الأخبار (كومبي صالح/ الحوض الشرقي) ـ سهلٌ منبسط على مدّ البصر، تحيط به كثبان رملية مائلة إلى الحُمرة، يدفعك الفضول وأنت تجول بين أرجائه فتتساءل عن ما يشبه كُثيّبًا داكن اللون يتوسطه محدثا شرخًا في تناسق ألوان المكان.. يفصِح لك الكثيّب كلما اقتربت منه عن ركام قطعٍ صغيرة من الحجارة.
تبدو قطع الحجارة متناسقة في أشكالها وأحجامها وألوانها، متجاورة كأنها تستأنس ببعضها وهي تعيش الغربة بين الرمال والسهول.. غربة تدفعها إلى البوح لكل غريب يلاعبها بما تخفي من معالم مدينة أفَل نجمها فهُجرت ثم تساقطت سقوفها وأعالي جدُرها وهي تحمي قواعد ظلت شاهدة على عمرانها ذات قرون سالفة.
تقول الرّوايات الشفوية التي تعززّها المصادر التاريخية وتشهد لها حفريات أجريت ابتداء من مطلع القرن العشرين أن الكثيّب الغريب يعود إلى أطلال العاصمة الثانية لإمبراطورية غانا: مدينة كومبي صالح، الواقعة على بعد 65 كلم جنوب مدينة تنبدغه بولاية الحوض الشرقي، وقد استُجلبت لبنائها الحجارة الجبلية من نواحي شتّى.
كنوزٌ من التاريخ
يوضح الحَسِين ولد ابّاه وهو باحث في تاريخ المدينة الأثرية، في حديث للأخبار، أن إمبراطورية غانا اتخذت من مدينة كومبي جفي عاصمة لها طيلة سبعة قرون، قبل أن يرث الشريف بن صالح الحكم فينتقل إلى العاصمة الثانية كومبي صالح على بُعد 17 كلم من العاصمة الأولى، وتظهر الحفريات بقايا من جدُر مسجد وقصر متجاورين كانا يتوسّطان كومبي صالح، تحيط بهما دور مطمورة تحت الحجارة، من خلف كل ذلك بقايا سورٍ يضم أبراج مراقبة وتتوزع في أنحاء منه مقابر تحيط ببعضها عدة أسوار.
وبالرغم من الروايات التي يتداولها سكان المنطقة عن كومبي صالح وما سطرته كتب عديدة حول تاريخها، فقد كان عالم الآثار الفرنسي بونيير دي ميزير أول من قدم اكتشافًا مدعّمًا لعاصمة الإمبراطورية التي حكمت خلال قرون طويلة أجزاء واسعة من الأراضي الخاضعة حاليا لجمهوريتي موريتانيا ومالي بعد حفريات أجراها عام 1913، ثم تلاه باحثون وعلماء آثار قدّموا دراسات واكتشافات أشمل عن المدينة وتاريخها.
ومكّنت الحفريات التي أجريت بالموقع الأثري للمدينة من تحديد مخطط ومعالم تتفق مع ما تنقله كتب التاريخ عن كومبي صالح، فضلا عن العثور على الكثير من القطع التراثية التي تروي فصولًا من تاريخ غانا، بينما يقول السكان إن حكايات الأجداد تؤكد اكتشافهم لبعض الذهب على أنقاض عاصمة الإمبراطورية التي اشتهر ملكها مانسا موسى بـ "حجّة الذهب" عام 1324م 725هـ حيث اصطحب معه الجمال تحمل القناطير إلى الديار المقدسة، بحسب ما تنقل كتب التاريخ.
وبينما تم إيداع قطع تراثية مكتشفة بموقع المدينة الأثرية في المتحف الوطني بالعاصمة نواكشوط وأخرى بالمتحف التابع للمنظمة غير الحكومية "جمعية الحفاظ على مدينة كومبي صالح"، يؤكد للأخبار محفوظ ولد سيدي محمود وهو رجل مسنّ من سكان المنطقة المهتمين بتاريخها كان شاهدًا على حقبة الحفريات أن علماء آثار فرنسيّين اصطحبوا معهم بعض هذه القطع الأثرية إلى بلدانهم.
شواهد الإهمال والعزلة
أسلاك حديد وأعمدة ملقًاة أرضًا تلفتك إلى ما تبقى من سياج نُصب قبل مدة ليحيط بالموقع الأثري لمدينة كومبي صالح، فما صمدَ منه غير الباب بوتديه الإسمنتيّين، ولا أثر لحارسٍ في المكان.. وفي السفح على بعد مئات أمتار تقع قرية تحمل اسم المدينة المندثرة بينما يطلق عليها الأهالي اسم "الصّحْبي"/ الصحابي في إشارة إلى علاقة نسب تربط قدماء السّكان بأحد الصحابة كما يرى الباحث الحَسِين ولد اباه. ينبئُك حال سكان القرية وضعف الخدمات العامة بها أن عهد ملك الذهب قد ولّى منذ أمد بعيد، وأن الفقر استفرد برعيّته.
الطريق الرملية الوعرة هي منفذك الوحيد إلى عاصمة بلدية كومبي صالح التابعة لمركز بوصطيلة الإداري المحاذي للحدود مع جمهورية مالي، فلا طريق مسفلت يوصل إليها، مثَلها مثلُ كل المدن الأثرية في موريتانيا باستثناء آزوكي عاصمة دولة المرابطين التي تبعد بضع كيلومترات من مدينة أطار في ولاية آدرار حيث تم ربطها قبل سنوات بطريق مسفلت.
كان الرئيس المختار ولد داداه الوحيدَ من بين رؤساء موريتانيا الذين زاروا مدينة كومبي صالح خلال العقود التي تلت استقلال البلاد عام 1960، ويتحدث عمدة البلدية حامد ولد خي للأخبار، بحرقة، عن توقف زيارات الرؤساء للمدينة وما يسميه "إهمالًا، وعدم أولوية" تتعرض له، وهو ما يعبّر عنه العمدة السابق للبلدية الشيخ ولد المامي بالقول إن كومبي صالح تحظى بأهمية أكبر لدى غير الموريتانيّين.
يصف محفوظ ولد سيدي محمود وهو أحد المسنّين المهتمين بتاريخ كومبي صالح سكانَ القرية بأنهم يمثلون أمّة جادة في الحفاظ على تراثها من الاندثار، ويشير إلى أن نقص مياه الشرب وخدمات الصحة والتعليم ووعورة الطريق بما يصاحبها من غلاء أسعار النقل والمواد الغذائية يدفع بهؤلاء السكان إلى الهجرة نحو المدن القريبة، مستدركًا أن السّكان لمسوا لفتةً إيجابية من نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز الحاكم.
أمل معلّق بالمهرجان
يرغب سكان كومبي صالح في إحياء تراث المدينة الأثرية المندثرة عبر خطوات فعّالة تتخذها السلطات الحكومية، ويأملون في انتعاش السياحة؛ فحركية اقتصادية خلال مواسم متقطعة شهدوها قبل سنوات وعقود مضت أوقدت لديهم جذوة أمل، إلا أن مقتل سياح فرنسيّين بألاك عام 2007 أدى إلى تراجع الزيارات التي كان السياح والباحثون يؤدّونها إلى المدينة الأثرية، يشير عمدة البلدية حامد ولد خي.
وإثرَ ترسيم كومبي صالح كواحدة من وجْهات دعوات الشرف لحضور نسخ مهرجان المدن القديمة، يبدي ولد خي شيئًا من الثقة يتعزز، كما يقول للأخبار، بتلقّي كثيرٍ من الوعود بتلبية مطلبه في تحويل كومبي صالح إلى مقاطعة وإدراجها ضمن القائمة التي تحتضن المهرجان إلى جانب أخواتها الأربع: شنقيط ووادان وتيشيت وولاته، فكومبي صالح أقدم من بعض هذه المدن، يقول العمدة.
العمدة السابق الشيخ ولد المامي يرى أن حماية آثار كومبي صالح و إبراز البعد والقيمة التاريخية للمدينة الأثرية بات ضرورة أكثر من ذي قبل لمواجهة عوامل عديدة تهدّد بطمس ما تبقى من معالمها. لكن ولد المامي يؤكد أن إقامة منشآت خدمية تشجع على تثبيت السكان بالمنطقة شرطٌ لا غنى عنه وهو ما يتطلب لفتةً رسمية جادّة يعُد مهرجانَ المدن مدخلها الأول.
تضع وزارة الثقافة ضمن معايير احتضان مهرجان المدن القديمة تصنيفَ منظمة اليونسكو للمدينة التاريخية ضمن قائمة مواقع التراث العالمي، وفي حديثه للأخبار يرجع الباحث ورئيس جمعية الحفاظ على مدينة كومبي صالح الحَسِين ولد ابّاه تعثّر ملف تصنيف المدينة إلى تكليف ضعيفي الخبرة والحسّ الثقافي والتاريخي بمتابعته.