كان من المفترض أن تكون هذه الحلقة الأولى من خواطر السيرة النبوية إلا أن الله شاء غير ذلك بما ثار من غبار السياسية، ولم أرد أن تفوتني المشاركة ولو بأخرة.
فقد تابعت طرفا من السجال الذي أثاره تسريب وثيقة مشروع الاتفاق بين منتدى المعارضة ومندوبي أحزاب الأغلبية الرئاسية، وقد عرضت لي بعض الملاحظات:
1. من يتابع السجال الذي دار على وسائل التواصل الاجتماعي يخرج بملاحظة بارزة، وهي أن طيفا واسعا من الشارع السياسي الشبابي المعارض لا يتصف بالواقعية السياسية، وكأنه يعيش خارج سياق التجربة السياسية المحلية، أو لا يعي أدواتها بالدقة الكافية.
ومن أظهر ملامح عدم الواقعية هذا، عدم التفريق بين مطالب المجموعات الشبابية والأحزاب السياسية. إن مطالب الأحزاب السياسية في العادة هي تحسين قواعد اللعبة، أما تغيير القواعد فهو مسؤولية المجموعات الشبابية، وإلقاؤها على أحزاب سياسية يخنقها واقع الاستبداد، وتعاني الآفات الاجتماعية والاقتصادية التي يعانيها البلد عموما، عدم واقعية آخر ينضاف إلى سابقه.
من هنا تُنكب الحديث عن تطوير المسودة المعروضة، لينصب على تجريح سلوك الاتصال بالقوى الحاكمة من أساسه.
2. الحوار والتواصل هو الأصل بين الأطراف السياسية المختلفة أو المتفقة، والأصل في اللقاءات التمهيدية لأي اتفاق أن تكون بعيدا عن أعين الإعلام، لأن ذلك أضمن لها، وأوثق لتحصينها، بدل تعريضها لتعاور السهام وهي ما تزال في طور الإنضاج. ومصير الحوار الذي تسربت مسودة وثيقته واعظ ناطق بمصير "ديمقراطية الهواء الطلق" التي يريدنا رواد الفيس بوك أن نشتق طريقها بعد أن أعجزت أثينا القديمة، وانفضح بها معمر القذافي ردحا من الزمن.
3. ومن الطبيعي أن تكون في المنتدى جهات "أكثر حظا" من صناعة القرار، لأنها التي ستدفع الضريبة أمام قواعدها وجمهورها، ومؤسساتها الحزبية.
إن تساوي قوى المنتدى ومكوناته في مدة الرئاسة الدورية، وفي قيم الأصوات عند الاختلاف ليس معناه تساويها في التأثير في القرار ولا في التأثر به.
لذا من الطبيعي أن تستأثر بعض القوى ببعض التأثير في بعض القرارات، وفي صناعتها، خاصة القرار الذي يتعلق بالانتخابات.
إن الحوار السياسي بين المعارضة السياسية الراغبة في تحسين شروط العملية الانتخابية في البلد، والأغلبية الراغبة في تحسين شروط شرعيتها، ضرورة لتجاوز حالة الأزمة السياسية التي تعيشها السياسة في موريتانيا منذ عقد من الزمن تقريبا.
فمن سرب مسودة الوثيقة إذن؟ الجواب المتبادر إلى الذهن أن ثمة صاحب مصلحة في هذا التسريب، أو على الأصح أصحاب مصالح في أطراف داخل الأغلبية وفي بعض أطراف "المعارضة غير السياسية" أو تلك السياسية المرتبطة "ارتباطا فوق العادة" بـ"المعارضة غير السياسية".
المعارضة غير السياسية والمتحالفون معها ينظرون إلى استمرار الأزمة وتصاعدها على أنه فرصة أحلامها الوحيدة للتحقق، فهو الوحيد الذي يمكن أن يقود إلى التغييرات غير الدستورية، وبعض أطراف الأغلبية تنظر إلى اللقاء بين المعارضة والنظام كمهدد لوجودها مستأثرة بما تراه "امتيازات" تهددها الانتخابات القريبة من الشفافية، واتساع دائرة المشاركة السياسية. كما أن لديها عينا آخر مفتوحة على بعض شركائها في الأغلبية، ممن كانوا ينظرون لأطروحة الحوار السياسي.
ليس لدي معلومات يمكن الركون إليها، والمعطيات التي انكشفت حتى الآن من ظروف تداول مسودة الوثيقة لا تسعف في تحميل المسؤولية لطرف معين، لكن الواضح أن مصالح تلك الأطراف في الأغلبية والمعارضة التقت على إفساد مساعي الحوار بين المنتدى والنظام، فسربت الوثيقة، وساعدها رئيس حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، فأطلق في نشوة رصاصة الرحمة على المساعي، سواء كان ضمن المخططين لإفشال الاتفاق أو التقى رأيه بهم بعد التسريب.
وليس واضحا لحد الساعة رأي الرئيس محمد ولد عبد العزيز الحاسم بشأن هذا الأمر، وما إذا كان يريد حلحلة الأزمة السياسية والتفرغ لاستحقاقات ٢٠١٩ وترتيب ما بعد الخروج (مع البقاء) من السلطة، أو كان هدفه إضاعة بعض الوقت على قوى المعارضة التي تريد المشاركة في الانتخابات، بعد أن ترجح أنها ستشارك في الانتخابات النيابية والبلدية. وزالت مخاوف الرئيس من انتخابات أحادية.
أيا يكن الراجح من الاحتمالات، التي لا يمكن استبعاد أحدها عند التحليل، وبغض النظر عمن سرب الوثيقة، فإن الرد السياسي الأنسب هو اتخاذ قرار في المنتدى بالفصل بين المطالبة بالحوار والمشاركة في الانتخابات البلدية والنيابية، والمطالبة باكتتاب موظفي اللجنة المستقلة للانتخابات في مسابقة شفافة، وخوض الانتخابات على قاعدة الاستغلال الأقصى للهامش المتاح.