفيف العذاب عنه يوم الاثنين بسبب إعتاقه ثويبة لما بشّرته بولادته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي ذلك يقول الحافظ شمس الدين محمد بن ناصر الدين الدمشقي

إذا كان هذا كافرا جاء ذمه *** وتبّت يداه في الجحيم مخلدا

أتى أنه في يوم الاثنين دائما *** يخفف عنه للسرور بأحمدا

فما الظن بالعبد الذي كان عمره *** بأحمد مسرورا ومات موّحدا

 

ثم إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعظم يوم مولده ويشكر الله تعالى فيه إذ رحم به كل موجود وكان يعبر عن ذلك التعظيم بالصيام كما جاء في الحديث عن أبي قتادة الأنصار رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئل عن صوم يوم الاثنين فقال: "ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ"، وهذا في معنى الاحتفال به سواء كان ذلك بصيام أو إطعام طعام أو اجتماع على ذكر أو صلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسماع شمائله الشريفة. كما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما أخرج البيهقي في السنن الكبرى: "عَقَّ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ" مع أن جده عبد المطلب قد ورد أنه عقَّ عنه في سابع ولادته والعقيقة لا تعاد مرة ثانية فيحمل ذلك أن الذي فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إظهار للشكر.

 

ثم أن الفرح به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر واجب بالقرآن لقول ربنا جل وعلا: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ}، والله جل جلاله أمرنا أن نفرح بالرحمة ورسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أعظم الرحمة مصداقا لقوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.

 

ثم إن ذكرى مولده الشريف تحثُّ على الصلاة والسلام المطلوبين في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}، وما كان يحث على المطلوب شرعا فهو مطلوب شرعا، فكم للصلاة على النبي وآله من فضل.

 

وفي ذلك ألف الشيخ الوالد سيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم كتابه "يسر الناظرين في فضل الصلاة على سيد المرسلين" ثم شرحه في كتابه "روضة النسرين" الذي اعتنى بطبعه ونشره الوالد سيد المختار ولد الحضرمي وعد فيه من الفضائل ما لا يتسع المقام لبسطه لكن لمن أراد أن يرتع في هذه الروضة فله أن يرجع إليها.

 

ثم إن الغالب على الناس في ذلك اليوم مدارسة شمائله ومعجزاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعرفة ذلك من كمال الإيمان به عليه الصلاة والسلام وزيادة المحبة والشوق إليه إذ الإنسان مجبول على حب الجميل ولا أجمل ولا أكمل ولا أفضل من أخلاقه وشمائله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

 

وكان النبي يجيز مديحه ويكافئه وكيف لا وشمائل الكمال البشري اجتمعت في الأنبياء وهو أفضلهم وسيد ولد آدم قاطبة ومن هنا نرد من كلام ابن تيمة نفسه بعض ما يحمل على الوجه الآخر "فإنك إذا أحببت الشخص لله كان اللهُ هو المحبوبَ لذاته، فكلما تصورته في قلبك تصورت محبوب الحق فأحببته، فازداد حبك لله، كما إذا ذكرت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأنبياء قبله والمرسلين وأصحابهم الصالحين وتصورتهم في قلبك، فإن ذلك يجذب قلبَك إلى محبة الله المنعِم عليهم وبهم إذا كنت تحبهم لله؛ فالمحبوب لله يجذِب إلى محبة الله، والمحب لله إذا أحب شخصا لله فإن الله هو محبوبه، فهو يحب أن يجذبه إلى الله تعالى، وكل من المحب لله والمحبوب لله يجذب إلى الله".

 

يؤخذ من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فضل يوم الجمعة وعدّ مزاياه وأنه اليوم الذي فيه وُلد آدم عليه السلام تشريفٌ للزّمانِ فكيف باليوم الذي وُلد فيه سيد الأنبياء وأشرف المرسلين ولا يختص هذا التعظيم بذلك اليوم بعينه بل يكون له خصوصا ولنوعه عموما مهما تكرر كما هو الحال في يوم الجمعة شكرا للنعمة وإظهارا لمزِيّة النبوة. كما يعظَّم المكان الذي ولد فيه نبي ويؤخذ هذا من أمر جبريل عليه السلام النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصلاة ركعتين ببيت لحم ثم قال له: "أتدري أين صليت؟" قال: "لا"، قال: "صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى عليه السلام". والعبرة كما قال الأصوليون بعموم اللفظ لا بخصوص السبب حتى يقوم الدليل على التخصيص.

 

ثم إن ليس كل ما لم يفعله السلف ولم يكن في الصدر الأول فهو بدعة منكرة سيئة يحرم فعلها ويجب الإنكار عليها بل يجب أن يُعرَض ما أحدِث على أدلة الشـرع فما اشتمل على مصلحة فيطلب تحصيلها بفعله، وما فيه من مفسدة فيطلب اجتنابها بتركه، وما خلا عنهما فيجوز فعله وتركه على السواء. ومسألة عدم فعل الصحابة لشيءٍ يحتمل أن يكون أمراً اتِّفاقياً، ويحتمل أن يكون ذلك عندهم غير جائز أو يكون جائزاً وغيره أفضل منه فتركوه إلى الأفضل، ويحتمل أن يكون تركوه لئلا يتخذ عادةً متبعة ويترك ما سواه من أنواع الأدعية ويحتمل غير هذه الاحتمالات، والقاعدة أن ما دخلَه الاحتمال سقط به الاستدلال. والتَّرك وحده "إن لم يصحبه نصٌّ على أن المتروك محظور لا يكون حجة في ذلك، بل غايته أن يفيد أن ترك ذلك الفعل مشروع".

 

ليست كل بدعةٍ محرمةٌ ولو كان الأمر كذلك لحُرِّم جمع أبي بكر وزيد وعمر رضي الله عنهم القرآنَ وكتابته في المصاحف خوفا على ضياعه بموت الصحابة القراء رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ولحُرِّم جمع عمر الناسَ على إمام واحد في صلاة القيام مع قوله نعمت البدعة هذه. ولا يخفى على من يمارس علم الأصول أن الشارع قد سمّى بدعة الهدى سُنة ووعد فاعلها أجرا، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ".

 

أم من يضع الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيح وهو من أصح الكتب بعد القرآن، ويتكلم على أنه ينافي الآية القرآنية: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.

 

فهذا لا ينافي ذاك من باب إكرام الله لنبيه الكريم وتعظيما له فهذا أبو طالب هو أقل أهل النار عذابا لما كان منه من الدفاع والذود عن نبيه صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: "يا رسول الله، هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: "نعم في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار".

 

أما حديث عقيقة في ضعفه طائفة في سنده لكن المقام مقام تأصيل وجرد لموضوع الاستحباب للفرح بمولد النبي الكريم، كيف لا وقد شعر بمولده أهل السماء وأهل الارض، فقال الجن {وَإنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا}.

 

والهدف كان جولة في مجمل النصوص الشرعية تأصيلا لما يستدل به الفريقان ونحن الحمد لله في موريتانيا لا يوجد من علمائنا من يستنكر إحياء مولده بمدحه وإحياء سنته وتبيين فضله ولعل الامام البوصيري جمع جوامع الكلم في بيت أختم به:

 

فإن فضل رسول الله ليس له *** حد فيعرب عنه ناطق بفم