على مدار الساعة

مأساة طفل ومنجاة أمة

13 مارس, 2018 - 13:15
المحامي / محمد سيدي عبد الرحمن إبراهيم

في ضحى يوم الجمعة 9 مارس 2018 كنت خارج المكتب عندما اتصلت بي ابنة أخ عزيز، طالبة استشارة قانونية واعتبارا لحداثة سنها ولطبيعة عملي، في حقل لا يخلو من مشاكل، ولكونها تتصل بي أول مرة فقد أسرعت وجلا لمقابلتها في المكتب وكان ذلك مع نهاية وقت الدوام الأسبوعي.

 

ذكرت قبسا من إحسان والدها الكريم وأفضاله علي فمنذ أكثر من ثلاثة عقود وقبل ميلاد المتصلة بسنوات كنت تلميذا في ثانوية انواذيبو وكان محمد ولد امبيريك (اعبيدان علما) وكيلي إلا أن مساعدته لم تقتصر على تمثيلي أمام الإدارة المدرسية وإنما دأب على تقديم مؤازرة مضافة مقدرة.

 

1

كان لقائي مع الشيخه حانه في وقت الزوال حيث أشعرتني بأنها تعمل مديرة لجمعية قلوب محسنة في انواذيبو التي تنشط في الأعمال الخيرية من رعاية للأيتام واللقطاء وبصفتها تلك تم إرشادها إلى طفل يعكس واقعه مأساة إنسانية حقيقية.

 

وجدت من المناسب أن أكتب عن الموضوع من منظور إنساني، بعد أن ذرفت الدموع بسببه مع أني لم أكن بكاء أحرى بعد أن بلغ عمري نصف قرن قضيت نصفه في ممارسة مهنة المحاماة التي أتاحت لي أن أشاهد الكثير من المآسي.

 

2

عندما علمت حانه بوجود طفل يحتاج للعناية بادرت بالاتصال بذويه وكانت خالته التي تحتضنه مستعدة للتنازل عن رعايته للجمعية وعند معاينة الصغير تبين حجم مأساة كبرى تجسد الإهمال والقسوة معا فقد كان الطفل منكبا على وجهه في وضعية انحناء في ركن قصي من أركان حائط بيت يقع قبالة المدرسة رقم 8 في نواذيبو ورغم أن عمره بلغ سبع سنوات إلا أنه لم يكن يرتدي سروالا وكانت ملابسه تنحصر في قميص ضيق يلف صدره.

 

والأدهى من ذلك كله أنه كان موثقا بحبل ربط في خلخاله الأيمن اضطرت خالته لقطعه باستخدام الموسى. ويبدو أن الطفل كان يقضي أغلب يومه تحت لفح الشمس التي لم تكن تحجب أشعتها عنه غير خرقة غطاء بالية تتلاعب بها تيارات الهواء وفي المساء كان معرضا للسعات البرد ناهيك عن الآلام النفسية الناجمة عن الخوف خاصة من القطط التي جبلت على انتهاز فرصة العتمة للقفز فوق الجدران والتسلل خلفها.

 

كان محبس الصغير "مربطا" حقيقيا لا يضم أي أثاث وكان أقرب للاصطبلات، التي تحشر فيها الحيوانات، منه للمساكن البشرية بالنظر لما يحويه من قذارة لأن نزيله، الآدمي الذي أكرمه الله، تعود أن يقضي حاجاته البيولوجية دون اتخاذ تدابير خاصة ولعله لم يجد من يعلمه ذلك ولربما أسهمت العزلة في تخلفه العقلي الذي أفضى لتفاقم مأساته.

 

أول ما خطر ببالي، عندما شاهدت الظروف التي كانت تحيط بالطفل، هو ما عاناه جراء موجة البرد القاسية الأخيرة التي لم يسلم من شرها من كانوا يتقلبون في فرش وثيرة داخل بيوت محكمة الإغلاق.

 

وعندما خطى الطفل تبين أن به إعاقات بدنية منها تشنج عضلي في شقه الأيمن يتجلى في انقباض رجله وقد تكون العاهة تفاقمت بفعل القيد في خلخاله.

 

عندما استلمت الجمعية إسلمو أخذته إلى مأوى تابع لها وبدأت إجراءات إسعافه.. كانت الصعوبة الأولى هي تخليصه من قميصه الضيق الذي تبين أنه كان ملتصقا بقروح في جسده والذي لم يتيسر فصله عنه إلا بتمزيقه أما الصعوبة الثانية فكانت العناية بنظافته التي تطلبت من الجمعية اكتتاب حاضنة خاصة للاهتمام به.

 

وعند التفكير في عرضه على الأطباء للعلاج فكرت الشيخه حانة في طلب استشارة تنير لها الإجراءات القانونية التي يتعين اتخاذها ولذلك الغرض اتصلت بي ولأن وقت لقائنا كان في نهاية الدوام ومع بداية عطلة الأسبوع فقد أشرت عليها بتوثيق تصريح ذوي الطفل بالتنازل عن رعايته للجمعية على أمل الاتصال بوكيل الجمهورية يوم الاثنين لإبلاغه بالموضوع.

 

ويوم أمس الأحد اتصلت بي الشيخة حانه وأخبرتني بأنها تمكنت من عرض إسلمو على طبيب بعد أن حضر  أفراد من الشرطة الوطنية ورافقوها للمستشفى. وعطفا على ذلك أبلغت شخصيا وكيل الجمهورية بالموضوع في هذا اليوم.

 

3

فيما يتعلق بأسباب إهمال الطفل ذكرت لي الشيخة حانه أنها علمت بأن أم إسلمو نفرت منه بعيد ولادته فاحتضنته جدته العجوز التي ما لبثت أن قعدت وعجزت عن مساعدته بسبب الهرم ولذلك تفاقمت معاناته.

 

4

نظرا لصعوبة ظروف الكثير من المواطنين واختلال بعضهم وضعف إمكاناته المادية والمعنوية وتقاعس الحاضنة الاجتماعية التقليدية يتعين تشجيع عمل الجمعيات التي تنشط في الأعمال الخيرية والإنسانية التي يمكن أن تطلع بأدوار يتعذر على الدولة القيام بها لذلك أعتقد أن عمل هذه الجمعيات يشكل منجاة للأمة.

 

5

في سنة 2008 ، في حي "رك البل القديم" خرج طفل لم يبلغ عمره ثلاث سنوات في أثر أمه (التي تعاني اضطرابات نفسية حادة) فاعترضته كلاب سائبة وهاجمته وكادت تؤدي به لولا مرور سائق سيارة أجرة خلصه من الوحوش وأوصله المستشفى.. كان وضع موسى حرجا فقد نهشت الكلاب لحمه إلا أن فيه رمق حياة .. كان أخطر ما تعرض له على مستوى جمجمة رأسه التي تعرى جلدها ولم يبق إلا العظم مما يتطلب زراعة قشرة الرأس.. وبفضل حملة إعلامية خيرة تدخلت الجمعيات الخيرية ووجدت سندا في إسبانيا حيث نقل الطفل وتلقي العلاج ونجا من موت محقق.. ومنذ أقل من أسبوع قابلت موسى وقد أصبح مراهقا سوي العقل كامل البنية ولو سلم من التشوهات الشديدة في رأسه ووجهه لما تيسر تمييزه عن أمثاله.. تأكيدا لولا العناية الإلهية وجهود الخيرين لما كان موسى الآن على قيد الحياة ولذلك أتمسك بأن في العمل الخيري والإنساني منجاة للأمة.

 

6

طوبى للمشتغلين بالعمل الخيري ممن يحسنون صنعا لأنهم يكسبون أجورهم في الدنيا وينالون الثواب في الآخرة.