على مدار الساعة

رحلة ممتعة إلى جنوب لعصابة

10 مارس, 2018 - 01:20
إسلمو أحمد سالم

بعد يوم حافل بالعمل داخل أقسام الباكلوريا والشهادة الإعدادية، وقبيل اختتام الدوام الأصلي اتصل بي أحد الأصدقاء ليقول إنه في ألاك وسيمر علي في المنزل، كان على العاملة أن تعد وجبة سريعة وممتازة في نفس الوقت، فاقترحت عليها وجبة من الدجاج المحلي مع أرز البسمة، أو القهقهة كما يسميها أحد الصغار.

 

نجحت المسكينة، بالتعاون مع شخص آخر على الهاتف في المهمة، فكانت وجبة رائعة أعقبناها بشاي منعنع بنعناع "لكريده" المقطعية ونكهته المعتقة التي تتسلق مع المناخير.

 

أصر الصديقان: سيد محمد ولد أحمد وابن عمه أحمد ولد أحمد أن أصحبهما لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في لعصابة، وهو أمر لا يأباه إلا من لم يألف دفء المنطقة وتدفق الجمال بين أحراشها وكثبانها.

 

انطلقت الرحلة من مقطع لحجار في حدود الرابعة، ومررنا بالطريق الذي اعتدت المرور معه بالألمانية، لكننا هذه المرة في يابانية فخمة من العابرات للصحراء.

 

وصلنا إلى "بلمطار" في كيفة بعد صلاة المغرب، و لعل التسمية حرفتها عن أصلها "بل المطار" سرعة هذرمة سكان المنطقة للكلمات.

 

وكما كان متوقعا استقبلنا في منزل الصديق أحمد ولد أحمد بحفاوة بالغة، وقدمت لنا مائدة مثقلة بلحم صغار الضأن والوجبة المحلية ذات الصيت (الكسكس)، مشفعة برسل العلائل والشاي الأنيق المعتق.

 

بتنا ليلة هادئة وفي استرخاء تام، في مكان نظيف يعكس مستوى المدنية في عاصمة الشرق، و لم يخترق صمت المدينة غير الأذانات والتلاوة والتراتيل التي تضج بها كيفة كل فجر، وهي ميزة تتميز بها هذه المدينة، حيث تكثر المساجد والمحاظر، ويمتاز هذا الحي بالذات بأنه يحتضن منازل أسرة من آل البيت، حافظت على الأصول والفضائل، مع مظاهر الرخاء والرفاهية بنكهة الورع والعبادة.

 

ولا غرو إن طابت هذه الربوع وقد تربى فيها أمثال العالم الجليل سيد محمد ولد سيدي عثمان الذي يؤم الجامع الكبير بعا.

 

وبعد صبوح تزاحم فيه الحديث والأصيل، لملمنا أشياءنا للرحلة التي كنا ننتظر في اتجاه تجمع "لعوجة" أول نقطة من بلدية "ساني" التابعة لمقاطعة "كنكوصة".

 

المسافر إلى لعصابة يسافر في زمنين: ماض تتزاحم صوره، وتترائى فيه أمجاد رقعة من الوطن، تعايش فيها القلم والزناد، والمسبحة والبارود، وسائس الأبقار ومروض الجياد وحادي النوق ومرتل الذكر والعابد الناسك والعالم الجليل والفارس المغوار.

 

وحاضر انصهرت الفسيفساء الاجتماعية المتعددة المشارب فيه، في سبيكة متماسكة، موحدة الإحساس والثقافة والحضارة والتطلعات.

 

انطلقنا من كيفة جنوبا على طريق كنكوصة، والذي يمر بالمطار، وهذا المطار لن يذكر صديقنا سيد محمد ولد أحمد، الذي يسافر إلى تركيا بمطار اسطنبول، ولا حتى بمطار "أم التونسي" في نواكشوط لقلة نشاطه وكسله.

 

وكما في كل مدن موريتانيا، وما تعانيه من سكانها، تودعك القمامة عند المدخل، و ينطلق الطريق الحديث الإنشاء، وكأنه لاعب كرة قدم يجيد المراوغة، يدور يمنة ويسرة مثل تصريحات أحد الوزراء، ويصعد مثل الأسعار وينزل مثل قيمة الأوقية.

 

على امتداد الطريق تتناثر المنازل الموسمية المهجورة، والتي تكون مأهولة زمن الخريف، كما تترائى مظاهر محق الحشائش وتندر رؤية المواشي.

 

المتوجه إلى "العوجه" لا بد أن يستحضر "واد أمور" و"أطويلات" و" تارحييت" نظرا للارتباط الاجتماعي بها، لكن السكان انصهروا في المجتمع المحلي رغم المحافظة على الصلات.

 

يخترق وادي "لمسيلة" العملاق الولاية جنوبا، منطلقا من شمال الحوض الغربي متوجها إلى كركور في كيديماغا، مرورا بـ"العاكر" وواد "أم الخز" و"مكطع اسفيرة" و"الملكة" و"السلطانية" و"النيزنازة" و"كورمل" و"أجار" و"كوروجل" و "سوروملي"، وهذه النقاط كلها بحيرات تحجز بعض المياه، ثم بحيرة "كنكوصة" لتتدفق منها المياه إلى "كركور" ثم النهر السنغالي، وقد استوقفتني هذه المسميات وكأنها في جلها من البولارية.

 

وتصب في "لمسيلة" عدة روافد من الجهتين الغربية والشرقية، كما تنتشر القرى وواحات النخيل على العدوتين الدنيا والقصوى في منظر بديع يسحر الألباب.

 

قبيل القرية بكيلومترات تسلقنا الكثيب المرتفع الذي يشرف على الطريق، واستعنا بجهاز GPS للدخول من المدخل الشمالي عند "أشلاي" حيث تنتصب منازل أسرة "أهل محمد فال ولد أحمد" التي بنتها الأسرة خارج القرية لتوسيع المكان على مواشيها وزوارها.

 

يعتبر رجل الأعمال سيد محمد ولد محمد فال ولد أحمد المسؤول الأول لقرية "لعوجة" وصلتها بالدولة، وموفر أهم المشاريع فيها: شبكة المياه المجانية، والمولدات والمسجد، والمحظرة التي يدرس فيها ما يربو على المائة طالب، والمشاريع الزراعية وغيرها، كما يعتبر الوجيه عبد الله ولد الحاج أعمر الرجل الحاضر باسم القرية في الولاية.

 

نزلنا في منزل رجل الأعمال ولن أحدث عن الحفاوة والأريحية وحسن الاستقبال، لكن المبهر هو مستوى الأخلاق والتمسك بالشرع، وتواري النساء عن الأنظار، وجمال قراءة الإمام وبكائه في الصلاة، واستعداد المصلين للاستماع للتذكرة، وروح التآخي والتآلف بين السكان.

 

كانت الرحلة الأكثر إمتاعا وإبهارا هي زيارة "امسيلة العوجه" فقد مررنا في الطريق بحدائق ومحطة المياه والنقطة الصحية التي تبدو أجمل من نقاط واد أمور وأطويلات وتارحييت على حد السواء ، كما زرنا المركز المتعدد الخدمات.

 

وعلى كثيب عملاق يقف الرائي ليشرف من عل على منظر رائع، تندر رؤيته في جميع أنحاء الوطن، ففي الوادي المنسكب بين الجرفين يرتسم الجمال على شكل غابة من النخيل العملاق وأشجار الغضا الملتحمة في السماء، وتملأ أذناك أصوات الطيور وحركة أوراق الشجر، وعند النزول ستفترش بساطا نباتيا أخضر يغطي الأرضية، لكن الأغرب أن البساط الأخضر هو مجرد غطاء سميك للمياء المنتجعة أسفله ، بعد أن أعياها التسرب إلى أعماق الأرض، فاتخذت هذا المكان مستقرا، وعند مرورك فوق البساط ترتج الأرض من تحتك وتخشى أن تبتلعك في الأعماق، والغريب أن أبقار القرية تعرف اللعبة و تتعامل معها بحرفية وتتحاشى النقاط الحرجة.

 

تعاني "لمسيلة" من شجرة الكهبل (لمحاده) الخطيرة التي تؤثر على نمو النخيل وثمره ، كما أن طاقة الاستثمار في المنطقة غير مستوفاة.

 

لم تكن عملية النزول نحو قاع الوادي صعبة لأننا استخدمنا السقوط الحر، لكن الصعود كان مؤلما لشدة الانحدار وحرارة التربة.

 

عدنا إلى المنزل، وقد اختلطت في أذهاننا جماليات أرض وطننا، وما يعانيه من ضعف في التنمية وترنح وارتجالية وفوضى .

 

وعدت إلى عاصمة الشرق، لكن رحلة "لعوجة" ستظل راسخة في ذهني لما وجدت فيها من متعة وإبهار.