على مدار الساعة

"افْنَيْدَه" والمذهب "الفُنَيْدِيِّ"

9 مارس, 2018 - 00:47
الدكتور الشيخ أحمد ولد البان - كاتب وشاعر

لا أعرف لماذا قفزت إلى ذهني هذه الحكاية الشعبية، حكاية "افنيدة" وأيمانها المنقوضة بفعلها مُوجِبَ الحنث أثناء اليمين الذي تؤكده بالتكرار، لماذا سيطرت هذه الحكاية على مخيلتي خلال هذه الأيام فظلت حاضرة فيها وحدها أو مع ما يستجد من خواطر لا ينتهي موج منها إلا ليعقبه آخر، إن الخواطر أحد الأسرار النفسية الغامضة التي تقول كل وقت لمن يحاول أن يمسك بحقيقتها: "أيها الإنسان! أقصر"، المؤكد أن هناك ما يثيرها جليا أو خفيا.

 

تقول الروايات الشعبية إن "افنيدة" كانت راويةَ أهلها كسولةً ضجِرةً، ولم تكن تذهب لاستقاء الماء إلا بعد إلحاح وربما تهديد بالعقوبة، وكانت – رحمها الله - تقوم متثاقلةً متأفِّفَةً تجمع القِرَبَ وتُقَرِّبُ الأحْمِرَة وهي تكرر القسم بمُعَظَّمِها أثناء ذلك أنها لن تذهب للسقيا، وكانت تحلف أنها لن تحمل قِرْبَةً والقِرْبَةُ على منكبها، ولن تقود حمارا وأذنه في يدها، فلا يدرى أيهما السابق حلفها أم حنثها! ولذلك ضرب بها المثل في الاستهانة باليمين فقيل: "يمين افنيدة".

 

يبدو أن لكل أمة "افْنَيْدَتـُ"ها، وقد كان الشاعر سويد بن صبيع هو "افنيدةُ" العرب الأقدمين، ومن ذلك قوله في الاستهانة باليمين وأنها لا تلزمه بشيء:

 

إذا طلبوا منِّي اليمينَ مَنَحْتُهُمْ *** يَمِينًا كبُرْدِ الأَتْحَمِيِّ الـمُمَزَّقِ

وإنْ أَحْلَفُونِي بِالطَّلَاقِ أَتَيْتُهَا *** عَلَى خَيْرِ مَا كُنَّا ولَمْ نَتَفَرَّقِ

وإنْ أَحْلَفُونِي بِالعِتَاقِ فَقَدْ دَرَى *** عُبَيْدٌ غُلَامِي أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِ

 

وسويد هذا شاعر إسلامي مَاجِنٌ وليس بصحابي، وقد حقَّقَ ذلك ابن حجر العسقلاني في كتاب الإصابة في تمييز الصحابة، فقال: "سويد بن صبيع: وَقَعَ ذِكرُه في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري بما يوهمأن له صحبة، وليس كذلك"، ولم يكن سويد بن صبيع هذا وحده في المذهب "الفُنَيْدِي"، ولكن حظا منحوسا جعل أبياته مضرب المثل لدى العرب قديما كما جعل سوءُ الطالع "افْنَيْدَه" مضرب المثل عند ساكنة الأرض السائبة، رغم أنهم عامتهم - إلا من رحم الله - "فُنَيْدِيُّون"، وهذه إحدى مفارقاتهم حيث جمعوا بين "الجُنَيْدِيَةِ" و"الفُنَيْدِيَّة"، ولكن ذلك شجنٌ آخر، ولئن تركني الله إلى قابل لأكتبنَّ عنه.

 

أيها القارئ الكريم، وعدتك في السطر السابق أن أكتب لك في هذه الزاوية عن التجاور بين المذهب "الجُنَيْدِيِّ" وبين المذهب "الفُنَيْدِيِّ" في شخصية إنسان هذه الصحراء، رغم أني وعدتك قبل عامين في ذات الزاوية بأن أديم التواصل معك في عمود "بانيات"، فأخلفتك الوعد، وها أنا أعود لأخدعك مرة أخرى باللام الموطئة للقسم وبنون التوكيد الثقيلة في قولي: لأكتُبنَّ إليك في هذه المرة "أفانين"، ولكن لا ضير، "فهل أنا إلا من "فُنَيْدَةَ"!

 

"افنيدة" لم تمت، وإنما فقط تحررت روحها من الجسد المُضْنَى بالأعمال الشاقة في بيت أسيادها، وتحولت إلى روح ليست طيبةً ولا خبيثةً، هي روح "فُنَيْدِيَة" فقط، ثم أصبحت لدينا مذهبا في السياسة والمجتمع، ألم تنف وزارة الصحة عام 2015 تسجيل أي حالة من "حمى الضنك"، في الوقت الذي كان الوزير النافي ومسؤوله الكبار يصرفون من حساباتهم البنكية معونات لأقاربهم المصابين بها كي يتعالجوا في السنغال، وهل بعد هذا "فُنَيْدِيَة"!.

 

الآن تذكرت سبب استحضاري هذه الحكاية الشعبية، ذكرني بها تعريج الرئيس في طريقه من المطار على مجموعة من هتَّافة التهريج الذين لا يملون الثناء – كما يقول سيد قطب رحمه الله -، وتحيته لهم وهم يرفعون لافتات وشعارات تطالبه بقبول مأمورية ثالثة ممنوعة بمادة دستورية جامدة، ومؤكَّدٍ منعُها بيمينٍ مغلَّظة من الرئيس على احترامها، رغم ذلك كان الرئيس أكثر ارتياحا منهم وهو يستقبلهم لأنهم عزفوا له على وتر "افنيدة" الذي يطربه.

 

السياق اللهجي الاستعمالي (بلغة علم المعجميات) الوحيد الذي احتفظت به الثقافة الشعبية لهذه القصة هو گاف غزلي قديم نسبيا:

 

حَالِفْ عَنْ غَيْدَه *** وَاعْلِيهَا مَخْرُوفْ

يَوْگِي لَّ افْنَيْدَه *** وَالحِنْثْ أُلِحْلُوفْ

 

الظاهر أن صاحب الگاف يشترك مع افنيده في اليمين المكررة عزما وحنثا، ولكنه يختلف معها في الدافع، فهي مدفوعة للحلف بعدم الرغبة في الذهاب للاستقاء، والشاعر مدفوع للحنث بالرغبة الجامحة نحو محبوبته التي أصابه عليها الخرف (مخروف)، ولعله في هذه يشترك مع الرئيس في حلفه الدستوري عن مأمورية ثالثة ورغبته الجامحة فيها، وهو بالتأكيد "اعْلِيهَا مَخْرُوفْ"، فهل سيتأسى بافنيدة أم سيفندها؟

 

أيها القارئ الكريم نسيت أن أسلم عليك بعد غياب طويل: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

 

دمتم طيبين

 

نقلا عن عمود "أفانين" على صفيحة الأخبار إنفو الأسبوعية