تعود مع كل انتخابات النقاشات والاتهامات بشأن التعامل مع "الدولة العميقة" أو نظام الحكم، ويصور الأمر في الشارع السياسي على أنه من صنوف الخيانة، والغدر والخديعة والتلون، إلى غيرها من مفردات معجم لا ينتمي لحقل الحياة السياسية الصحية.
لي رؤية "واقعية جدا" تجاه مؤسسات الدولة والتعامل معها، وأفرق أحيانا بينها وبين النظام السياسي القائم، إلا أني أزعم أنه آن الأوان لنتخلص من عقدة "التعامل مع الدولة" التي منشؤها بالدرجة الأولى المزايدة السياسية، والتخوف الموهوم من فقد الشعبية، والانسياق وراء رومانسيات التغيير الجذري، و"طهورية" الخطاب المعارض، وتحليقه.
وسأنشر هنا حلقتين تعتمدان على أطروحة بسيطة مفادها أن في البلد كتلتين، إحداهما في المجتمع والأخرى في الدولة. والموضوع مفصلا سيجد طريقه إلى النشر في منبر آخر قريبا.
إذا نظرنا إلى المشهد العام في موريتانيا فسنجد أن الدولة ممثلة في مؤسساتها العسكرية والأمنية، والمالية كتلة واحدة، لا تقابلها في المجتمع كتلة مقاربة من حيث القوة، وإنما تقابلها مجموعة كتل لديها بعض أسلحة الدولة، خاصة المصنفة ضمن "القوى الناعمة".
ومن أهم الكتل، وأوضحها معالمَ الكتلة الإسلامية؛ فالتيار الإسلامي، بالمعني الأوسع من العنوان الحزبي الذي يمثله حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية (تواصل) يشكل كتلة صلبة في المجتمع الموريتاني، تمتلك مجموعة من أدوات التأثير، ولديها رأس مال رمزي، أهمه المصداقية في المجتمع، وأًسُّه التصالح مع الهوية الإسلامية الراسخة للجمهور العام. وانعدام أي نوع من أنواع الثأر مع فئات المجتمع ومكوناته.
إن العلاقة بين هاتين الكتلتين يجب أن تكون محل نظر دائم من العقلاء فيهما، وخارجهما، ذلك أن استمرار الكيان مربوط بعلاقة منضبطة بين كتله الرئيسة، وأهمها الكتلتان المركزيتان، في المجتمع والدولة.
انضباط العلاقة يعني بدرجة أولى خضوعها لمواضعات علمية وعقلانية مبدئية، ومصلحية، تأخذ في الاعتبار المبادئ الحاكمة للكيان الذي يتعايشان فيه، وأولها مبدأ استمرار الوجود. ثم مبدأ استمرار التقدم في مسار البناء المعنوي والمادي، بغض النظر عن البطء أو الاعوجاج، أو تعرج المسارات. ثم مبدأ التعايش.
على الإسلاميين القبول بنخب المؤسسات الصلبة، ومن أساسيات هذا القبول؛ الاعتراف بواقع الدولة الوطنية، ودور المؤسسات الصلبة في حفظ كيانها، وتفهم دوافع بعض أفراد هذه المؤسسات ونخبها في استمرار السيطرة على مفاصل القرار السياسي والتنموي. والاعتراف أيضا بأن هذه الدوافع ليست شرا كلها،وأنها مشروعة من حيث هي فطرة إنسانية، وتحتاج إلى تكييف مع أطر القانون والدستور، وقواعد بناء الدول والأنظمة السياسية الحديثة.
إن هذه "المشروعية الفطرية" تتضافر في نفوس أبناء هذه المؤسسات ونخبها مع تكوين على أنماط من التفكير مغاير لنمط التفكير المدني، المؤسسي، يعلي من شأن هذه المؤسسة، ويؤطر أفرادها على أن أهميتها المطلقة لا يمكن أن تخضع لقانون النسبية، ولا أن تكون محلا لمساومات مع "مدنيين" تشكك في أهليتها للحكم.
وهذا ما يسهل على الطامحين من قيادات هذه المؤسسات ونخبها تسويق ليِّ أعناق الدساتير، وإلغائها جملة، دون نكير من سائر أبناء المؤسسة ومنتسبيها نتيجة التربية غير الجمهورية، والثقافة التي هي أعمق من مناهج التربية والتعليم.
هذا الاعتراف أو التفهم (أو كلاهما) لا يقتضي أي نوع من التسليم لهذه المطامح، ولا السكوت عن فرض الانحراف على أدوار المؤسسات الصلبة في الدولة، بل فهماً وواقعية في التعاطي مع المشكل، ومرونة في آليات تغييره، وسعة أفق، ونفسا إستراتيجيا في تقدير المدى الزمني المنتظر الوصول إلى نتائج ذات بال فيه.
ليس من السهل انتزاع السلطان من مؤسسات، ونخب استفردت به منذ عقود، وامتلكت من أدوات التأثير ما لا يملكه غيرها، واستمرار قوتها وتماسكها ضرورة لاستمرار الكيان نفسه.
إن الفكرة التي يجب ألا تغيب عن الأذهان هي أن استمرار أي بلد، واستقلاله، بحاجة إلى مؤسسات صلبة محترفة، وقوية، وذات نفوذ.
لا نغفل عن أن استمرار قوتها وتماسكها بحاجة إلى ابتعادها عن مواطن الصراع والخلاف، وانتقالها إلى "حالة إجماعية شبه مقدسة"، وإنما يجب التذكر دائما أن الصورة النموذجية، أو المقبولة لإزاحتها إلى هذا المربع تحتاج وعيا داخل نخبها الحاكمة، وعملا دؤوبا لتجريدها من المطامح، وهو أمر ليس بالسهل، ولا القريب متناولا.
طبعا، لا بد من التأكيد على رفض أي نوع من السعي نحو إضعاف المؤسسة بغية انتزاع ما بيدها، أو بيد نخبها، بحجة ضرورة تفكيك القائم لإحلال بناءٍ جديد محله. إن هذا غباء إستراتيجي ووطني يحول هذه المؤسسات إلى أسد جريح ملوث بالأمراض، يشكل خطرا على الصحة العامة، علاوة على استِقْتَالِه على ما تحت يده، وسهولة التلاعب فيها من أي طامح، أو طامع.
إن تراكم الوعي داخل النخب المدنية، والعسكرية، وداخل نخب المؤسسات الصلبة هو الذي سيؤدي إلى نتيجة محمودة ولا مناص من انتظاره.
سأتناول في حلقة قادمة بإن الله، مطالب الإسلاميين من نخب الدولة الوطنية.
عمود "قليل من كثير" للكاتب في صحيفة الأخبار إنفو الأسبوعية