قبل أيام وقعت عيناي على ملصق تعريفي بالقارة السمراء يركز فقط على النواحي الشكلية كأعلام دول القارة و صور الرؤساء الدول الحاكمين أثناء صدور الملصق، و المفارقة التي شدت انتباهي في الملصق هو اختيار الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز إلي جنب الرئيس الغامبي السابق يحي جامي رغم أن بداية الأحرف الأبجدية للرجلين و البلدين التي تعتمد غالبا في الترتيب تجعل عزيز بعيدا عن جامي في الملصق.
ومع أنني متأكد أن معدي الملصق لم يقصدوا ترتيب الرجلين انطلاقا من خلفية ما، و إنما هي رمية من غير رام، إلا أن جولة ذهنية في فترة حكم جامي دفعتني للتوقف عند صفات و سلوكيات كان يتمتع بها جامي ،أردت إبرازها للقارئ ليكتشف الفروق و المشتركات بين الرجلين.
تولي جامي السلطة في غامبيا بعد انقلاب قاده سنة 1994 ضد داود جاورا أول رئيس مدني، و هو ساعتها ضابط مغمور لم يكن يمتلك من مؤهلات القيادة سوي التهور و شهوة السلطة، فجامي كان الأقل كفاءة عسكرية و علمية من بين قائمة صغار الضباط الذين قادوا معه الانقلاب.
كان جامي يدير البلاد بمزاجية مفرطة و بسلطة مطلقة ، فكل شيء ممركز بيد الرجل الذي لم يكن يري جدوى و لا أهمية في التخطيط و الدراسات و يظن أن السلطة يمكن أن تدار بالارتجال و العنتريات. قد يطرد جامي سفير دولة عظمي أو صغري أو متوسطة دون سبب، كما قد يقطع علاقاته الدبلوماسية ببعض الدول الصديقة أو الشقيقة دون مقدمات، و قد حصلت نماذج كثيرة من هذا النوع أثناء فترة حكم الرجل التي امتدت لحوالي 23 سنة.
.
أما عن حب الرجل للمال فحدث و لا حرج، فتح جامي المخابز و الدكاكين و محلات بيع قطع الغيار و كان بعضها يحمل اسم "كانلاي" مسقط رأسه و أنشا شركات خاصة به و كان مساهما في عدة بنوك ، و اهتم بمجال العقار و كان يباشر هو نفسه اختيار موقع عقاراته و قطعه الأرضية .
نافس جامي مواطنيه في أرزاقهم فكان تاجرا و مزارعا و مالك مصانع ، و من القصص المضحكة المبكية المتداولة عن جشع جامي أن ثريا من أثرياء البلاد كان يمتلك سيارة فارهة، علم جامي بالأمر فطلب من الثري بيعها له إلا أن الرجلين اختلافا حول سعر السيارة، فما كان من جامي إلا أن هدد الرجل بمصادرتها إن سمع أنها تجوب شوارع بانجول.
صنع جامي طبقة جديدة من رجال الأعمال غالبيتهم من المقربين من محيطه الاجتماعي، من أشهرهم ابن خالته الشاب "با بوجان" الذي تحول من شاب فقير عديم التجربة و الأهلية العلمية إلي مدير عام لمجموعة "كانلاي" الدولية للتجارة المملوكة من طرف الرئيس جامي، ظل "بوجان" أحد أهم الواجهات المالية لجامي قبل أن يتجول في السنيتين الأخيرتين من حكم جامي إلي أحد معارضيه في الخارج و ذلك بعد أن هرب بأموال الشركة إلي الخارج.
أعلنت حكومة البلاد قبل أشهر مصادرة و تجميد جزء من ثروة جامي يتمثل في 180 عقار و قطعة أرضية و 96 حساب بنكي و 17 شركة و مؤسسة تجارية و صناعية، و قبل أيام قررت الحكومة بيع أسطول من الطائرات و السيارات الخاصة بالرجل يتكون من 3 طائرات و عشرات السيارات الفارهة بلغت كلفة اغتنائها حوالي 100 مليون دولار أي ما يمثل ثلث ميزانية البلاد.
و حسب مؤشر الفساد لعام 2014، الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية ،جاءت غامبيا في الترتيب بعد موريتانيا مباشرة، و ظل ترتيب البلدين متقاربا جدا في مؤشري 2015 و 2016.
و عهد جامي كانت كتيبة الحرس الرئاسي التي يعرف أفرادها ب"جونكيلارز" أقرب الكتائب العسكرية إلي قلب الرجل و كانت تضم في صفوفها ثقاته من بني عشيرته "جولا"، و قد منحها الرجل امتيازات تفضيلية على باقي ألوية الجيش و أطلق لأفرادها اليد الطولي في كل شيء.
علاقة جامي بموظفيه لم تكن قائمة على الاحترام المتبادل و الثقة، فقد كان جامي يقيل الوزراء و المسؤولين و الضباط في ظروف مفاجئة و يسجن البعض منهم بمبررات غير مستساغة و لا منطقية، و قد تعرض جميع أعوانه لأذاه و غطرسته فالرجل لم يكن يحترم أحدا و لم يكن يثق في أحد
و كانت منطقة فوني و بلدة "كانيلاي" أحب البقاع لجامي، فقد حرص الرجل على إيثار هذه المناطق المحسوبة على أهله و أبناء قوميته من "جولا" بأهم الخدمات كالمياه الصالحة للشرب و الكهرباء و التعليم و الصحة، ف"كنيلاي" مسقط رأس الرجل كانت المنطقة الوحيدة بالبلاد التي تتمتع بمجانية الكهرباء و الماء.