على مدار الساعة

التجاذبات السياسية داخل الأغلبية: تشخيص واقتراح لبعض الحلول

5 مارس, 2018 - 14:53
بقلم الدكتور: أحمد ولد المصطف

أحيانا قد يؤدي الانشغال بالسياسة ومطباتها وصراعات أصحابها، المفتوحة والخفية، إلى نسيان أمور جوهرية، قد لا يختلف عليها العاقلون، مهما كانت مواقفهم ومشاربهم. وللدخول في الموضوع، دون مواربة، من المهم التذكير بأن البلد ومنذ حصوله على الاستقلال وحتى الآن تتجاذبه اتجاهات سياسية عديدة تتوزع عادة بين اتجاهين رئيسيين، أحدهما يدعم السلطة القائمة والآخر مناوئ لها، مع ضرورة الإقرار بوجود طيف عريض من الساكنة لا يهتم بالسياسة ولا تستهويه. حدث ذلك إبان فترة الحكم المدني الأول والحزب الواحد برئاسة الرئيس الأسبق المرحوم المختار ولد داداه التي دامت زهاء عشرين سنة (من 1958، تاريخ حصول على البلد على الاستقلال الذاتي وحتى 1978)، مرورا بفترة حكم بعض القادة العسكريين، و بالأخص فترة حكم المقدم محمد خونا ولد هيداله (1979 ـ 1984 ) ومعاوية ولد سيد أحمد الطايع (1984 ـ 2005) والمرحوم العقيد اعل ولد محمد فال (2005ـ 2007) والرئيس سيد محمد ولد الشيخ عبد الله (2007 ـ 2008 ) وصولا إلى حكم الرئيس الحالي، محمد ولد عبد العزيز.

 

فلو رجعنا قليلا إلى الوراء، لأدركنا أنه خلال العقود الستة الماضية من تجربتنا السياسية في الحكم وممارسته وتأييده تارة ومعارضته تارة أخرى، ظلت مواقف الفاعلين السياسيين في مجملها، باستثناء حالات محدودة، تجعل الحفاظ على الوطن واستقلاله واستمرارية مؤسسات الدولة في صلب اهتمامات هؤلاء؛ وحتى في أوقات الأزمات الكبرى، كحرب الصحراء والانقلابات الناجحة ومحاولاتها الفاشلة والهزات الاجتماعية والانسدادات السياسية، ظلت مواقف غالبية الموريتانيين منحازة لوطنهم موحدا في ظل دولة تحفظ لهم الأمن والسكينة، كانت إقامتها أهم منجز سياسي حققوه في تاريخهم.

 

لكن تعاظم المخاطر مع مطلع الألفية الثالثة، كاستفحال التطرف الديني الذي نما وترعرع في البيئات والمناطق التي تعاني من التخلف الاقتصادي والجهل والإقصاء والتهميش وتهريب المخدرات، إضافة إلى أطماع بعض الدول العظمى في استغلال ظاهرة الإرهاب لتحقق مصالحها بشن حروب والسيطرة على بلدان عديدة، جعل من بلدنا الواقع في عين الإعصار، لوجوده في منطقة الساحل التي هي عرضة أكثر من غيرها للأخطار المذكورة، خاصرة رخوة مهددة بهذه المخاطر.

 

ومع أننا استطعنا، بفضل السياسات العمومية المنتهجة حتى الآن، احتواء خطر الإرهاب العابر للحدود كما استطعنا بفضل نفس السياسات تجنيب وطننا إعصار الربيع العربي الذي جعل بلدانا عربية عديدة في خبر كان، بيد أن المشهد السياسي الوطني، ومنذ إعلان الرئيس محمد ولد عبد العزيز سنة 2016 نيته في إجراء استفتاء بهدف إدخال تغييرات دستورية من ضمنها حل مجلس الشيوخ، بدأ يعرف حراكا جديدا هو الانتقال من ثنائية الموالاة والمعارضة المحاورة / المعارضة المقاطعة التي طبعت المشهد السياسي منذ حوار 2011 وحتى تاريخ الإعلان المذكور إلى حالة جديدة اتسمت بظهور تذمر في أوساط بعض عناصر الأغلبية أصبح مفتوحا وتقوده عناصر محسوبة في أغلبها على مجلس الشيوخ السابق. ورغم أن حل هذا المجلس أصبح أمرا واقعا وفق نتائج استفتاء 5 أغسطس 2017 والإجراءات التنظيمية والتنفيذية التي تلت ذلك، إلا أن التجاذبات الداخلية بين بعض الفاعلين في الأغلبية الرئاسية، كأصداء للتململ وتصاعد الخطابات الخصوصية من شرائحية وقبلية وجهوية داخل الأغلبية الديمغرافية في البلد الناطقة بالحسانية (العربية)، تواصلت في شكل جديد وأصبحت تفرض نفسها على المنتمين للأغلبية، حتى على من كان يأنف التعليق عليها أو الاهتمام بها. غير أن الأخطر في هذه الوضعية أنها تشغل السياسيين والمسؤولين والرأي العام عن أمور جوهرية تتعلق بتنمية البلد واستقراره والتهيئة السياسية المناسبة للاستحقاقات الانتخابية المقبلة الخاصة بالمجالس الجهوية والانتخابات البلدية والتشريعية التي أصبحت على الأبواب، إضافة إلى الانتخابات الرئاسية في سنة 2019.

 

فبعد تأمل في أسباب حالات عدم الانسجام بين بعض عناصر الأغلبية، وبالأخص التنافس بين بعض من يتقلدون مناصب حكومية وبعض سياسيي التشكيلات الحزبية المنتمية للأغلبية، يمكن التوصل إلى بعض ما قد يفسر جوانب عديدة من هذه الصراعات وكذلك إلى استنتاجات قد تساعد على تجاوزها.

 

فمن الأسباب التي جعلت البعض يدخل في صراعات مفتوحة مع آخرين من نفس الأسرة السياسية أو من الأغلبية الرئاسية بشكل عام هو التنافس المحموم على بعض المواقع، التي أصبحت، من حيث العرف أو الممارسة السياسية، من نصيب جهة أو شريحة ما. هذا التقليد، وإن كانت له بعض المسوغات التي لا تصمد طبعا أمام حجج من يتشبثون بدمقرطة الوظائف والمهام في ظل نظام جمهوري، أصبح يشكل خطرا جديا على وحدة البلد وتماسك مكوناته وترتبت عليه نتائج عكسية. فمن ناحية، أصبح سببا مباشرا في صراعات مفتوحة بين بعض الأطر والمسؤولين المحسوبين على الجهة أو الشريحة المستفيدة منه، مما يؤدي في بعض الأحيان إلى تصفية حسابات واتخاذ قرارات غير منصفة في حق عناصر محسوبة على هذا الجناح أو ذاك، ومن ناحية أخرى تسبب التقليد المذكور في شعور بعض ساكنة المناطق والمكونات الأخرى بأن بعض الوظائف أصبحت حكرا على جهة أو مكونة بعينها، وهو ما يتناقض مع طبيعة النظام الجمهوري نفسه، الذي يفترض فيه أن تكون وظائف الدولة مفتوحة أمام الجميع، لا تفاوت بينهم إلا بحسب المؤهلات والكفاءات والتجربة والخبرة، لا أن تكون خاصة بمنطقة أو شريحة أو أثنية. كذلك فإن ظاهرة تراكم الوظائف في نفس المحيط العائلي الضيق أو الممتد وتمكين مثل هذا المحيط من السيطرة على تجمع حضري أو نطاق إداري أو تشكيلة حزبية أو مرفق عمومي يعد هو الآخر من الأسباب التي تذكي الصراعات على المصالح والنفوذ وتقف حجر عثرة أمام جهود مكافحة الفساد. ذلك أن محاربة هذا الداء العضال، الذي لا تزال مجتمعات متقدمة تجد صعوبة في القضاء عليه، أحرى مجتمعنا الذي لا تميز أطياف واسعة منه بين المال العام و الخاص، تتطلب وضع آلية جديدة بحيث تكون من أبرز ملامحها الرجوع إلى ممارسات سليمة كان بعضها قد طبق، ولو جزئيا، في بداية نشأة الدولة الموريتانية، كالفصل بين السياسة والمال، والتعيين على أساس الكفاءة وعدم تعيين مسؤول ومساعده من نفس الجهة أو المحيط الاجتماعي. في هذا السياق، نعتقد أنه من المهم التفكير الجاد، من بين أمور أخرى، في سن قانون تنظيمي جديد يعتمد على ما قيم به في هذا المجال وتحيينه بحيث يحدد ضوابط وشروط جديدة وجادة لتعيين وتحويل وترقية الموظفين العموميين، ثم بعد ذلك يتم إنشاء هيئة وطنية يعهد إليها بتطبيق هذا القانون.

 

لقد دفع الكثيرون ثمن هذه التجاذبات وما أفرزته من تخبط في عدة قطاعات حكومية، كما حصل كثيرون على امتيازات ووظائف بغير حق شرعي وتم في أحايين كثيرة تعطيل القانون وأحكام العدالة وخسرت الدولة ولا تزال تخسر الأموال الطائلة من خزينتها بسبب انعدام الكفاءة في بعض الموظفين الذين تم تعيينهم من هذا الجناح أو ذاك لضعف مؤهلاتهم وعدم وعيهم بالقانون وبالمصلحة العامة، وهو أمر لا يتأتى إلا بالحصول على المناصب باستحقاق وبمستوى تعليمي مناسب ومعرفة بالقانون واستقامة وأخلاق.

 

فإذا كان اختلاس المال العام فعلا يجرمه القانون، فإن تعيين من لا كفاءة لهم لشغل مناصب عمومية ترتبط بحقوق الناس وتدبير الشأن العام وسمعة البلد، يعد جرما أبشع من الأول، إذ كيف لمن ليست له الكفاءة المطلوبة وتم اختياره على معايير عرجاء أن يقوم بتسيير مرفق عمومي تسييرا سليما؟

 

في الآونة الأخيرة أثير موضوع الشهادات المزورة التي قد يكون تعيين أو اكتتاب بعض الموظفين العموميين تم على أساسها، لكن أليس من المهم أيضا الاهتمام بسيل التعيينات التي لا تخضع لضوابط أو معايير تتماشى مع روح المصلحة العامة؟

 

كذلك فإن التراجع في الوعي والعودة إلى الماضي بالاحتماء بالقبيلة والشريحة والأثنية يعد هو الآخر ظاهرة غير صحية تهدد استمرارية الدولة في الصميم. ألم ينس أصحاب هذا التوجه، وهم أغلبية الآن ـ للأسف ـ بسبب عقود من عدم الإيمان بالدولة ومؤسساتها وتعشيش الفساد في العقول والنفوس، أن العودة إلى القبيلة، في سياق المكونة الناطقة بالعربية وحدها، مؤشر إلى الحنين إلى ماض من الحروب والفتن التي لا تنتهي والقضاء على كل فكرة أو مشروع سياسي جامع؟

 

كذلك يتعين استئصال مسلكيات خطيرة أصبحت متفشية فينا على نطاق واسع، وبالأخص لدى كبار المسؤولين، ألا وهي الكذب البواح والأنانية المقيتة ونزعة الاستئثار بكل شيء والاستحواذ على كل شاردة وواردة، لدرجة السادية النفسية psychologique le sadisme، أي التلذذ بالتفرج على إهانة وإذلال الآخرين. فإذا لم يتم القضاء على مثل هذه الظواهر المنحرفة وواصلنا على نفس المنوال، فعلى الدولة والسلم الأهلي السلام.

 

ومما يثير العجب والاستغراب ـ حقا ـ أن نجد من ضمن المفسدين الناهبين للمال العام الغارزين خناجرهم في جسم الدولة والمسرفين في الظلم أناسا من أصول اجتماعية متواضعة، درسوا أيام كان التعليم العمومي سويا، أي منذ أواخر خمسينات وحتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي، عند ما كانت المدرسة العمومية رافعة للرقي الاجتماعي، وتمكنوا من الحصول على شهادات سمحت لهم بالولوج إلى الوظيفة العمومية وتقلد مناصب في مختلف القطاعات، لكن نجد اليوم بعض هؤلاء يلوي عنق القانون ليًّا ويسخر ممن يطالب بتطبيقه ولا يعير لدولة الحق والإنصاف أي اهتمام. ألا يعرف هؤلاء ومن على شاكلتهم من مستضعَفي الأمس، مُسْتَأْسِدي اليوم أنهم أول المستفيدين من الدولة التي يطبق فيها القانون تطبيقا سليما وأول الخاسرين إن هي انهارت ـ لا قدر الله ـ وعدنا إلى ما كان عليه الحال قبل قيامها، حيث لا آمر إلا من كان يأمر أسلافه في زمن اللا دولة؟

 

حتى في مجال السياسة، ظهرت ممارسات غريبة، فالمتعارف عليه أن دعم نظام من قبل أشخاص أو كتل سياسية يعني ـ على الأقل ـ أن يعترف لهؤلاء بموقفهم، سواء أسندت لهم مهام أو مسؤوليات أم لم تسند لهم، لكن أخطر ممارسة سياسية تنخر جسم شعبية الرئيس محمد ولد عبد العزيز تتمثل في اختطاف بعض النافذين لمواقف بعض المجموعات والأشخاص ممن لهم وزن سياسي، سواء على المستوى الوطني أو المحلي. فنجد هؤلاء النافذين يدعون أنهم من أثر على شخص أو مجموعة أشخاص لينضموا إلى النظام ويصبحوا من مؤيديه، ثم بعد ذلك يوصدون المنافذ أمام هؤلاء المؤيدين، ظنا منهم أن لقاءهم مع الرئيس أو أي مسؤول سام أو حصولهم على حقهم الطبيعي في المشاركة في الرأي وفي تسيير البلد يضعف مكانتهم، وأنهم كي يبقوا متحكمين ومحافظين على مواقعهم عليهم أن يضعفوا الآخرين ويمارسوا في حقهم أشد أنواع الحصار والمضايقة، مستخدمين كافة الأساليب التي تتيحها لهم مواقعهم المتقدمة. هكذا يظل هؤلاء المؤيدون للرئيس عبر بوابة حزب الاتحاد من أجل الجمهورية أو عبر أحزاب الأغلبية الأخرى يشعرون بالمرارة والحيرة من واقعهم. أما المختلسون لمواقفهم السياسية فإنهم يواصلون مناوراتهم الماكرة: إيهام الرئيس بأنهم وراء تأييد فلان أو علان له ثم يقبضون الثمن دون تأخير، ومن ناحية أخرى يستمرون ـ في أحسن الأحوال ـ في مماطلة ومخادعة الداعمين للرئيس الذين تربطهم بهم صلة أو علاقة أو يعرفون من تربطهم بهم صلة، أيا كانت طبيعتها.

 

من جهة أخرى فإن أمامنا اليوم تحديات جمة، في مقدمتها إنقاذ التعليم من الوضعية المتردية التي يوجد فيها، إذ هو المؤشر الفعلي على وجود أي دولة وطنية في العالم الذي نعيش فيه اليوم، فانهياره أقوى دليل وأصدق حجة على ضعف الدولة وفقدانها مبرر وجودها الرئيسي، إذ هو أهم خدمة تقدمها الدولة المستقلة لمواطنيها.

 

فمع أن بسط الأمن ـ على أهميته ـ يشكل هو الآخر أحد أهم مظاهر سيادة الدول، إلا أنه يبقى بالدرجة الأولى مؤشرا على وجود نظام ما وتمكنه من فرض سلطته على حيز جغرافي معين، سواء كان هذا النظام يحكم دولة وطنية مستقلة أو يمثل قوة احتلال أجنبي أو سلطة تشرف عليها الأمم المتحدة. في هذا الإطار، فإن المتابع لحالة التعليم اليوم في بلدنا يجد، بالإضافة إلى تدني المستويات والتسرب المدرسي وأخذ المدارس الخصوصية بشكل متدرج لدور المدرسة العمومية، أن غالبية أبناء الأغنياء وكبار الموظفين والطبقة الوسطى ومن يحاولون الالتحاق بهم يبعثون بأطفالهم إلى المدارس الخصوصية أو الأجنبية، أما الفقراء والمعدمون فليس لهم من خيار سوى المدرسة العمومية المهجورة من قبل الميسورين، تماما كبعض المستشفيات العمومية التي لا يتعالج فيها في الغالب إلا الفقراء ومن لا حيلة لهم.

 

إن من يقولون بارتفاع الميزانيات العمومية وارتفاع المبالغ المخصصة لميزانيات الاستثمار ويتحدثون عن نسب النمو الاقتصادي وسياسات "الرفاه والنمو المتسارع" و"محاربة الفساد" و"مكافحة الفقر" عليهم أن يفهموا أن أهم استثمار في البلد هو الاستثمار المخصص لتعليم وتكوين أبناء هذا البلد وصحتهم وسكنهم وتشغيلهم وتوفير حياة كريمة لهم، فهل وجهت الاستثمارات فعلا إلى هذه القطاعات الحيوية؟

 

وبخصوص الحلول المقترحة على المشاكل الرئيسية للبلد وأهم تحديات المرحلة الراهنة، فإنه يتعين اتباع سياسية تعليمية جديدة تشكل قطيعة جدية مع كل التصورات والاستراتيجيات المتبعة سابقا، لعل من أهم ملامحها:

- رفع النسبة المخصصة للتعليم بمختلف مراحله لتصل إلى 35 % من الميزانية العامة للدولة؛

- اعتبار المدرس الركن الأساسي في العملية التربوية بحيث يتم تكوينه بشكل جيد ووضعه في ظروف مادية مريحة تمكنه من الاضطلاع بمهمته على أحسن ما يرام باعتباره مكون الأجيال؛

- حظر خوصصة التعليم في المرحلة الابتدائية وفي السلك الأول من التعليم الثانوي؛

- إلزام جميع موظفي الدولة ومسؤوليها بتسجيل أبنائهم في المدرسة العمومية.

 

أما بخصوص المشاكل الاجتماعية السياسية التي تخص شرائح أو مكونات بعينها، فإن أي توجه رسمي نحو الاعتراف بالقبائل أو الشرائح التقليدية التي توجد في جميع الأثنيات التي تشكل الشعب الموريتاني قد يقود إلى ما لا تحمد عقباه. فإذا اعترفت الدولة بشريحة وتبنت خطابها كليا أو جزئيا، فإن شريحة أخرى ستحذو حذو سابقتها وتطرح نفس المطالب والمظالم. ونفس الشيء يصدق على القبائل والجهات، فالاستمرار في منح قبيلة حصة ثابتة في التعيينات قد يدفع بقبائل أخرى أو كونفدراليات قبلية إلى المطالبة بنفس الشيء، محتجة بوفرة أعدادها أو انتشارها الجغرافي أو تأثيرها التاريخي، إلى أن نصل إلى حد أن تطالب كل قبيلة بحصتها من التعيينات في كل القطاعات والمؤسسات العمومية ومن الثروة والسلطة، وهنا سنكون أمام معضلة قد صنعناها بأنفسنا دون حساب دقيق لمخاطرها على وحدة البلد وتماسكه.

 

فعلى الدولة أن تواجه مشكل الخصوصيات بالعدل وسن قوانين منصفة وتطبيقها تطبيقا سليما على جميع المواطنين ومساواة الفرص بينهم وفق تلك القوانين، مع تأكيدها على أن الوظائف والمسؤوليات في الدولة لا يمكن منحها على أساس القبيلة أو الشريحة الاجتماعية التقليدية أو الجهة، لأن أي مواطن له الحق في تقلدها بغض النظر عن أصوله الاجتماعية أو مسقط رأسه. في هذا الإطار آن الأوان أن تتخذ الدولة موقفا صريحا من هذه الإشكالات التي تستفحل يوميا وتتخذ في بعض الأحيان منحى تمييزيا واضحا بأن تعلن عدم اعترافها بكافة الشرائح الاجتماعية التقليدية وعدم مسؤوليتها عن التشكل التاريخي لهذه الشرائح الذي يعود إلى عصور ما قبل الدولة وأن ما تعترف به وتتبناه هو مبدأ المواطنة أو الفئات الاجتماعية الموجودة في كل بلد، كفئات النساء والشباب والفقراء والمهمشين وذوي الاحتياجات الخاصة وغيرها من الفئات التي تضم جميع مكونات البلد.

 

أما بخصوص الجهود المقام بها حاليا لإصلاح حزب الاتحاد من أجل الجمهورية ووضعه على السكة من جديد بصفته قاطرة المشروع السياسي للرئيس المؤسس محمد ولد عبد العزيز، فقد كانت هذه الخطوة مطلوبة ومنتظرة منذ أمد بعيد، ذلك أن هذه التشكيلة السياسية الهامة قد جرفتها عواصف وأعاصير التجاذبات والتنافسات التي تم التطرق لها سابقا وأصبحت مرتعا خصبا للانتهازيين الوصوليين وعديمي الكفاءة والغوغائيين، في حين غيبت الكفاءات والخبرات وأبعد أصحاب الرأي من القرار. ولتلافي هذه الاختلالات والانحرافات وكي لا تتكرر نفس الأخطاء، يجب على اللجنة المكلفة بهذا الإصلاح أن تتخذ جملة من الإجراءات من ضمنها:

- وضع آلية شفافة وقابلة للاستمرار للتمويل الذاتي للحزب وتسيير ميزانيته؛

- منح المزيد من الصلاحيات لنواب الرئيس وللجهاز التنفيذي للحزب لخلق توازن في اتخاذ القرارات الهامة؛

- اعتماد معايير موضوعية وعادلة في تعيين أعضاء الهيئات القيادية المركزية واللامركزية للحزب؛

- تنظيم حملة انتساب جديد بشكل يضمن تجديد مختلف هيئات الحزب ويلبي مطالب القواعد الشعبية ويجعل الحزب قادرا على خوض الاستحقاقات القادمة التي أصبح بعضها على الأبواب.

 

فعلى الجميع موالاة ومعارضة، أن يتذكروا أن الوطن الموريتاني ملك لجميع الموريتانيين ومصلحته فوق أي مصلحة شخصية أو حزبية ضيقة، وأن وطنيتنا تتحدد بمواصفات يسهل التحقق منها، بعيدا عن الجدل والديماغوجيا ورفع الشعارات الجوفاء، وهي بالأساس السعي لتآخي جميع مكوناته وسن قوانين تراعي المصلحة العامة وتطبيقها بعدل وإنصاف والابتعاد عن أكل المال العام وعدم تشويه صورة الوطن بالدعاية المغرضة وبالتصرفات غير المسؤولة.

 

وبما أن مجتمعنا قليل العدد ويعرف بعضنا بعضا، علينا أن نكون صادقين مع أنفسنا ومع الآخرين، فمن أحسن إلى الوطن بخدمته وتأدية ما عليه من واجبات معروف، ومن أساء إليه أو أضر به بنهب المال العام أو سوء التسيير أو المحسوبية والزبونية والصراع العبثي على النفوذ معروف أيضا.

 

يتعين علينا كذلك الوقوف صفا واحدا في وجه العابثين بمصالح الدولة والوطن واللوبيات المتصارعة على النفوذ حتى لا يضيع وطننا الغالي في مهب تجاذبات بعض الطامحين للاستمرار في مهام حكومية أو وظائف إدارية أو مواقع حزبية يشغلونها أو تقلد مسؤوليات جديدة يتوفر الكثير من الموريتانيين الآخرين، من مختلف مناطق البلاد ومكوناتها، على مقومات ومؤهلات تمكنهم من تقلدها والنجاح فيها.

 

أخيرا فإنه رغم النواقص والإخفاقات في بعض القطاعات الحيوية والمصيرية والتي تم التطرق لها سابقا، فقد تم تحقيق إنجازات معتبرة في البلد في شتى المجالات، من ضمنها الحالة المدنية التي أصبحت نموذجا تسعى بعض الدول الإفريقية إلى الاقتداء به والاستفادة من تجربتنا بهذا الخصوص، كذلك طورت منظموتنا العسكرية والأمنية وتحسنت صورتنا على المستوى الدولي بفعل الدبلوماسية الفعالة التي تم انتهاجها من قبل نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز.

 

ويمكن القول إن ما أنجز في البلد منذ وصول الرئيس محمد ولد عبد العزيز للسلطة كان سيكون أعم منفعة على البلد لو لم تنفجر الصراعات بين المجموعات المتنفذة داخل النظام وتحاول إشغال الرئيس بتجاذباتها وأحابيلها ومكايداتها. أمام هذه الوضعية المتفاقمة وغير المقبولة، ليس أمام رئيس الجمهورية من خيار لفرض هيبة الدولة وحسن سير مؤسساتها ولمواصلة مشروعه السياسي أيضا إلا أن يتخذ، وفق الصلاحيات التي يمنحها له الدستور، موقفا مدروسا وحاسما ليثبت لهؤلاء المتصارعين على النفوذ، قبل غيرهم، وبقرارات وإجراءات ملموسة، أنه القبطان الفعلي لسفينة الوطن.