من الثابت في تاريخ الصحافة أن التسريبات، سواء كانت وثائق أو معلومات، أو تقارير، ظلت المصدر الأول للسبق الصحفي، وكان التسابق عليها ديدن كل وسائل الإعلام الكبرى في العالم.
وفي موريتانيا انتشرت ظاهرة التسريبات الصحفية، وأصبحت الصحافة تحتفي بها احتفاء لها الحق فيه من حيث المبدأ، نظرا لكونه نابعا من مصدر تميزها الأول، وتوثيق العلاقة بينها وبين جمهورها.
وتكتنفه مع ذلك جملة من المخاطر، قد تجعله يؤدي إلى نتائج عكسية على وسيلة الإعلام.
في هذا المقال نحاول أن نطرح بعض الأفكار عن التسريب وآليات التعامل معه صحفيا لعل ذلك يكون مساهمة في مسايرة الممارسة الإعلامية في البلد، وتطوير آلياتها. وتبسيطا للطرح نورد هذه الأفكار على شكل نقاط سريعة:
1. البحث عن السبق عبر نشر التسريبات، حق صحفي أصيل لا يمكن الجدال فيه، وما من شك في أن التسريبات كانت دائما هي مقدمة الأعمال الصحفية الناجحة، سواء تعلق الأمر بالتحقيقات الصحفية التي أدت أثرا مهما في تاريخ الصحافة العالمية المكتوبة. أو تعلق بالبرامج التلفزيونية في الوقت الحاضر.
2. حق المواطن في المعرفة حق أصيل أيضا، ويجب أن يكون دائما محط نظر الصحفي، ووسيلة الإعلام لأنه المبرر الحقيقي لوجودها.
3. لا بد من المحافظة على أدوات التحقق التقليدية من الخبر، وطرح الأسئلة العميقة بشأن التسريب، ومصلحة المسرب في انتشار المعلومات المتضمنة في الترسيب، والأضرار التي قد تنتج عن ذلك على أطراف أخرى.
وهنا يجب التذكير ببعض القواعد التأسيسية في التفكير الصحفي حول الأخبار والمعلومات؛ فنحن نعلم أن إرادة الصحفي تلتقي دائما مع إرادة المصادر، دون أن تلتقي أهدافهما بالضرورة. ويمكن التمثيل لهذا الأمر بمثال تقليدي؛ فمن المعروف أنه في حالة الكوارث الطبيعية، وحالات تفشي الأمراض فإن إرادة الصحفي تلتقي مع إرادة المسؤول الحكومي، لأن كليهما يبحث عن طريق تصل بها المعلومة إلى المواطن، وكليهما يهدف إلى تحقيق مصلحة للمواطن بتجنب خطر، ولذلك اتحد الهدف أيضا مع تلاقي الإرادة.
هذا الأمر لا ينطبق على العلاقة دائما بين مصادر الأخبار والصحفي؛ فعندما يتعلق الأمر بالأخبار السياسية والمعلومات الاقتصادية والأمنية فإن المصلحة تلتقي لكن الأهداف تختلف. يهدف السياسي والمسؤول الحكومي إلى التواصل مع المواطن عبر الصحافة لإقناع المواطن بوجهة نظر المصدر، فيما يهدف الصحفي إلى كشف الحقائق والمعطيات أمام المواطن، وذلك ما يكون عادة ضد إرادة السياسي، والمسؤول الحكومي.
وهذه الحالة الأخيرة هي التي يمكن أن تنطبق على التسريبات، لذلك فإن السؤال عن مدى تحقيق هدف الصحفي في كشف الحقائق للمواطن من خلال التسريب، يجب ألا يكون هو السؤال الوحيد الذي نطرحه، بل ينبغي أن نسأل عن الأطراف الأخرى ومصالحها والأضرار التي يمكن أن تلحق بها.
إننا في هذه الحالة لا بد أن نعود إلى قواعد المهنة الأساسية، ونستدعي الأطراف التي يتناولها الترسيب، أو يمكن أن يخلف عليها أثرا ما، للتعبير عن وجهة نظرها، وتقديم روايتها للأحداث التي يقدمها التسريب، لأننا أصبحنا أمام قضية ذات طرفين يمثل التسريب مصلحة لأحدهما، أو يقدم روايته للحدث، أو يمكن أن يكون طريقا لتحقيق مصلحته من خلال الإضرار بالطرف الآخر.
4. بناء على المحددات السابقة فإن طبيعة التسريب تكون ذات أثر أيضا في قرار النشر، فإذا كان التسريب وثيقة رسمية صادرة عن جهة معروفة، مثل تقارير التفتيش في الوزارات، والهيئات الحكومية، أو الاتفاقيات الموقعة بين أطراف مخولة، والتقارير الرسمية في أي هيئة أو منظمة، ومحاضر الاجتماعات (باستثناء تلك التي يستثنيها القانون) كل تلك تعتبر تسريبات جاهزة للنشر لحظة الحصول عليها، والتحقق من نسبتها للجهة المنسوبة إليها.
يستثنى من هذا البلدان التي فيها نزاعات مسلحة تشكك في أهلية الجهة التي تصدر عنها الوثيقة، فإن الوثائق ذات العلاقة بأطراف متعددة لا يمكن اعتبارها قرارا رسميا صالحا للبناء عليه. لأن الهيئات الحكومية في مثل هذه الحالة تكون أطرافا منخرطة في الصراع وفقا لمصلحة الجهة المسيطرة عليها، وبالتالي فهي تفقد صفتي التجرد والحيادية، اللتين تخولان أي هيئة لتكون بعيدة عن نزعات الأفراد وصراعات المجموعات.
5. وبناء على الملاحظات السابقة يمكن أن يكون التسريب خطرا على المؤسسة الصحفية لأنه يمكن أن يشكل ضربة لمصداقيتها في الوقت الذي تريد فيه أن تزيد بالتسريب من مستوى متابعتها. وهذه الحالة هي التي تعرف في عالم الصحافة بتعارض السبق والمصداقية، والقاعدة المعروفة في المهنة، ولدى المؤسسات العريقة أن "السبق ملغي كليا، إذا تعارض مع المصداقية، أو عرضها للخطر" فما لم يكن الخبر مؤكدا بما لا يرقى إليه الشك فإن الإعراض عنه حفاظا على المصداقية، أولى من التورط فيه، ثم البحث عن منقذ.
ولكن الصحافة المحترفة، وبسبب التسارع في الأحداث، وكثرة الدخلاء على المهنة، ابتكرت أساليب للتعاطي مع التسريبات والأخبار غير المؤكدة، مكنتهم من تناولها بطريقة لا تهدم حصن المصداقية، ولا تفوت انتشاء السبق. وذلك من خلال التناول في المساحات الضيقة، والبحث عن معلقين يوردون المعلومات، واختيار قوالب أقرب إلى التحليل منها إلى سوق الأخبار.
هكذا نرى أن السبق ضرورة لبقاء المقروئية في مستوى مقبول، والمصداقية ضرورية لبقاء المؤسسة الصحفية على قيد الحياة، وبعيدا عن المتابعات القضائية المستنزفة للموارد والطاقات، ومن هنا لا بد من رفع شعار: المصداقية والسبق أولا، ومعا.