على مدار الساعة

عقد التحسيس

7 فبراير, 2018 - 13:53
محمد عبد الله ولد لحبيب

ترددت لبضع سنوات في الالتزام بكتابة زاوية أسبوعيا، في إحدى الصحف. وقد كان، لهذا التردد دوافع كثيرة، أستحضر بعضها، ويغيب عني بعض.

كانت دائما فكرة عرض عقلي على الناس كل أسبوع أمرا مزعجا، وما زالت. كثيرا ما أعتذر عن دعوات للحديث في مواضيع أستطيع أن أدلي فيها بدلو مع المتحدثين، لهذا السبب. كلما فكرت في عرض عقلي على الناس أحجمت.

 

وتسارع الزمن وأصبح الأسبوع يدور علينا في اليوم مرتين، ولم يعد بالإمكان أن يجازف المرء بوضع نفسه تحت سلطة انتظار القراء. ربما لا أحد يقرؤ ما نكتب.

 

أفترض فقط وجود قليل من ذوي الظنون الحسنى، سيكرمون المكتوب بنظرة عندما يرون اسم الكاتب، وبعض منهم سيحسن الظن بالصحيفة، ويفترض أنها لن تعرض عليه عقلا لا يستحق ذلك كل أسبوع.

 

تتصاعد الحرقة إلى قفص صدري عند التفكير في أن فلانا سيقرؤ هذه السطور. تحضرني صور أناس كنت أرى في أعينهم نظرة امتلاء، سيُنحّون الصحيفة جانبا، أو يقلبون الصفحة، ويهمسون؛ كان الأولى به الإبقاء على صبابة الستر!

 

أكره أيضا روتينا يرغمني على الكتابة، فيما يريد الناس أن يقرؤوه، وأنا أكره الإلزام. أريد أن أكتب ما أريد كتابته، لا ما يريد الناس أن يقرؤوه. لا تَتَمَلَّككَّ المفاجأة إن رأيت هنا ما لا يعجبك قراءة. وكنت أحب دائما أن يقول الناس "لماذا لا يكتب ديدي؟ بدل أن يقولوا "لماذا يستمر هذا في الكتابة؟ (*)

 

وكان من هذه العوائق ما ابتليت به الصحافة الورقية في بلدنا، وهو في جزء منه، مقصود، مقدمة لهدم معبد الكلمات، الذي يزعج متحنثوه، راغبي استغفال الشعوب. وتبعتها الصحافة الإلكترونية عجلى، مسابقة إلى مصير الميوعة، والفوضى، حتى صرنا نخجل من مهنة أحببناها، ونحن مستيقنون، بأنها ستنفي خبثها، وإن أطال المكث.

 

وما الذي سيكبته المرء في زمن الفيس بوك؟ ولماذا أنتظر وقت صدور الجريدة لأتلقف رأيا، إن كنت قارئا، أو ليقرأ الناس ما أكتب إن كنت ممن يكتبون؟ وما الذي يمكن أن يضيفه الكاتب إلى سيل الآراء المتدفق عبر شاشات الحواسيب والهواتف؟

 

مراغمة لكل هذه الهواجس والعوائق لا أجد غير دافع، أو دافعين. بل طرأ واحد فأصبحت ثلاثة. كنت منذ الصبا أحلم بأن أكون كاتب زاوية، ومن كثرة ما عشقت هذا الفن، تعودت قضم الأعمدة من الجرائد التي أشتريها، أيام كانت الجرائد، وكنا نشتريها، حتى تجمعت لي ثروة، بددتها عوادي الأيام، وأسفار الصعاليك.

 

كتابة الزاوية فن، وليست مجرد كتابة مقال، إنها مزيج من أدب الرحلة، والانطباعات الذاتية، والسخرية أحيانا، لمن أوتي ملكوتا، وهي نظر من زاوية. أذكر إلى الآن: "مربط الفرس"، و"زاوية حادة" "قزحيات".. "شطحات" "هامش" "مرايا" والخالدة "موريتانيد" (وقد حرمناها معاشر المعربين) وأخريات في البيان، والخيمة، والمنبر، والعلم، والراية، وأخبار نواكشوط، ولم أعد أذكر من أسمائها شيئا. أين كنا وأين نحن اليوم؟ يا حسرة على الزمن الجميل، الزاوية فن مختلف عن المقال الأسبوعي الذي كثر كتابه، ولهم أعمدة في كل الصحف. زمان كان الأسبوع زمنا، وكانت الكتابة فنا.

 

وثاني الاعتبارات هو الإيمان بالورق؛ وهو ميراث قديم، ما زلت أعانيه، وتنتقل معي أسفار ثقيلة الحمل، أينما حللت. أحس أن الكتاب الذي أقرؤه وأشتم رائحته، وألتذ بملمسه، لي. حالة تشبه تفسير المدرس لبيت أبي نواس. فقد سأل صبي معلمه، وأبو نواس يسترق السمع؛ لما ذا قال:

ألا فاسقني خمرا وقل هي الخمر ***  ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر

 

فأجاب الشيخ: أراد أن تشترك جميع حواسه في المتعة. قال أبو نواس: سبحان الله! لم يخطر لي هذا على بال. أشعر أن الممغنط مستجير مني بنار الأشعة، وأنه غير حقيق.

 

الثالث رغبة في إعادة الاعتبار للكتابة، وللصحافة، ولي عودة إلى "الأخبار إنفو"، فهي صحافة في زمن لا صحافة فيه، وصحيفة في زمن لا صحف فيه.

 

أريد أن يأتي يوم يرفع فيه أبناؤنا رؤوسهم لأن لهم آباء امتهنوا عملا يفرج كروب الناس بلا ثمن، وأنهم كانوا مقاتلي وعيٍ يأبون تزييف التاريخ الحي، يأبون قتل الذاكرة عِبْطةً.

 

انتهت المساحة ولمّا أقل شيئا عن العنوان العام، ولا عنوان هذا العدد، ولعلي لا أعود إليهما. التحسيس كاسمه، سيكون ما أمارسه تحسيسا (بالمعنى اللغوي) أي إشعارا، بزاوية في التناول لم تنل نصيبها، أو لفتا إلى معلومة، أو كتاب أو شخصية، أو حادثة. والعنوان العام واضح؛ فهذا قليل مما يستحق أن يقال، وقليل من الحقيقة، وهو كثير مما أستطيع قوله. بقي أن أقول إنني سأحاول أن أكتب كل أسبوعين. فمن ملّ فليعذرني.

________

(*) التعبير للكاتب المصري الراحل محمد حسنين هيكل.

 

عمود "قليل من كثير" للكاتب في صحيفة الأخبار إنفو الأسبوعية