اليوم يوم الصحافة العالمي، كسائر أيام الله؛ لا يميزه شيء يذكر.
الصحافة في هذه البلاد هي حقل كان له سورٌ له بابٌ ظاهره الرحمة وباطنه العذاب.
أخذ الباب يتسع وينفتح، حتى جاءت "حرية الصحافة" الصورية، فهدمت السور ومحت معالمه، ونفشت في الحقل وجعلت عاليه سافله؛ فاختلط الحابل بالنابل... وتساوى المجتهد المهني بالمتصنع الدعي، والناصح المحقق بالناعق المرتزق...
في البدء ـ بدء الدولة ـ كان على الصحافي أن تكون له مقدرة لغوية معقولة ومستوى معرفي وثقافي لكي يمارس مهنته اعتمادا على نفسه، أو بدرجة يكملها بالتعلم من أساتذته وبالمساعدة من زملائه.
كانت الكتابة تحتاج قلمًا متعلما، والإذاعة تحتاج لسانا فصيحا ولغة سليمة... وتلك كانت الحدود الدنيا التي لا تفرضها المؤسسات فقط، ولكن تفرضها النخبة المجتمعية المتلقية: خوف الفضيحة!
فكان التطفل والوساطة وحتى الشهادة العليا الجوفاء... كلها تصطدم بهذه الجدر المتينة؛ فلا يجد المتكئ على هذه الوسائل غير التواري خلف المكاتب الإدارية، أو البطالة المقنعة، أو الانسحاب إلى حرفة معاش أخرى.
وقد تبقى فئة قليلة تصمد وتصبر وتحجم وتتدرب وتتعلم حتى تصل المستوى المقبول، وربما المتفوق.
إلا أن الكسب المادي، كان دوما في المؤخرة؛ خلف الهواية الشخصية والطموح المهني، بينما أصبح اليوم عاهة خلقية ملازمة في هذه المهنة الشريفة أصلا!
*
إذا اطلعتم على ما تبقى من محفوظات الإذاعة الوطنية، وجريدة "الشعب"، والوكالة الموريتانية للصحافة، وبداية التلفزة (وهي وسائل الإعلام التي كانت موجودة) فسترون كمًّا لا بأس به من الإنتاج المتميز بالجودة والمهنية والثراء والجهد البشري والتقني، رغم قلة الموارد وضعف الوسائل حينها...
فعلى مستوى الإذاعة والتلفزيون كانت البرامج المباشرة قليلة وحذِرة بسبب صعوبتها المهنية وبسبب الخوف من الأخطاء اللغوية أو الإسفاف، بالإضافة إلى المخاوف "السياسية" المعروفة.
اليوم أقفرت هذه المؤسسات وغيرها من "الإنتاج" والإبداع، وانقطع رزق أراشيفها من أي نافع؛ بل لا تجد فيها أي مادة علمية أو بحثية جديدة أصلية...
وعكسا لما كان من جهد الإنتاج وطلب الإبداع، وجَد اليومَ المذيعون والمذيعات والمبتدئون والمبتدئات في البرامج المباشرة، "الحائط القصير" للتحايل على جهلهم ورداءة بضاعتهم، فآذوا الآذان ولوثوا الذوق العام بتفاهة اختياراتهم، وقبح برامجهم و"تحياتها الكبيرة" للمهندس والمهندسة والزبيل والزبيلة (إبدال الحروف لم يعد مشكلة)، مع سوء استغلال التقنية الحديثة في الصوت والصورة والتركيب والتمزيج والمؤثرات...
وهكذا بدلا من فترات محدودة من العطاء الجزيل الغني، أصبحت لدينا 24 ساعة من التفاهات الإذاعية والتلفزيونية الفقيرة المقززة أحيانا!
*
ثم جاءت طفرة المواقع الإلكترونية لتعطي لحرية الصحافة عندنا بُعدها الوحيد وحرفتها المطلقة، وهي التسول والارتزاق والتملق والنفاق والابتذال والكذب... وصارت لدينا مؤسسات إعلامية وهمية تتألف من شخص واحد، مجهول الحال، لا يتقن غير التسول الأجرب!!
باختصار: لم تعد هناك صحافة... وإنما دكاكين للرذيلة الإعلامية، تؤذي المجتمع وتشده إلى الحضيض وتلوث ذائقته وتزيف وعيه!
أما ثالثة الأثافي فهي الشابكة (الانترنت) وما أتاحته من وسائل آنية وإنتاج غزير... فامتشق صحفيونا الجدد رفوشهم ومناجلهم، وأخذوا يحصدون ما يزرع الآخرون؛ في عمليات سرقة وسطو بلا حدود في وضح النهار... وأصبحت برامجهم القليلة ذات الطابع "الإنتاجي"؛ بل حتى مقدمات برامجهم المباشرة... مأخوذة بحذافيرها من المواقع والصفحات الخاصة والعامة على الشبكة، بدون أي إشارة لها أو لأصحابها!
وهكذا اجتمعت الرذائل المادية والمعنوية لتشكل أساس الممارسة الصحفية الحالية، إلا من رحم ربك.
*
ولعل أشد من تأذى ويتأذى من هذا الوضع العام، الذي يجد من يستغله ويغذيه، هم أولئك الصحفيون والإعلاميون المهنيون القلائل الذين ميزهم عطاؤهم وحفر أسماءهم في الصحافة المهنية؛ سواء صمدوا وصابروا في هذا الحقل الموبوء نفسه، أو عيل صبرهم وغادروه لا يلوون على شيء!
*
أخيرا فإن لهذه الميوعة والفساد في الحقل الإعلامي علاقة قوية بنمط وحقيقة "حرية الصحافة" التي تبدو ظاهرة على الواجهة الرسمية، بينما هي في الواقع حرية صورية فارغة، قائمة على أساس قاعدة "قولوا ما شئتم ونحن نفعل ما نشاء"!
وما لم تكن الصحافة عاكسة للرأي العام، نزولا وصعودا، مؤثرة في تسيير وإدارة الشأن العام، نافذة إلى مصادر المعلومات، تتمتع بالحماية القانونية التامة... فلا قيمة ولا معنى لحريتها!
بل إن هذا الاحتقار والاستخفاف بالصحافة المتجذر لدى السلطة العمومية والقوى السياسية، يساهم في زيادة التمييع، وحرمان الإعلام من أي تأثير؛ بل ومن المصداقية؛ إذ طالما أن ما ينشر لا صدى له، فإن لكل من شاء أن يكتب ويكذب ويقذف ويختلق... كيف شاء بدون تحفظ ولا وازع!!